هل حقًّا تتحكم الشعوب بمصائرها عبر صناديق الاقتراع؟ وهل تتشكّل عوالمنا عبر آليات الديمقراطية فقط؟ أم أن القرارات الاستراتيجية والاستهلاكية يتخذها آخرون؟ وهل نحن ضحايا منافسة لم يهمل المتنافسون فيها وسيلة أو سلاحًا إلا واستخدموه؟ وهل السلطة الحقيقية يتحكم بها أناس لا تعلم الجماهير أدوارهم؟
هذه قصة واحدة من الكيانات التي تتمتع بالنفوذ والتأثير منذ بداية القرن الـ 20، تعمل في الظل بهدوء لكن عملها كثيرًا ما كان مصحوبًا بالصخب، إذ حضر اسمها في العديد من الفضائح والأحداث المفصلية والصراعات الدولية، وقد يذكرها التاريخ يومًا بأنها كانت القاسم المشترك بين سياسيين قد لا يجتمعون ودول قد لا تلتقي مصالحها، هذه قصة شركات “العلاقات العامة”.
تاريخ العلاقات العامة
تشكل مفهوم العلاقات العامة من محاولات الاتصال، الذي يعود تاريخه إلى النقوش على جدران الكهوف والمنحوتات المقدسة وأوراق البردي في الحضارة المصرية القديمة حتى فلاسفة اليونان القديمة، فيما تعود فكرة استخدام الاتصال للإقناع إلى أوائل القرن الـ 15، حين أنشأ البابا غريغوري الثالث عشر “وثيقة الدعاية”، وأعاد صياغة مصطلح الدعاية كما نعرفها اليوم من كلمة لاتينية تعني التكاثر البيولوجي للنباتات والحيوانات، إلى كلمة لوصف “مجمَّع الكرادلة” المكلَّف بنشر الكاثوليكية في البلدان غير الكاثوليكية، ما يعني أنه تحولت البيولوجيا إلى استعارة لنشر وتنشئة أيديولوجية ما.
لم تظهر العلاقات العامة كمهنة إلا في عام 1903 حيث تعهّد إيفي لي بتقديم المشورة لجون دي روكفلر، الذي لعب دورًا محوريًّا في تأسيس صناعة النفط في الولايات المتحدة، حول كيفية إدارة علاقاته العامة.
في أواخر القرن الـ 19، أنشأ منظِّم العروض ورجل الأعمال الأمريكي المعروف بالترويج للخدع الشهيرة، فينياس تايلور بارنوم، سيرك “بارنوم آند بايلي” (Barnum and Bailey) المتنقل، الذي أطلق عليه اسم “أعظم عرض على وجه الأرض”، ومتحف بارني الأمريكي الذي كان مليئًا بالفضول والغرائب.
كان بارنوم رائدًا لما كان يُعرف حينها بـ”وكالة الصحافة”، وهو شكل مبكّر من أشكال الدعاية التي اعتمدت على الأحداث “الزائفة”، وغالبًا ما تحمل خداعًا تحت مسمّى “الترويج”، ويتبع هذا النموذج اتصالًا أحادي الاتجاه، إذ تتدفق المعلومات فقط من المرسل إلى المتلقي، ولا يهتم المرسل كثيرًا بتعليقات ومراجعات الطرف الثاني، فقد كان يكتب رسائل مجهولة المصدر موجهة إلى محرري الصحف في المكان الذي كانت تُقام فيه العروض.
وبهدف الترويج للسيرك من خلال الأعمال الدعائية المثيرة، استخدم بارنوم بعض التكتيكات، بدءًا من استخدام فيل السيرك لحرث فناء منزله الأمامي، وفي بعض الأحيان كان يتخطى الحدود، فقد استأجر قزمًا وجعل منه نجمًا، وكان عرضه الأول لسيدة عمرها حوالي 80 عامًا، لكنه روّج لها بصفتها ممرضة الرئيس الأول للولايات المتحدة جورج واشنطن، البالغة من العمر 161 عامًا، وفي نهاية المطاف استقطب السيرك ملايين الحاضرين، وكان أحد أكثر استخدامات العلاقات العامة فاعلية في التاريخ.
مع ظهور العديد من اختراعات الاتصالات خلال القرن الـ 19، أهمها التلغراف والهاتف والفونوغراف والغراموفون وكاميرا الصور المتحركة والتلغراف اللاسلكي، ظهرت احتمالات أكثر بكثير لنشر الأفكار، وكان لها تأثير كبير على صناعة العلاقات العامة في تلك الأوقات، وبالتالي تعتبر العصر الجديد لوسائل الإعلام.
باستخدام صحفيين سابقين كدعاية لها، تنافست الشركات مع بعضها البعض بضراوة للاستحواذ على اهتمام وسائل الإعلام والتأثير السياسي والميزات التسويقية، وأصيبت الجمعيات التجارية بحمّى العلاقات العامة في أواخر القرن الـ 19، وتدّعي رابطة السكك الحديدية الأمريكية أنها كانت أول منظمة تستخدم مصطلح العلاقات العامة في كتابها السنوي لأدب السكك الحديدية لعام 1897.
بدأ الصحفيون السابقون في البحث عن إمكانية كسب المال في مجال العلاقات العامة، وفي عام 1900 أنشأ الصحفي السابق جورج ميكايليس أول وكالة علاقات عامة في بوسطن، تحت مسمّى “مكتب الدعاية”.
واحدة من أشهر حملات العلاقات العامة في كل العصور، كانت حملة “مشاعل الحرية” في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي أنشأها لتشجيع النساء على تدخين السجائر
كانت وظيفته، كما رآها، جمع معلومات واقعية عن عملائه لتوزيعها على الصحف، وبحلول عام 1906 كان عملاؤه الرئيسيون هم خطوط السكك الحديدية، استمرت الوكالة لمدة 12 عامًا ثم فشلت في جهودها، ولم يُسمع عنها مرة أخرى، لكن بعد فترة وجيزة أنشأت غالبية خطوط السكك الحديدية أقسام العلاقات العامة الخاصة بها.
