صوّتت الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة، في 29 يونيو/ حزيران الفائت، على قرار إنشاء مؤسسة تكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسريًّا وأماكن وجودهم في سوريا، وتقدم كذلك الدعم الكافي للضحايا والناجين وأسر المفقودين.
جاء في التقرير الصادر عن الجمعية، والذي حظيَ بتأييد 83 دولة، مقابل 11 دولة ضده، وامتناع 62 دولة عن التصويت، “أن الجمعية وافقت على إنشاء مؤسسة دولية جديدة للكشف عن مصير نحو 100 ألف شخص مفقودين أو مختفين قسريًّا في سوريا”.
في المقابل، نصَّ مشروع القرار الذي وصفته لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا بـ”التاريخي“، على عدة بنود، تضمّنت:
– إنشاء المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية تحت رعاية الأمم المتحدة، لتوضيح مصير جميع المفقودين وأماكن وجودهم، وتقديم الدعم الكافي للضحايا والناجين وأسر المفقودين، بالتعاون الوثيق والتكامل مع جميع الجهات الفاعلة المعنية.
– تقديم حلول تعالج أزمة المفقودين في الجمهورية العربية السورية، وضمان حق الأسر في معرفة مصير أقاربها المفقودين وأماكن وجودهم.
– أن يكون للمؤسسة المستقلة عنصر هيكلي يضمن مشاركة الضحايا والناجين وأسر المفقودين في الجمهورية العربية السورية، وتمثيلهم بشكل كامل ومجدٍ في تشغيلها وعملها، وأن تعمل مع المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى بطريقة منتظمة ومستمرة.
– ضمان المشاركة والتمثيل الكاملَين للضحايا والناجين وأسر المفقودين، وأن تسترشد بالمبادئ والسمات الأساسية المتعلقة بالشمول الجنساني، وعدم التمييز، وعدم الإضرار، والاستقلال، والحياد، والشفافية، وسرية المصادر والمعلومات، والمعايير التشغيلية المتعلقة بالتكامل وعدم الازدواجية، وافتراض البقاء على قيد الحياة، والاستدامة، وإمكانية الوصول، وتعدد التخصصات، على النحو المبيَّن في تقرير الأمين العام.
– يطلَب من الأمين العام أن يقوم بوضع اختصاصات المؤسسة المستقلة في غضون 80 يوم عمل من اتخاذ القرار، واتخاذ الخطوات والتدابير والترتيبات اللازمة للإسراع بتأديتها مهامها على نحو كامل، والاستفادة من القدرات القائمة ومساهمات الناجين، بما يشمل استقدام أو ندب موظفين محايدين ذوي خبرة لديهم المهارات والدراية الفنية المناسبة.
– أن تدعى جميع الدول، وكذلك جميع أطراف النزاع في الجمهورية العربية السورية، إلى التعاون الكامل مع المؤسسة المستقلة، إضافة إلى المؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني، لا سيما منظمات المجتمع المدني السورية.
– يطلب من منظومة الأمم المتحدة ككل أن تتعاون بشكل تام مع المؤسسة المستقلة، وأن تستجيب على وجه السرعة لأي طلبات، بما في ذلك الحصول على المعلومات والوثائق، لا سيما تزويد المؤسسة بأي معلومات وبيانات قد تكون في حوزتها.
– يطلب من الأمين العام أن يقدم تقريرًا عن تنفيذ هذا القرار في غضون 100 يوم عمل من اتخاذه، وأن يقوم سنويًّا كذلك بتقديم تقرير عن أنشطة المؤسسة المستقلة.
اهتمام واسع بالقرار
نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش بيانًا في 24 يونيو/ حزيران الماضي، حثت فيه على التصويت لصالح إنشاء المؤسسة، والذي يشكّل -حسب وصفها- علامة فارقة في أول استجابة من المجتمع الدولي للصراع السوري، لافتة إلى أن الجهود التي تبذلها عائلات الأشخاص المفقودين بحاجة إلى أوسع وأقوى دعم ممكن.
