تبدي المرأة العربية اهتمامًا في إحياء فنون التراث النسائي القديم بلمسات عصرية حديثة ومبتكرة، من خلال المشغولات الحرفية اليدوية خاصة، في سعيها الدائم لإبراز جمال الأشياء والأدوات والمظهر وأثاث المنازل، ولإثبات الهوية العربية الأصيلة من جانب آخر.
المكرميات، أو ما يعرَف بـ”فن العقد”، واحدة من أبرز تلك المشغولات التي بدأت تشقّ طريقها نحو تفضيلات الشابات والسيدات، لاقتناء قطع منها أو تبنّيها كمهنة أو حرفة خاصة بهنّ، وتعدّ من الفنون العالمية التي تستخدَم فيها الألياف أو الخيوط النباتية لإضفاء طابع الجمالية، كما تستخدم الحبال القطنية أو الخرز أو الكريستال أو سعف النخل والبلاستيك في تنفيذ أعمال فنية، لا يحتاج صانعها أو صانعتها إلى أية أدوات للحياكة مثل الصنارة وأسياخ الغزل، على خلاف أشكال النسيج اليدوية الأخرى، فاعتمادها الأساسي يتكوّن من خلال تشكيل عدد من الحبال المتماسكة بطريقة متينة ومربوطة بالعقد.
ويُقال إن فن العقد المعروف بالمكرميات يمتدّ أصوله إلى القرن الـ 13 للنسّاجين العرب، حيث عَقَدَ هؤلاء الحرفيون المهرة الخيوط الزائدة على طول حواف الأنسجة المصنوعة بالأنوال، لتشكيل أهداب على مناشف الحمّام والشالات والأحجبة.
وتولدت هذه الأشغال والحرفة عندما احتاج الإنسان أن يوصل أو يجمع بين حبلَين بقوة وثبات، فظهرت العقدة المربعة والعقدة النصفية، واُستعملت هذه العقد عندما استخدمها البحارة في صنع شباك الصيد، واُستخدمت العقد أيضًا كجبائر للكسور، كما اُستخدم العقد في الحبال لتساعد في معرفة الحسابات والمعلومات.
في فلسطين على وجه الخصوص، لوحظ قبل سنوات قليلة إقبال فلسطينيات الأردن على إحياء هذا الفن بأسلوب عصري، بفضل انفتاحهن على العالم عبر منصات التواصل الاجتماعي، وظهور مراكز التدريب الفنية الخاص بتعليم فن العقدة.
مكرميات بأنامل فلسطينية
في قرية حرفيش بمدينة صفد، تعيش السيدة مشيرة فارس (34 عامًا)، والتي أخذت من فن المكرميات مهنة تضع فيها كل طاقتها ووقتها وشغفها في تطوير هذا الفن القديم من التراث، وأن تجعله فنًّا ملائمًا للزمن العصري الذي نعيشه، حتى وصلت به إلى العالمية.
تستذكر المصمّمة فارس لـ”نون بوست” كيف بدأ عملها في مجال المكرميات قبل 6 سنوات، وانتقل من مجرد هواية لجأت إليها لعدم مقدرتها على إكمال تعليمها وحبّها لكل ما هو مرتبط بالماضي، إلى مهنة تربطها بها علاقة وطيدة.
تقول: “لم أحتَج إلى الكثير من المواد لأجرّب هذا الفن، كل ما يلزم خيطان ومقص ومتر وعود خشب، ومن هنا انطلقتُ وصنعت أول قطعة من المكرميات كانت عبارة عن علّاقة للملابس، أول علّاقة مكرمية من بعد عدة محاولات في إتقان فن العقد، واجهت صعوبات في التعلم لوحدي عن طريق قنوات يوتيوب، لكني لم أيأس، حاولت حتى تمكنت من فعلها، لا أعرف حقًّا سبب تعلقي بهذا الفن، لكن هناك علاقة وطيدة بين الخيطان ويدَي، عشقت هذا الفن الذي أمارسه من دون ماكينة”.
مشاركة عالمية
تقوم مشيرة بإنتاج أعمالها الرائعة من البيت، حيث تساعد بذلك في توفير دخل لأسرتها، وتساهم كذلك في إعادة تصنيع ما ورثته النسوة من تقنيات الخياطة والحياكة والتطريز، التي صُنعت يدويًّا بأيادي أسلافها من الأمهات والجدات.