بحلول القرن الـ 20، نشأ ما يسمّى “العلاقات العامة” في الولايات المتحدة مع رواد مثل الكاتب والصحفي الأمريكي أيفي لي، المعروف باسم “أبو العلاقات العامة”، والذي يُنسب إليه الفضل في إنشاء “اتصالات الأزمات الحديثة، فقد غيّر مفهوم هذه الصناعة إلى الأبد، حتى أصبح يوم ميلاده في 16 يوليو/ تموز من كل عام يومًا عالميًّا لاحتفال بعلم وفن العلاقات العامة.
عندما أصدر مبادئ التعامل بين الإدارات ومكاتب العلاقات العامة والصحافة التي سمّاها “إعلان المبادئ”، ذكر أن الجمهور يجب أن يتلقى معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب عن تصرفات الشركة، وقدّم وصفًا للعلاقات العامة باعتبارها “علاقة الشركة الفعلية بالجمهور، وهذه العلاقة تتضمن أكثر من مجرد حديث، يجب أن تتصرف الشركة من خلال أداء الأعمال الصالحة”.
لكن رغم هذا التاريخ الطويل للعلاقات العامة والأدوات المختلفة التي قامت عليها، لم تظهر العلاقات العامة كمهنة إلا في عام 1903، حيث تعهّد إيفي لي بتقديم المشورة لأحد كبار رجال الأعمال والصناعيين في الولايات المتحدة، الذي لعب دورًا محوريًّا في تأسيس صناعة النفط، جون دي روكفلر وعائلته، حول كيفية إدارة علاقاته العامة.
بعد إثارة مشغّلي مناجم الفحم الأمريكية غضب الصحافة بسبب مواقفهم المتغطرسة تجاه إضرابات عمّال المناجم، أقنع لي أصحاب المناجم بالتخلي عن رفضهم الإجابة عن الأسئلة، واقترح أن يزور روكفلر المناجم ويتحدث مع العمّال، ويستمع إلى شكواهم وطلباتهم، وهكذا أصبح بطلًا لعمّال المناجم، ونجح في تعزيز صورته العامة.
عندما بدأ بيرنيز الكتابة عن العلاقات العامة لأول مرة، أشار إليها على أنها “علم اجتماعي تطبيقي”، وجادل بأنها “ليست وسيلة للتحايل لكنها ضرورة”
في عام 1906، وفي وقت لم تعتد فيه السكك الحديدية الحديث عن الحقائق عند تعرض قطاراتها للحوادث، كتب لي أيضًا ما يُعتقد أنه أول بيان صحفي على الإطلاق، ردًّا على حادث سكة حديد كبير في أتلانتيك سيتي، وكتبه نيابة عن شركة بنسلفانيا للسكك الحديدية، لتقديم معلومات حول حادث قطار، وضمان عدم تضرر سمعة الشركة، ودعا الصحفيين إلى تفقد الحادث وجمع الحقائق، ثم حصلت سكة حديد بنسلفانيا على أول تغطية صحفية إيجابية لها، وعزز لي العلاقات العامة.
في غضون ذلك، كان لي يصوغ مكوّنًا رئيسيًّا لما لم يسمَّ بعد بـ”العلاقات العامة”، وبعد فترة وجيزة قدّم الرجل الأكثر إثارة للاهتمام في هذا المجال، إدوارد بيرنيز، الذي غالبًا ما يُشار إليه بـ”الأب الروحي للعلاقات العامة”، مفهوم “الاتصال ذي الاتجاهين” بين الشركة والجمهور في كتابه “بلورة الرأي العام” عام 1923، واعتبر العلاقات العامة وسيلة لفهم مواقف وسلوكيات الجماهير وكيفية تغييرها.
كان لي وبيرنيز أكبر منافسَين لبعضهما في أوائل القرن الـ 20، لكن في حين اتّبع الأول مبدأ “قول الحقيقة”، وُصف الأخير بـ”المخادع” و”الماكر”، فقد كان له أسلوبه الخاص في التلاعب بعقول الجماهير، وجعل قرارتهم التي يتخذونها تصبّ في النهاية في مصلحة الشركات الربحية الكبرى، إيذانًا ببدء “عصر المادية أو الاستهلاكية”.
عندما بدأ بيرنيز الكتابة عن العلاقات العامة لأول مرة، أشار إليها على أنها “علم اجتماعي تطبيقي”، وجادل بأنها “ليست وسيلة للتحايل لكنها ضرورة”، ووصفها بأنها “وجه آخر للبروباغندا (الدعاية)”، لكن بسبب إساءة فهم هذا مصطلح “البروباغندا” في كثير من الأحيان، عمد إلى إيجاد اسم آخر لها، وهو “العلاقات العامة”.
افتتح بيرنيز شركته الخاصة للعلاقات العامة في نيويورك عام 1919، وجذبت بسرعة عددًا كبيرًا من العملاء الرئيسيين، ووفقًا لمجلة “لايف”، كان بيرنيز أحد أكثر الأشخاص نفوذًا في القرن الـ 20، فقد نجح في تشكيل الرأي العام الأمريكى والعالمي، مستعينًا بالنظريات النفسية السلوكية التي طوّرها عمّه، مؤسّس علم التحليل النفسي سيغموند فرويد، لتشكيل أساليب العلاقات العامة الخاصة به مع فهم عميق للسلوك البشري.
واحدة من أشهر حملات العلاقات العامة في كل العصور، كانت حملة “مشاعل الحرية” في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي أنشأها لتشجيع النساء على تدخين السجائر كرمز للنسوية والحرية، وأقنعهن بأنها “مهدئة للحلق وتنحيف الخصر”، لكن في المنزل كان يحاول إقناع زوجته بالتخلي عن هذه العادة، وكأنه كان على دراية ببعض الدراسات المبكرة التي تربط التدخين بالسرطان.
كونه أحد أبرز بائعي الأفكار في القرن الـ 20، استحوذ بيرنيز على قائمة من أشهر الشركات في عصره، بدءًا من الشركات المصنعة مثل “بروكتر وغامبل (Procter & Gamble)”، أكبر شركة لصناعة المواد الاستهلاكية في العالم، و”الشركة البريطانية الأمريكية للتبغ”، وصولًا إلى وسائل الإعلام مثل “سي بي إس”، أشهر شبكات التلفزيون في الولايات المتحدة.