حاز القرار على اهتمام الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية، نتيجة الضغوط الكبيرة التي مارستها عائلات المفقودين ومجموعات الضحايا منذ فبراير/ شباط 2021، عندما أصدرت 5 منظمات للضحايا وذويهم ما يسمّى بـ”ميثاق الحقيقة والعدالة“.
هذه المنظمات هي: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ورابطة عائلات قيصر، و”مسار” تحالف عائلات الأشخاص المختطفين لدى تنظيم “داعش”، وحركة عائلات من أجل الحرية، ومبادرة تعافي؛ لتنضم فيما بعد إلى العمل الجماعي في الضغط على الأمم المتحدة حركة عائلات من أجل الحقيقة والعدالة، ورابطة معتقلي سجن عدرا، ورابطة “تآزر” للضحايا، وحررني، والاتحاد العام للمعتقلين والمعتقلات.
ما شجّع على المضيّ قدمًا في هذا الملف، الموقف الأممي والحقوقي الدولي المتعاطف مع القضية، ففي أغسطس/ آب 2022 أوصى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بإنشاء مؤسسة تعنى بالمفقودين، فيما جدّد الدعوة في مارس/ آذار الفائت، قائلًا إن “السوريين يستحقّون معرفة ما حدث لأحبائهم”، مشددًا على أهمية ذلك للعدالة وتحقيق السلام والمصالحة.
في حديث محمود الحموي، المدير التنفيذي للاتحاد العام للمعتقلين والمعتقلات، لـ”نون بوست”، قال إن “ما بُذل خلال الأشهر الأخيرة من جهود لإعادة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية، وإعادة تأهيله على المسرح الدبلوماسي، يعزز ضرورة إلقاء الضوء على الجرائم ضد الإنسانية التي اُرتكبت في سوريا خلال أكثر من عقد، من ضمنها جريمة الإخفاء القسري الجماعي”.
هناك يأس من كل السوريين بكل الملفات المتعلقة بالقضية السورية، لدرجة أن هناك شريحة واسعة لا تثق بأي قرار أممي.
مضيفًا أن القرار هو بمثابة إرسال رسالة واضحة إلى العالم، مفادها أنه لا يمكن تجاهل أو تناسي محنة عشرات الآلاف من المفقودين وأُسرهم ممّن ما زالوا مخفيين قسرًا على يد نظام الأسد وقوى الأمر الواقع في سوريا، فلن يكون السلام المستدام في سوريا ممكنًا دون حل قضية المفقودين.
وحول آلية عمل المؤسسة، رأى الحموي أن الآلية ستكون عبر تشكيل مجموعات مختصة بالنبش عن المقابر الجماعية والبحث عن المفقودين، واتّباع الإشارات والدلائل بناءً على تقارير ومعلومات أمنية، كالمجموعات المختصة التي أُرسلت إلى البوسنة والهرسك، وهي آلية مهمة جدًّا لأنها ستكون على تماسّ مباشر مع روابط أسر الضحايا وأهالي المفقودين.
واستبعد في الوقت ذاته أن تكون الآلية مجدية، لأن النظام والروس لن يستجيبا لطلب دخول هذه المجموعات، مرجّحًا أنها ستكون وسيلة ضغط على نظام الأسد لأن اللجنة بعد جمعها كل الوثائق المطلوبة ستطلب مواقع معينة للدخول إليها، وهو ما سيرفضه النظام قطعًا، ما سيؤدي إلى تقديمها تقرير للأمم المتحدة كل 100 يوم بعدم تجاوب النظام، وهذا سيحرج النظام ويدينه.
ويبدو أن هناك يأسًا من كل السوريين بكل الملفات المتعلقة بالقضية السورية، لدرجة أن هناك شريحة واسعة لا تثق بأي قرار أممي، ويختم الحموي: “لا يوجد لدينا خيار آخر، يجب الضغط في كل المحافل الدولية والاستمرار في السعي عبر كل الوسائل المتاحة، لإبقاء ملف القضية السورية مطروحًا بعد النكسات التي رافقته منذ اندلاع الثورة السورية”.