في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت المكرمية إحدى الأساسيات في المنازل، لكن اندثرت لفترة طويلة ثم عادت بأحدث الصيحات والأشكال، كما أصبحت الخيوط أكثر جودة ونعومة، وهناك أشكال وألوان عديدة، كما أصبح هناك مقاسات وأحجام مختلفة للخيط تمكّن من عمل أشياء مختلفة وديكورات متنوعة.
منحها عالم المكرميات الواسع والمتعدد مجالاً فضفاضًا في ابتكار القطع المختلفة والعصرية ودمجها بالتراث الفلسطيني القديم، كما أهّلها للمشاركة بمعارض عالمية كان آخرها عرض أزياء عالمي عُقد في دبي، قدمت من خلاله مجموعة من تصاميم المكرمية، مثل ستائر وحقائب وجداريات زينة ومفارش الطاولات.
وتنفرد الفلسطينية فارس في تصميم الفساتين النسائية بطريقة المكرميات، حيث اختارت لهذه المجموعة اسم “العقدة”، للإشارة إلى ما أسمته “العقد النفسية” التي تحيط بالنساء العربيات والفلسطينيات على نحو خاص.
ولأن صناعة “المكرميات” لم تكن معروفة في قطاع غزة، فقد قادت الصدفة مصممة الديكور سمر الغول ابنة الـ 36 عامًا، والحاصلة على شهادة الماجستير في مجال التصميم الداخلي والديكور، للتعرف على هذا الفن أثناء زيارتها للمعارض الفنية المقامة في مصر حين جذبتها قطع من الخيوط المعقدة والمتداخلة ببعضها البعض في صورة فنية مبهرة
بعد البحث، تعرّفت إلى أن المكرميات تراث عربي بدوي أصيل، يولي الغرب به اهتمامًا أكثر من العرب، ما أشعل نار العروبة بداخلها بعدما لاحظت الاهتمام الغربي الكبير بمثل هذا الفن وغيره على عكس أصحابه، فقررت تعلمه لتصبح منتجة لهذا الفن العريق لا مستهلكة فقط.
تقول لـ”نون بوست”: “حينما عرفت أن المكرمية فن ذو جذور عربية واهتمام غربي، قررت تعلمه بنفسي من خلال الصفحات الأجنبية وقنوات يوتيوب، وبالوقت نفسه نشره من خلال عملي الأكاديمي بإحدى الجامعات الفلسطينية بغزة، فكرة العطاء والتعليم جزء من اهتماماتي، بالفعل بدأت تعلمه رغم عدم توافر الخامات المطلوبة”.
وواجهت الغول في البداية صعوبة في توفر الأدوات اللازمة لصناعة المكرميات في غزة، من خيوط وحلقات خشبية، فحاولت استخدام الأنسب من المتاح، واستبدلت المصمّمة الخيوط المطلوبة بخيوط الغسيل، فكانت البداية صعبة لصلابة نوعية الخيوط البديلة وخشونتها، واستمرت بتطوير خبرتها ومنتجاتها، وأصبح لديها فائض كبير من المنتجات، لذلك قررت إهداء قطع منها من باب المحبة والتعريف بهذا الفن القديم.
فن يدوي قديم
عبر المكان الذي أسمته سمر “استوديو حرفة”، قررت إحياء هذا الفن بين نساء غزة، بعدما نجحت في جذبهن من خلال ما أنتجته من تصاميم مختلفة وجذابة.
تقول سمر الغول: “النشاط زاد في عام 2021، صار هناك إقبال عليه، الناس أصبحت ترغب في التعلم، فلم يعد لدي متّسع في البيت، الناس تريد منتجات ولم أستطع لوحدي الإنتاج، خاصة أنني أعمل في الديكور والتدريس”.
وأضافت: “وقتها قررت أن أخرج من البيت وأذهب إلى مكان قريب من الناس وسط المدينة، لأفتتح محلًّا واسعًا لأعلّم وأستقطب آخرين ليعلموا معي، وأنتج وأستقطب آخرين لينتجوا معي، ولأن الأيدي المنشغلة تبقي العقل هادئًا، وجدَت العديد من الفتيات والأمهات في غزة فرصة ثمينة في تعلم هذا الفن، الذي يعتمد يدويًّا على نظم الخيوط وحبك العقد لتشكيل مكرميات متنوعة، تتّسم بالرقة والبساطة والمظهر الجمالي”.