اليوم، قد نطلق على ما كان بيرنيز رائدًا فيه شكلًا من أشكال بناء الهوية للعلامات التجارية، لكنه يمثل في جوهره أكثر من مجرد مجموعة من أساليب التلاعب بالجمهور، والغرض الأساسي في جزء كبير منه هو كسب المال، ومن خلال إقناع الناس بأنهم يريدون شيئًا لا يحتاجون إليه، سعى بيرنيز إلى تحويل المواطنين إلى مستهلكين يستخدمون قوتهم الشرائية للبحث عن السعادة.
لجأت العلامات التجارية إلى العلاقات العامة بدلًا من الإعلان، ما أثّر على الرأي العام حول قطاع التصنيع في الولايات المتحدة، وأدّى ذلك إلى دفع العلاقات العامة إلى أعلى بأكثر من 60% في تلك الأوقات
قبل بيرنيز، اعتقد الكثيرون أن العلاقات العامة عملت في البداية كطريقة لإدارة الرأي العام والتلاعب بالجمهور من خلال علم الاجتماع وعلم نفس الجماعة، لكنه شدّد على أهمية المساءلة والشفافية، وأصبحت نظرياته بعد وفاته إرثًا قويًّا لممارسة فن العلاقات العامة، وأداة في يد أصحاب المال والسلطة منذ ذلك الحين.
وبحلول نهاية العشرينيات من القرن الماضي، بدأت بعض أكبر الشركات في العالم -بما فيها الشركة الصناعية والتكنولوجية الأمريكية الضخمة “جينيرال إليكتريك (General Electric)”، وشركة الاتصالات الأكبر في العالم “AT & T”- في الاعتماد على مستشاري العلاقات العامة الداخليين.
لكن لم ينشئ أول قسم للعلاقات العامة حتى ذروة “الكساد الكبير” فترة 1929-1933، أي قبل إنشاء الرابطة الوطنية للمصنّعين (NAM)، ومن خلال قسمها الجديد أطلقت الرابطة حملة لبناء الثقة مدتها 13 عامًا -عندما كان هناك تراجع في الاقتصاد-، تضمنت أفلامًا قصيرة ومنشورات.
ولجأت العلامات التجارية إلى العلاقات العامة بدلًا من الإعلان، ما أثّر على الرأي العام حول قطاع التصنيع في الولايات المتحدة، وأدّى ذلك إلى دفع العلاقات العامة إلى أعلى بأكثر من 60% في تلك الأوقات، ولم ينتهِ هذا إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
بعد فترة وجيزة من اندلاع الحرب العالمية الثانية، أنشأت الولايات المتحدة مكتب معلومات الحرب، والذي كان بمثابة وسيلة مركزية للحكومة لإيصال المجهود الحربي للجمهور، وبعد انتهاء الحرب ازدهرت صناعة العلاقات العامة مع انتشار الشركات في جميع أنحاء العالم، وكان المجال يتطور إلى عمل تجاري، وواصلت وكالات بارزة بما في ذلك “كارل بيوار” و”إيدلمان” و”بيرسون مارستيلر” الازدهار، لتصبح شركات متعددة الجنسيات.
العلاقات العامة في عالم السياسة
تزامن ظهور العلاقات العامة في المجال التجاري والترويج للشخصيات والشركات مع استخدامها في عالم السياسة، وأثبتت فاعليتها في الكثير من المواقف والأحداث والحروب، واحدة من أقدم الأمثلة المعروفة كانت كتابات يوليوس قيصر “تعليقات على الحرب الغاليكيّة (The Gallic Wars)” حول فتوحاته العسكرية، واستخدمها لتشكيل الرأي العام وكسب الدعم لحملاته في عام 50 قبل الميلاد.
انتشر الإعلان والدعاية السياسية -قبل أن يصبحا جزءًا من العلاقات العامة- على نطاق واسع مع اختراع يوهانس غوتنبرغ أول مطبعة في ألمانيا، وكانت هذه أداة رائعة عندما عرفت العديد من البلدان الطريق إلى الديمقراطية، وكان للمواطنين الحق في المشاركة السياسية، خلال هذا الوقت كان هناك العديد من الأشخاص الذين يستخدمون العلاقات العامة لإدارة الرأي العام، وجزء من القوة الدافعة لهذا النمو كانت الاضطرابات السياسية التي اجتاحت العالم.
تقدمت العلاقات العامة سريعًا حتى تأسيس الولايات المتحدة، حيث اُستخدمت وسائل الاتصال الجماهيري للاستقلال عن التاج البريطاني، وأنتجت المستعمرات الأمريكية المتمردة مجموعة من خبراء العلاقات العامة، الذين استخدموا الخطابة والصحف والاجتماعات واللجان والنشرات والمراسلات لكسب الناس لقضيتهم.
وروّج الأب المؤسّس، صمويل آدامز الذي أُطلق عليه لقب “سيد الدعاية”، للرسائل السياسية المعارضة للملكية البريطانية، ما ألهم الاحتجاج الشهير المناهض للضرائب، المعروف الآن باسم “حفل شاي بوسطن”، عام 1773، والذي كان يُشار إليه في وقته ببساطة باسم “تدمير الشاي”.
بعد 3 سنوات، نشر المفكر الأمريكي توماس باين “الفطرة السليمة”، وهو كتيّب يهدف إلى إقناع الجماهير بدعم الثورة الأمريكية في المستعمرات البريطانية، وبعد أشهر فقط تمّ التوقيع على إعلان الاستقلال عام 1776.
وصولًا إلى عام 1829، بدأ البيت الأبيض في استخدام العلاقات العامة في اتصالاته، حيث ظهر الصحفي الأمريكي عاموس كيندال كعضو مؤثر في حكومة الرئيس الأمريكي الأسبق أندرو جاكسون، وصاغ الكثير من الرسائل السياسية لجاكسون لإعادة تكوين صورته العامة، من حاكم عسكري ورجل حرب إلى مفكر ومثقف يستحق أن يكون رئيسًا.
بدأ في استخدام العلاقات العامة في اتصالاته، مستغلًّا صحيفته “أرغوس أمريكا الغربية (Argus of Western America)”، التي كانت ذات تأثير في فرانكفورت عاصمة ولاية كنتاكي الأمريكية، ومهاراته في الكتابة وعلاقاته السياسية لجعل الحزب الديمقراطي قوة سياسية وطنية.