تحذير من رفع سقف التوقعات
في بيان لها، رحّبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالقرار الأممي، مشيرة إلى أنها ستتعاون مع المؤسسة الأممية المشكّلة، لا سيما أنها تملك قاعدة بيانات ضخمة تضم قرابة 112 ألف مختفٍ قسريًّا، قرابة 86% منهم لدى قوات النظام السوري لم يعلم الغالبية العظمى من أهلهم بوفاتهم، ومن بين هؤلاء المفقودين 3 آلاف و41 طفلًا و6 آلاف و642 سيدة (أنثى بالغة).
إلا أن الشبكة حذّرت في الوقت نفسه من خطورة رفع سقف التوقعات من هذه الآلية على أهالي المفقودين والمختفين قسريًّا، مشددة على ضرورة الإشارة إلى المهام التي بإمكانها القيام بها والمهام التي لا يمكنها القيام بها معًا، وألّا يتم التركيز فقط على ما يمكنها القيام به.
سبق بيان الشبكة رد رسمي من حكومة دمشق، عبر مندوبها لدى الأمم المتحدة بسام صباغ، الذي وصف القرار بـ”المسيَّس”، وأنه يستهدف سوريا ويعكس بوضوح تدخُّلًا سافرًا في شؤونها الداخلية، ويشكّل دليلًا إضافيًّا على استمرار النهج العدائي لبعض الدول الغربية ضد سوريا، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
تروي مشعان ألم أحد معارفها عندما تم الكشف عن مجزرة التضامن في أبريل/ نيسان 2022، إذ أعاد المقطع أكثر من 30 مرة بما يحويه من مشاهد قاسية حتى تعرّف قريبه.
مضيفًا في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إن آلية عمل المؤسسة “غريبة وغامضة المعالم”، متهمًا إياها بأنها “لا تورد أي تعريف محدد لمصطلح المفقودين”، وأنها “مجهولة الأطر الزمنية والحدود الجغرافية، معدومة الشروط المرجعية”، ما يوحي بأن أمام أسر المفقودين طريق مراوغة طويل يضاف إلى طرق النظام في التمويه والتهرب من جرائمه على مدار 12 عامًا.
تقول ياسمين مشعان، عضو مؤسس في رابطة عائلات قيصر: “نعلم أن العملية ستستغرق وقتًا طويلًا ولا تخلو من التحديات، ولا يعني إنشاء المؤسسة أنه سوف يكون غدًا كشف مصير المفقودين، فالعملية تأخذ ربما سنوات، لكن إنشاء هذه المؤسسة يعدّ خطوة أولى حاسمة نحو الكشف عن مصير أحبائنا، سيكون نضالنا طويلًا ولن يكون لنا استسلام”.
مشيرة في حديثها لـ”نون بوست” إلى أن المجتمع الدولي أدرك أخيرًا المعاناة المروعة التي أُجبرت عائلات عشرات الآلاف من المفقودين والمختفين قسريًا في سوريا على تحمّلها لسنوات، فمن هذا القرار لن يتم تمييع قضية المخفيين قسريًّا أو نسفها بسبب المسارات السياسية، و”سوف نضمن من خلال هذه المؤسسة عدم المساس بهذا الملف”.
وفقدت مشعان 5 إخوة لها، قتل النظام 4 منهم، أحدهم كان مختفٍ قسريًّا عثرت على صورته ضمن صور “قيصر“، فيما اختطف تنظيم “داعش” الأخير.
تروي مشعان حالة أحد معارفها عندما تسرب مقاطع من مجزرة التضامن في أبريل/ نيسان 2022، إذ أعاد المقطع أكثر من 30 مرة بما يحويه من مشاهد قاسية حتى تعرّف قريبه، “كان من الممكن أن تجنّبه هذه المؤسسة ألم البحث، فيما يبقى السؤال كيف نوقف هذا النظام عن ارتكاب مثل هذه المجازر التي يرتكبها باستمرار؟ وكيف نقوم بتحقيق تقدم؟”، تختم مشعان حديثها.