وتكمل: “كما أن أزمة كوفيد-19 فتحت فسحة سمحت لهذا الفن بالتنفس من جديد، بعد أن أولى الناس اهتمامًا كبيرًا بالفنون والأشغال مثل الديكورات والحرف الفنية، وخلق لديهم حبَّ الاطّلاع ودراسة المهن الفنية التي تتميز بالبساطة والسهولة أثناء تواجدهم بالمنزل، ليصبحوا منتجي وصانعي فن”.
وتقول: “مثلما يمنحنا الطعام الصحة والعافية، تمنح المكرمية أرواحنا الصحة والعافية، عافية نفسية وروحية وعقلية لاحظتُ أثرها على نفسي أيام الحروب المتعاقبة على غزة، وحاجتنا للتفريغ النفسي من الضغوط، فشغلت نفسي بالمكرميات خلال الأزمات، ما يعطيني طاقة للصبر والقوة وسرعة التعافي”.
مضيفةً: “من هنا جاءتني فكرة نقل هذا الفن إلى النساء الغزيات ممّن يعانين مثلي من ظروف معيشية صعبة بالقطاع المحاصر، أما من الجانب الابتكاري فالمكرميات تعطينا مساحة كبيرة للإبداع والابتكار، وإمكانية دمجها مع تراث أو ألوان أخرى من الفنون، مثلما صنعنا علم فلسطين”.
الاحتلال عائق أساسي
تنقل النساء من خلال فن صناعة المكرميات وأشكاله المتنوعة حكايتهن وآلامهن وطموحاتهن، وحتى مناسباتهن والذكريات، كما يرينَ به جانبًا للهروب من ضغوط الحياة واستثمار يحققن من خلاله دخلًا ماديًّا خاصًّا بهن. في المقابل، يولي الكثيرون حرصًا على شراء المكرميات كقطعة ديكور أنيقة لتزيين المنازل والمناسبات الخاصة، وتفضيل المشغولات اليدوية البسيطة المريحة والجذابة للعين.
يشكّل الاحتلال الإسرائيلي عائقًا كبيرًا أمام مشاريع النساء الفلسطينيات في كافة مناحي الحياة، تبدأ بمنع إدخال المواد الخام، وإعاقة عمليات التصدير إلى الخارج، وتضييق محاولاتهن من تطوير قدراتهن عن طريق المشاركة بالمعارض العالمية.
حيث كان أبرز ما واجهته سمر في غزة عدم توفر المواد الخام من الخيوط والأدوات اللازمة والأساسية في صناعة المكرميات، بفعل الحصار المفروض على قطاع غزة لأكثر من 17 عامًا، واضطرت إلى السفر إلى تركيا عبر معبر رفح البري عام 2020 لشراء كل ما يلزمها من مواد.
من جانب آخر، كانت تجربتها في تصدير المنتجات تمرُّ بمراحل معقدة، تشرح: “الفلسطينيون في الخارج حينما وصلهم مشغولاتنا زادت طلباتهم لبعض القطع الوطنية بلمسات تراثية، ورغم تمكُّني من تصدير بعض المنتجات إلى الأردن والإمارات ونابلس وأمريكا، إلا أن مشكلات الشحن تكمن في دفع 3 أضعاف القطعة، فكان الأمر مجهدًا نفسيًّا من جهتي ومجهدًا ماديًّا على الطرف المشتري”.
تختلف تجربة التصدير قليلًا لدى مشيرة، نظرًا إلى أنها تعيش في الداخل الفلسطيني، فهي تواجه معضلة كبيرة في تسويق قطعها الفنية خارج فلسطين، لأنها ترفض أن تصدّر علامتها التجارية أو منتجاتها باللغة العبرية أو على أنها “صُنعت في إسرائيل”، لذا تحاول البحث عن بدائل للتسويق من خلال مناطق السلطة الفلسطينية والأردن، رغم أن هذا الخيار يرفع الكلفة المادية للتصدير بشكل كبير.