اليوم، نسمّي إعادة تكوين الصورة العامة للشخص “العلامة التجارية الشخصية”، وتقدم العديد من وكالات العلاقات العامة خدمات العلامات التجارية الشخصية، تمامًا كما تفعل شركة “مارشال كوميونيكيشنز (Marshall Communications)” منذ تأسيسها عام 1991.
لم يكن مجال الاستشارات السياسية معروفًا قبل أن يؤسّس الزوجان ليون باكستر وكليم ويتاكر أول شركة في هذا المجال تحمل اسم “Campaigns” في كاليفورنيا عام 1933.
قبل عقود من ظهور مثل هذه الشركات المتخصصة، كان إيفي لي، أفضل وكلاء الدعاية وأكثرهم شهرة، يشق طريقه في عالم السياسة، وفي عام 1921 حوّل انتباهه إلى العديد من الاهتمامات الدولية، خاصة بعد أن أصبح عضوًا في مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة عند تأسيسه، ما عزز من دوره في تقارب علاقات بلاده مع الاتحاد السوفيتي التي اتسمت بالعداء المتبادل لعقود طويلة.
في عام 1926، كتب لي رسائل سرية إلى أصحاب النفوذ يحثّهم فيها على الاعتراف بالاتحاد السوفيتي، معتقدًا أن التجارة والتدفق الحر للأفكار مع الولايات المتحدة من شأنه أن يعرقل البلشفيين الذين استولوا على مقاليد الحكم عام 1917، وقطعت الولايات المتحدة حينها علاقاتها الدبلوماسية مع روسيا.
استمر لي خلال عشرينيات القرن الماضي في هذا النهج، ما أدى إلى العديد من الاتهامات بأنه كان يعمل كداعية لصالح الحكومة السوفيتية، لكن جهوده تكللت في عام 1933 بفتح الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت صفحة جديدة مع البلشفيين، والاعتراف بالاتحاد السوفيتي وتأسيس العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدَين.
شهدت الحربان العالميتان الأولى والثانية استخدامًا سياسيًّا للعلاقات العامة، فخلال الحرب العالمية الأولى لعبت هذه الصناعة دورًا مهمًّا في تشكيل الرأي العام وكسب الدعم للمجهود الحربي، وتأسّست لجنة الإعلام في الولايات المتحدة لنشر الدعاية المؤيدة للحرب.
كذلك زجَّ إدوارد بيرنيز بالعلاقات العامة في مجال السياسة، فقد قاد الكثير من الحملات الناجحة في الحياة السياسية، وعمل مع الشخصيات السياسية، بما في ذلك الرئيس الأمريكي الأسبق كالفين كوليدج، الذي فاز في انتخابات عام 1924 بمساعدة بيرنيز الذي جرى التعاقد معه لتشكيل الصورة العامة لكوليدج، باستخدام تكتيكات العلاقات العامة التي كانت مختلفة عن تقنيات الدعاية الرئاسية السابقة.
كان بيرنيز أول من ابتكر استراتيجية الاستعانة بنجوم الفن والمشاهير في المشهد السياسي، واستخدمها لتحسين سمعة كوليدج، فقد طوّر خطة مثيرة للجدل من شأنها أن تجعل الممثلين والممثلات المشهورين يحضرون إفطارًا في البيت الأبيض، وعرف أن الحدث سيحظى بتغطية كبيرة من وسائل الإعلام، وحقق ذلك من خلال الاستعانة بآل جولسون، أحد أشهر نجوم الولايات المتحدة والأعلى أجرًا في عشرينيات القرن الماضي، و40 من فناني برودواي الآخرين.
وشهدت الحربان العالميتان الأولى والثانية استخدامًا سياسيًّا للعلاقات العامة، فخلال الحرب العالمية الأولى لعبت هذه الصناعة دورًا مهمًّا في تشكيل الرأي العام وكسب الدعم للمجهود الحربي، وتأسّست لجنة الإعلام في الولايات المتحدة لنشر الدعاية المؤيدة للحرب.
في الواقع، لم يكن مجال الاستشارات السياسية معروفًا قبل أن يؤسس الزوجان ليون باكستر وكليم ويتاكر أول شركة في هذا المجال تحمل اسم “Campaigns” في كاليفورنيا عام 1933، فقد عملت هذه الشركة على مجموعة متنوعة من القضايا السياسية، معظمها لمرشحي الحزب الجمهوري.
كما أنشأت استراتيجيات وتكتيكات -مثل شراء الإعلانات وحملات البريد المباشر- لا تزال مستخدمة على نطاق واسع في الوقت الحاضر، ولم يؤدِّ عملهم إلى إحداث ثورة في السياسة في العصر الحديث فحسب، بل أثر أيضًا بعمق على القضايا السياسية التي لا تزال ذات صلة حتى اليوم.
لم يكن مجال الاستشارات السياسية معروفًا قبل أن يؤسس ليون باكستر وكليم ويتاكر “Campaigns” في عام 1933.
وأظهرت الحرب العالمية الثانية مجموعة متنوعة من تقنيات العلاقات العامة، فقد قاد وزير الدعاية في ألمانيا النازية، جوزيف غوبلز، حركات دعائية لأدولف هتلر لضمان دعم النظام النازي، وكان غوبلز معجبًا بشدة ببيرنيز وكتاباته عن العلاقات العامة، رغم حقيقة أن الأخير كان يهوديًّا، عندما أصبح غوبلز وزيرًا للدعاية السياسية، سعى لاستغلال أفكار بيرنيز إلى أقصى حد ممكن.
استمر القرن الـ 20 في تغذية تطور العلاقات العامة، وجلبت التطورات التكنولوجية -مثل الإذاعة والأفلام السينمائية- وسائل جديدة يمكن للمرشحين من خلالها القيام بحملاتهم الانتخابية، حيث أصبح بإمكان الجماهير رؤيتهم وسماعهم مع ظهور اختراعات مثل الاتصالات اللاسلكية بعيدة المدى، والتلفزيون الذي أدَّى إلى حقبة جديدة في العلاقات العامة، واُستخدم لأول مرة في حملة رئاسية في عام 1952.
مع العصر الجديد للحملات السياسية، جاء الدور الحاسم لخبراء الدعاية لتشكيل صورة المرشح بحيث يظهر كمرشح مثالي، فعلى شاشة التلفزيون ظهرت إعلانات سياسية لحملة الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور، حملت أكثر شعارات الحملات الانتخابية التي لا تُنسى في التاريخ الأمريكي.