عوائق تواجه عمل المؤسسة
لا يخفى أن عمل المؤسسة يواجه عدة عوائق متعلّقة بمن سيرأس آلية هذه المؤسسة وصلاحياته، ومدى انحيازه للمعارضة وارتباطه بالدول المناهضة لنظام الأسد، ما يعني تسييسها لصالح المعارضة حسب رأي النظام، ومن جهة أخرى ما مدى سماح النظام بدخول اللجنة إلى الأراضي السورية والبحث في المقابر الجماعية والسجون السرية، والتي تملك عائلات المفقودين معلومات واسعة عنها.
يرى المحامي السوري، عبد الناصر حوشان، أن أُولى العقبات التي قد تعترض تشكيل اللجنة هي قبول النظام بها، فهي ستفضح جرائمه الفظيعة، وبالتالي سيعمل على إفشال أية محاولات لإنشائها، كما تعامل من قبلها مع كل اللجان والهيئات والآليات الدولية الخاصة بسوريا.
وحسب حديث حوشان لـ”نون بوست”، فإنّ عمل اللجنة سيؤدي إلى فتح 3 مسارات حتمية، وهي المسار الإنساني الذي سيؤدي بالضرورة إلى مسار العدالة الجنائية، بعد الكشف عن جرائم الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والقتل خارج القانون والتعذيب، وبالتالي محاسبة المجرمين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي ستطال رأس النظام وأركانه، باعتباره المسؤول الأول عن هذه الجرائم وفق تسلسل القيادة، حيث إن العدالة الجنائية في معرض ملاحقة مجرمي الحرب والمجرمين ضد الإنسانية تُسقِط الحصانات، ما سيؤدي إلى فتح المسار الثالث وهو المسار السياسي.
يكمل حوشان أن المشكلة تكمن في هذا المسار الذي يعاني منذ 12 عامًا من مأزق الاستعصاء الناجم عن الخلافات بين أعضاء المجتمع الدولي حول مصير بشار الأسد، إذ ستكون الذريعة بين روسيا والصين والدول العربية التي طبّعت علاقتها مع نظام أسد وبين المجتمع الدولي، بأن هذه اللجنة ستكون أداة بيد الولايات المتحدة وحلفائها لتقويض جهود عملية التسوية في سوريا، وستكون أداة للإطاحة برأس النظام السوري.
ووفق رأي حوشان، يعني ذلك نسف القرار 2254 لسنة 2015 ومنتجاته (هيئة التفاوض واللجنة الدستورية)، ما سيضع المعارضة وحلفاءها أمام خيار وحيد، إما التمسك بالقرار 2254 وبالتالي استمرار مسار التفاوض وفق المقاربة الروسية، وإما تعطيل عمل الآلية الدولية للبحث عن المفقودين والمختفين قسريًّا.
رغم أهمية إنشاء المؤسسة في البحث والكشف عن مصير المختفين والمعتقلين قسريًّا والمفقودين، إلا أنها ستجبر عائلات الضحايا والمفقودين على مواجهة معضلة جديدة طويلة الأمد، إذ يملك النظام سجلًا حافلًا في التملُّص من مسؤولياته عن الجرائم المرتكبة والتلاعب بالأدلة والشهادات، ومحاولته قوننة اعترافات المفقودين، والتي تتضمّن إقرارات بالإكراه بجرائم وأعمال تصنَّف على أنها أعمال إرهابية، ليدفع عن نفسه المسؤولية عن جرائم الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والقتل خارج القانون.
معضلة مشابهة للتحقيقات في استخدام نظام الأسد السلاح الكيماوي المثبت منذ عام 2013، وما تلا ذلك العام من سنوات صدّ وردّ سياسي اتبع فيها النظام سياسة العرقلة، منذ لحظة تشكيل اللجان، ومحاولات دخولها البلاد، وإصدار تقاريرها وتنفيذها عبر مجلس الأمن من خلال فيتو الحليفَين الروسي والصيني.