واستندت إلى مسوح أحد الرواد الأمريكيين في تقنية فحص العينات، وهو جورج غالوب، ومنشئ مؤسسة غالوب التي تجري بانتظام استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة وأكثر من 140 دولة، وتنكّرت الإعلانات في شكل أفلام وثائقية بدت مثل أفلام “The March of Time” الإخبارية، التي ظهرت في دور السينما من عام 1935 إلى 1951.
ما بدأ كمشروع أمريكي بشكل أساسي في أوائل القرن الـ 20، مع عدد قليل من الوكالات وبضع مئات من الممارسين، نما بلا هوادة ليصبح مشروعًا عالميًّا، خاصة مع ظهور الإنترنت الذي أدّى إلى تغيير صناعة العلاقات العامة مرة أخرى، وأخذت دورًا قياديًّا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتطويرها كأداة اتصال ثنائية الاتجاه.
حيث يمكن للشركات والأفراد الآن التواصل مباشرة مع جماهيرهم، من خلال القنوات الرقمية التي أحدثت تغييرًا كبيرًا في العلاقات الشخصية والمهنية، وبدأ معها بناء أو تدمير السمعة ببضع نقرات.
وعلى حد تعبير خبير العلاقات العامة برايان هوغ، إن “العلاقات العامة انتقلت إلى عصر إنشاء الأخبار المستقلة، وأنشأت وسائل التواصل الاجتماعي ثقافة التأثير المدفوع بالتأييد، عن طريق استخدام الأشخاص الذين لديهم عدد كبير من المتابعين للترويج للمنتجات والعلامات التجارية والأفكار والشخصيات العامة، لا سيما في مجال السياسة، بدلًا من أساليب التسويق العامة في أواخر القرن الـ 20”.
كانت الانتخابات الرئاسية لعام 2008 هي المرة الأولى التي تتمتع فيها وسائل التواصل الاجتماعي بمثل هذا الاستخدام المكثّف والمتصل بالسياسيين والناخبين، فقد استخدم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما المزيد من المنصات لكسب تصويت الشباب والفوز في الانتخابات، ومن ثم أصبح هذا النهج سائدًا في الانتخابات اللاحقة، وفي الكثير من دول العالم.
هل يوجد شيء اسمه دعاية سيّئة؟
لطالما اُنتقدت العلاقات العامة لكونها في بعض الأحيان شكلًا رئيسيًّا من أشكال الدعاية، فوظيفتها تتمحور حول تحسين الأخبار السارة وتجنُّب الأخبار السيئة، والمساعدة في بناء سمعة عملائها وممارسة الضغوط لصالحهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة.
قائمة التحديات في هذا الشأن لا حصر لها، وفي كثير منها يظهر الوجه الآخر للعلاقات العامة، ما يجعل هذه الشركات أكثر عرضة للانتقادات لانتهاكها معايير السلوك المؤسّسي، لا سيما عندما يديرون الاتصالات المتعلقة بمسائل حسّاسة مثل الشخصيات السياسية والحكومات وممارسات العمل غير العادلة والحوادث الصناعية والكوارث البيئية.
خضع دور شركات العلاقات العامة لتدقيق شديد مع اتهامها بعرقلة العمل المناخي، من خلال نشر معلومات مضللة نيابة عن عملائها، ووثّقت دراسة نشرتها مجلة “Climatic Change” الدور الذي لعبته شركات العلاقات العامة في مساعدة شركات النفط والغاز الأكثر ربحية في العالم على تحسين صورتها البيئية ومنع العمل المناخي.
وتؤكد بعض المواقف الرئيسية منذ الثمانينيات على التأثير الاجتماعي والسياسي الذي يمكن أن تحدثه أنواع مختلفة من الأزمات على الشركات، على سبيل المثال شركة العلاقات العامة العالمية “بيل بوتينغر (Bell Pottinger)” التي كانت واحدة من أكبر وأشهر الشركات في العالم عندما انهارت عام 2017، بعد اتهامها بإثارة التوتر العنصري في جنوب أفريقيا، فقد سعت إلى صرف الانتباه عن عائلة الملياردير جوبتا، المتهمة بالفساد السياسي واستغلال علاقتها مع رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما لتحقيق مكاسب خاصة.
كانت الشركة البريطانية قد أعلنت أنها بدأت مفاوضات للانفصال رسميًّا عن الشركة الأمّ، بعد الحديث عن تورُّط الإمارات في جريمة غسيل أموال كبرى لصالح عائلة جوبتا، علمًا أن القضاء الإماراتي رفض مؤخرًا تسليم الأخوين أتول وراجيش جوبتا إلى السلطات في جنوب أفريقيا.
نشطت هذه الشركة على وجه التحديد في منطقة الشرق الأوسط، حيث يقع مقرها الرئيسي في العاصمة أبوظبي، وتتخذ من إمارة دبي مركزًا لعملياتها في المنطقة، واعتمد عليها حكّام الإمارات في أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي لتشويه الأنظمة والحكومات الديمقراطية المناوئة لتوجهاتها، كما حدث مع دولة قطر، مقابل تلميع أطراف الثورات المضادة.
غالبًا ما كان اختيار “بيل بوتينغر” لعملائها هو سبب القلق، فعلى مدار العقد الماضي كانت الشركة في دائرة الضوء أكثر من أي شركة ضغط أخرى، حيث تعثرت في فضيحة تلو الأخرى، وكانت طبيعة عملها مثيرة للجدل أيضًا، كما في حالة حملة الدعاية السرية التي تبلغ نصف مليار دولار، والتي نظّمتها للجيش الأمريكي بعد غزو العراق عام 2003، وتضمّنت، من بين أمور أخرى، إنشاء دعاية مزيفة لتنظيم “القاعدة”.
ولم تخجل “بيل بوتينغر” أبدًا من العمل مع عملاء أكثر إثارة للجدل، واستمرت في قبول العقود من العديد من العملاء، من رئيس الوزراء التايلاندي “المخلوع”، وحكومة سريلانكا التي وظفت الشركة لتعزيز صورتها في فترة ما بعد الحرب، إلى شركة التكسير الهيدروليكي “كوادريلا (Cuadrilla)” البريطانية، وأسماء الأسد زوجة رئيس النظام السوري بشار الأسد، وألكسندر لوكاشينكو، ديكتاتور بيلاروسيا الذي أراد المساعدة في رفع العقوبات الغربية.
وفي البحرين، تعرّض عمل “بيل بوتينغر” لانتقادات شديدة في أعقاب الانتفاضة الدموية التي اندلعت في فبراير/ شباط 2011، وأنفقت حكومة البحرين ما لا يقلّ عن 32.5 مليون دولار أمريكي لتحسين صورتها في وسائل الإعلام الغربية، منذ بدء الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية التي تزامنت مع احتجاجات الربيع العربي، إلا أن هذه الأرقام تستند فقط إلى المعلومات المتاحة للجمهور، ومن المرجّح أن يكون الإنفاق الفعلي من قبل الحكومة البحرينية على العلاقات العامة أعلى بكثير.
تمثل الشركة بعضًا من العملاء الأكثر شهرة في العالم، ومن بينهم رئيس جنوب أفريقيا السابق فريديريك ويليم دي كليرك، والرياضي الجنوب أفريقي أوسكار بيستوريوس بعد اتهامه بالقتل، وشركة تصنيع الأسلحة “BAE Systems”، كما مارست الضغوط السيّئة لصالح الديكتاتور التشيلي السابق أوغستو بينوشيه، عندما تمَّ القبض عليه في مستشفى بلندن بتهمة القتل العمد عام 1998.
قد يبدو أن “بيل بوتينغر” التي خضعت للحراسة القضائية، رسمت طريقها منفردة تحت هذا السجلّ الأسود، لكن الحقيقة القاتمة أن هناك العديد من الشركات والاستشاريين المستعدين للعمل لصالح الحكومات القمعية والطغاة والأوليغارشيين.
على سبيل المثال، عملت شركة “هيل آند نولتون” (Hill & Knowlton)، إحدى أكبر شركات العلاقات العامة في العالم، مع الحكومة الأوغندية لتلميع صورتها مع المانحين الغربيين، ودحض الانتقادات الموجهة من وسائل الإعلام الغربية وجماعات حقوق الإنسان.
حيث أنفقت الحكومة 350 ألف جنيه إسترليني لتحسين صورتها، في محاولة لبناء علاقات مع مجموعات الضغط التي انتقدت الرئيس يوويري موسيفيني، الذي أُعيد انتخابه لفترة رئاسية سادسة في يناير/ كانون الثاني 2021، بسبب فشله في تحقيق السلام مع المتمردين في الشمال، وتعزيز السياسات التي تقلّل فرص معالجة فيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”.
استعانت الحكومة السعودية بشركة “بيرسون مارستيلر” لتقديم المشورة بشأن القضايا وإدارة الأزمات، بعد الإشارة إلى أن معظم مهاجمي 11 سبتمبر/ أيلول كانوا من تلك الدولة الخليجية.
هذه الشركة الكبيرة ارتبطت أيضًا بالقصة الإخبارية الكاذبة عن الأطفال الكويتيين الذين طُردوا من الحاضنات وتُركوا حتى الموت، خلال غزو الجنود العراقيين، لحشد الدعم للتدخل الأمريكي في حرب الخليج الأولى، ورتّبت الشركة شهادة “زائفة” لفتاة مراهقة، قيل إنها نيرة الصباح ابنة السفير الكويتي في الولايات المتحدة.
قُدّمت شهادتها أمام تجمع الكونغرس الأمريكي لحقوق الإنسان، نيابة عن منظمة سمّت نفسها “مواطنون من أجل الكويت الحرة”، وترعاها الحكومة الكويتية لإقناع الرأي العام الأمريكي بالنظر بعين العطف إلى عمل الولايات المتحدة العسكري في الخليج العربي، بعد ذلك أصبحت شهادة نيرة مثالًا كلاسيكيًّا للدعاية الفظيعة الحديثة.
تشمل العمليات سيئة السمعة الأخرى تقديم المشورة لصناعة التبغ الضخمة، ففي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وبناءً على طلب من الرئيس التنفيذي للشركة المصنّعة للسجائر الرائدة في ذلك الوقت، “أمريكان توباكو”، كلفت كبرى شركات التبغ شركة “هيل آند نولتون” بمهمة استعادة ثقة الجمهور في صناعة التبغ، بعد الكشف عن الأدلة المتزايدة التي تربط التدخين كسبب للأمراض الخطيرة.
“بيرسون مارستيلر” (Burson-Marsteller) هي شركة علاقات عامة عالمية أخرى، متخصصة في معالجة الأزمات للشركات والسياسيين، وخدمت سلسلة من الأنظمة القمعية، بما في ذلك الحكومة السعودية وإندونيسيا، ومثّلت أيضًا مجموعة “بلاك ووتر” العسكرية الأمريكية، ما دفع أحد المعلقين الأمريكيين إلى القول: “عندما يحتاج الشر إلى علاقات عامة، فإن الشر يضع “بيرسون مارستيلر” على اتصال سريع”.
نجحت “بيرسون مارستيلر” مع شركة “كوكاكولا” عندما كانت صناعة المشروبات الغازية مهددة بالانهيار، وعملت لصالح شركة “الوقود النووي البريطاني (British Nuclear Fuels)” بعد كارثة تشيرنوبيل، وكانت كذلك وراء المحاولة الفاشلة لشركة التكنولوجيا الحيوية الزراعية “مونسانتو” لجعل الناس يحبون الأطعمة المعدلة وراثيًّا.
وظفت الحكومة النيجيرية الشركة لتشويه سمعة تقارير الإبادة الجماعية خلال الحرب الأهلية النيجيرية المعروفة بـ”حرب بيافرا”، والمجلس العسكري الأرجنيني بعد الإطاحة بالحكومة واختفاء 35 ألف مدني، والحكومة الإندونيسية المتهمة بارتكاب إبادة جماعية في تيمور الشرقية، كما عملت على تحسين صورة الرئيس الروماني الراحل نيكولاي تشاوشيسكو.
وبعد أيام قليلة من هجمات 11 سبتمبر/ أيلول على الولايات المتحدة، استعانت الحكومة السعودية بهذه الشركة لتقديم المشورة بشأن القضايا وإدارة الأزمات، بعد الإشارة إلى أن معظم مهاجمي 11 سبتمبر/ أيلول كانوا من تلك الدولة الخليجية.
كان من بين عملائها من الشركات محطة “ثري مايل آيلاند” النووية، التي تعرضت لانصهار نووي جزئي في مقاطعة دوفين عام 1979؛ ومفاعل “يونيون كاربايد” بعد أن تسبّب تسرب الغاز في مدينة بوبال في مقتل ما يصل إلى 15 ألف شخص في الهند، في واحدة من أكبر الكوارث الصناعية في التاريخ؛ وشركة النفط البريطانية BP بعد غرق ناقلة النفط “توري كانيون” عام 1967، ما أدّى إلى حدوث كارثة بيئية؛ كما عملت مع الحكومة البريطانية بعد انتشار مرض جنون البقر.
في الآونة الأخيرة، لم تكن الشركة غريبة عن الرسالة -التي كتبها مديرها جوناثان دينكلدين- المناهضة لشركة “جوجل”، والتي مارست ضغوطًا على عدد من الشركات الكبرى في المملكة المتحدة، وحثتهم على إثارة مسألة هيمنة “جوجل” على محركات البحث مع السياسيين والمنظمين ووسائل الإعلام، وفي عام 2007 اعترفت شركة “مايكروسوفت” بأن لديها “علاقة مستمرة” مع الشركة.
كذلك، نصحت “بيرسون مارستيلر” شركة “فوكسكون” -الموردة لشركة “أبل” وإحدى أكبر شركات تصنيع الإلكترونيات التعاقدية في العالم- عند التعامل مع الحكايات الرهيبة التي انتقدت حالات انتحار العمّال المتعددة، المرتبطة بالأجور المنخفضة وظروف العمل القاسية داخل مصانع آيفون، والعديد من المواقع والمرافق الأخرى المملوكة لـ”فوكسكون” في بر الصين الرئيسي.
تنضم إلى “القائمة السوداء” شركة علاقات عامة أخرى هي مجموعة “ريندون” (TRG)، التي استأجرتها وزارة الدفاع الأمريكية عام 2001 لمساعدتها على كسب حرب الدعاية التي تنطوي على عملها العسكري في أفغانستان، وتهدئة المخاوف من أن أفعال القوات الأمريكية ترقى إلى الحرب ضد “الإسلام” وليس “الإرهاب”، ومواجهة الرسائل التي تعتبرها “معلومات مضللة”، ومراقبة وسائل الإعلام الإخبارية في 79 دولة.
اللوبيات وشركات العلاقات العامة للضغط على الكونغرس والإدارة الأمريكية صناعة رائجة في واشنطن، ووفقًا لمقال نشرته صحيفة “ذا هيل“، فإن السلطات المصرية كانت أحد “زبائنها”، حيث تعاقدت الحكومة المصرية بعد أشهر قليلة من الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب مع مجموعة “غلوفر بارك (Glover Park)” للعلاقات العامة، بهدف تلميع صورتها وتفادي مزيد من التراجع لشعبيتها في الولايات المتحدة.
الشركة التي اختارتها الحكومة المصرية تحظى بعلاقات وطيدة مع “إسرائيل” و”اللوبي اليهودي”، فمديرها الإداري ضابط سابق في جيش الاحتلال، وعدد آخر من كبار مسؤوليها كانوا يعملون لدى “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك)”، وهي أكبر منظمات الضغط لدى “اللوبي اليهودي”، المعنيّ برعاية مصالح “إسرائيل” في الولايات المتحدة.
رغم أن عمل الكثير من شركات العلاقات العامة لصالح العملاء متعددي الجنسيات قد يثير الدهشة، فإن بعض الأشخاص الرئيسيين الذين يقومون بعمل سياسي حسّاس داخل وكالات العلاقات العامة لا يقلّون إثارة، ففي كثير من الأحيان يكونون وزراء حكوميين كبارًا سابقين أو مستشارين أو مسؤولين سياسيين.
على سبيل المثال، من بين الموظفين في شركة “ريندون”، ومقرها واشنطن، موظفون سابقون في البيت الأبيض والكونغرس وحكومة بيل كلينتون، وقدّم رئيسها جون ريندون المشورة لحكومات الكويت وهايتي وبنما.
تتضمن السيرة الذاتية السياسية للمدير الإداري السابق لـ”بيل بوتينغر” وأحد أبرز رجالها في الشرق الأوسط، تيم كولينز، فترات عمل كمستشار صحفي لرئيس الوزراء البريطاني السابق جون ميجور، وكتابة خطابات مجموعة من وزراء حزب المحافظين، والانتقال إلى “وحدة السياسة رقم 10” التي تقدم المشورة السياسية مباشرة إلى رئيس الوزراء البريطاني، قبل انتخابه نائبًا عن حزب المحافظين، وبعد فقدان مقعده عام 2005 شقّ طريقه إلى الشؤون العامة.
دارين مورفي، مدير تنفيذي سابق آخر في شركة “بيل بوتينغر”، اجتاز “الباب الدوار” بين السياسة وجماعات الضغط، وقضى 8 سنوات كمستشار خاص في حكومة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، ثم انتقل إلى القطاع الخاص كمستشار سياسي “متخصص في الخدمات المقدمة للحكومات”.
هذا بالضبط ما يمكن أن يحدث عندما ينتقل موظف حكومي يمتلك معلومات أساسية إلى منصب بأجر أعلى في شركة من القطاع الخاص، ويستخدم المعلومات لصالح تلك الشركة على حساب منافسيها.
“بيزنس” العلاقات العامة.. أرباح بالمليارات
سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن مساوئ السمعة لتمثيل الجلادين والطغاة، ستجعل مستشاري العلاقات العامة والشركات المسؤولة اجتماعيًّا يبتعدون، فهذا العمل محفوف بالمخاطر بالتأكيد، لكنه أيضًا مربح للغاية.
في عام 2021، انتعشت أكبر 10 شركات عالمية في مجال العلاقات العامة، وحققت إيرادات بقيمة 6 مليارات دولار، بزيادة 13% عن عام 2020، بعد أن تراجعت بنسبة 3%.
بخلاف الأرقام الرئيسية، هناك بعض الأحداث البارزة التي تشكّل نمو أكبر شركات علاقات عامة في العالم، ومن أهمها على الأرجح الأداء الذي قدمته أكبرها جميعًا شركة “إيدلمان (Edelman)”، التي تعدّ أكبر شركة علاقات عامة مملوكة بشكل مستقل في العالم، وسجّلت نموًّا بنسبة 17% لتقترب من أن تصبح أول شركة تتجاوز عتبة المليار دولار.
كانت “إيدلمان” واحدة من 6 شركات أبلغت عن نمو مزدوج الرقم (+10%) عام 2021، جنبًا إلى جنب مع الثنائي “فليشمان هيلارد” (Fleishman Hillard) و”كيتشوم” (Ketchum) التي بذلت جهودًا كبيرة لتزييف رواية الغزو الروسي لجورجيا.
بينما نمت الشركة المستقلة الأخيرة “برونزويك (Brunswick)” بنسبة 36% عام 2021، وارتفعت بنسبة 43% مقارنة بإيراداتها لعام 2019، ما عزّز قبضتها على المركز السادس خلف الخمسة الأوائل الذين لم يشهدوا أي تغييرات في الموقع.
من المتوقع أن يصل سوق العلاقات العامة إلى 130.5 مليار دولار بحلول عام 2025، بمعدل نمو سنوي مركّب قدره 10.5% خلال الفترة 2020-2025.
ووفقًا لتصنيف “PRovoke Media” لأفضل 10 شركات علاقات عامة عالمية عام 2023، قدمت هذه الشركات عامًا قويًّا آخر عام 2022 بزيادة 12%، وأبلغت عن دخل قدره 6.5 مليارات دولار، بزيادة نصف مليار دولار عن عام 2021.
من بين هذه الشركات، كان النمو لصالح الشركات الموجودة في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، حيث شملت القائمة 7 شركات أمريكية، من بينها 6 شركات في المراكز الأولى، وحافظت الشركات الخمس الأولى على مراكزها المتقدمة التي حققتها في عام 2022.
وتوزّعت المراكز الثلاثة الأخرى بين 3 شركات: شركة “فيكتور (Vector)” اليابانية (في المركز السابع)، و”برونزويك (Brunswick)” ومقرها لندن (المركز الثامن)، وشركة (MSL) الفرنسية في المركز التاسع.
من حيث الانتشار الجغرافي، تهيمن القوى التقليدية في صناعة العلاقات العامة العالمية على تصنيف العام الماضي، حيث تمثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة معًا 10 من أسرع 15 وكالة نموًّا في العالم، ومن بين هؤلاء المتخصصين في العلوم السلوكية في المملكة المتحدة “لين (Lynn)” في المركز الأول، بعد نمو 6 أضعاف إلى 3.5 ملايين دولار، متقدمة على الشركة الأمريكية “فيكتوريوس (Victorious)”.
وفي عام 2018، سيطرت أمريكا الشمالية على حصة سوق العلاقات العامة بأكثر من 33.57%، تليها أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ، على سبيل المثال بلغت حصة الشركات الأمريكية التي تستثمر في العلاقات العامة أكثر من 35%، وبالمثل كانت استثمارات كندا في العلاقات العامة تقريبًا مساوية للولايات المتحدة، وستؤدي كل هذه الاستثمارات والتطورات إلى تسريع الطلب على سوق العلاقات العامة في الفترة المتوقعة.
وفقًا لمسح سنوي أجرته شركة “Gould + Partners” الاستشارية، ارتفعت أرباح وكالات العلاقات العامة في أمريكا الشمالية بنسبة 19.7% من صافي الإيرادات عام 2021، مقارنة بنسبة ارتفاع 18.2% عام 2020، وزيادة بنسبة 2.3% عمّا كان قبل انتشار وباء كورونا عام 2019.
كشفت النتائج أيضًا أن الربحية كانت عالية بشكل خاص في أكبر الشركات، وأن متوسط الإيرادات لكل موظف محترف بلغ 257 ألفُا و732 دولارًا، بارتفاع طفيف عن 255 ألفًا و409 دولارات عام 2020.
ووفقًا لتصنيف “IBISWorld” لاتجاهات وكالات العلاقات العامة العالمية خلال فترة 2018-2023، انكمش قطاع وكالات العلاقات العامة العالمية بمعدل نمو سنوي مركّب نسبته 0.3% خلال السنوات الخمس الماضية إلى 56.2 مليار دولار، بما في ذلك زيادة بنسبة 3.5% عام 2023، وسط توقعات بنمو صناعة وكالات العلاقات العامة العالمية في السنوات القادمة، وتسارع نمو الإيرادات خلال السنوات الخمس القادمة (2023-2028).
ومن المتوقع أن يصل سوق العلاقات العامة إلى 130.5 مليار دولار بحلول عام 2025، بمعدل نمو سنوي مركّب قدره 10.5% خلال الفترة 2020-2025، ويتمثل العمل الرئيسي الذي يدفع نمو السوق في زيادة الطلب عبر العديد من المنظمات، التي تعمل كأداة فعّالة لإدارة السمعة للعلامات التجارية والسياسيين والشخصيات العامة والمنظمات غير الحكومية، للاستفادة من نقاط قوتها في تشكيل الرأي العام.
وتعدّ عمليات الشراكة والاستحواذ من الاستراتيجيات الرئيسية التي يتبنّاها اللاعبون في سوق العلاقات العامة، ففي عام 2018 تركزت توقعات صناعة العلاقات العامة في أيدي أكبر 5 لاعبين يمثلون 52.45% من حصة السوق.
في أبريل/ نيسان 2019، استحوذت مجموعة “Publicis”، وهي شركة إعلانات وعلاقات عامة متعددة الجنسيات، على شركة “Epsilon”، حيث استفادت الأولى من هذه الصفقة بإضافة ابتكارات الشركة الثانية وتقنياتها وإبداعها في منتجاتها أو خدماتها، التي ستساعد العملاء على التغلب على المنافسة والنمو بشكل مربح.
سيأتي المزيد من التغيير في عالمنا، وستستخدم شركات العلاقات العامة الأكثر نجاحًا هذا التغيير لخدمة عملائها بشكل أفضل من أي وقت مضى، ولا عجب حينها أن من أكثر الشركات المرغوبة، هذه هي الشركات التي تساعد في تشكيل الرأي العام والسياسة وإدارة السمعة، تلك الأشياء التي يمكن أن تنمّي أو تُفسد أي عمل.