بعد 12 عامًا من الحرب التي عصفت بسوريا، وما صاحبها من أزمات وتداعيات، لم يعد ينظر إلى البيت الطيني باستعلاء وتكبر، إذ أصبح أفضل الخيارات لدى المهجّرين والنازحين من منازلهم في الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة السورية، والذي يحوي على أكثر من 3 ملايين نازح من كافة المحافظات السورية، يسكنون أغلبهم منذ سنوات في خيام لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، وتحرمهم من خصوصياتهم المسلوبة.
لا يكلف البيت الطيني كثيرًا في شمال سوريا، بسبب تواجد المواد الأولية بوفرة في مكان البناء، إذ تنحصر على الماء والطين والتبن، والتي من شأنها أن تمنح المنزل البرودة في الصيف والحرارة في الشتاء، كما أنها تمنع تسرب مياه الأمطار.
مواساة المهجّرين
“العمش أشوى من العمى”، بهذه العبارة افتتح مهند صليبي حديثه مع “نون بوست”، داخل منزله الطيني المؤلف من 3 غرف في مخيم الحلوانية بريف مدينة جرابلس شرقي حلب، ليؤكد أن هذا البيت بناه هو وزوجته أم عبد الله وأولاده الخمسة منذ قرابة 7 أشهر، ليتخلصوا من الخيمة التي حرمتهم لذة الاستقرار والخصوصية، والأمراض التي لم تفارق أجساد أطفاله خاصة في فصل الشتاء.
يرى صليبي أن بناء المنزل الطيني ليس بالمهمة الصعبة أو الأمر المكلف، بسبب توفر المكان المجاني والمواد الأولية، كما يمكن لأي نازح بناء منزله بنفسه، منوّهًا أن بناء المنازل بالتراب هو أمر متوارث من آبائنا.
يكمل صليبي النازح من بلدة العيس جنوبي حلب حديثه مبتسمًا: “صحيح أننا نرجع إلى الوراء عشرات السنين بدل أن نتطور، لكن هذه المنازل هي أفضل الحلول في ظل الواقع المعيشي الصعب الذي نعيشه”، مواسيًا نفسه بالقول: “تلك البيوت تذكّرنا بالبساطة وزمن الأجداد”، ويبعد مخيم الحلوانية عن مدينة جرابلس قرابة 20 كيلومترًا، ويضم قرابة 250 عائلة معظمهم من أرياف حلب الجنوبية والشرقية.
البناء والتكلفة
في العموم لا ثؤثر هذه البيوت الطينية على الأراضي الزراعية التي تبنى عليها، لأنها أساسًا من أملاك الدولة، فبناؤها لا يحتاج للحفر في الأرض بتاتًا، فطبيعة أرض المخيم كلسية صلبة، وفقًا لمختار مخيم الحلوانية خالد أبو شام.
يسرد أبو شام لـ”نون بوست” أن الدافع الأول الذي شجّع النازحين على بناء هذه المنازل هو رخصة تكلفة البناء من مواد أولية، وعدم الحاجة إلى البحث عن مختصين، إذ يقدَّر ثمن بناء الغرفة الواحدة بطول 6 أمتار وعرض 3 أمتار بـ 150 دولارًا أمريكيًّا فقط.
وأوضح أن عملية البناء تبدأ بوضع أحجار على ارتفاع 30 سنتمترًا فقط على كامل مخطط المنزل، ومن ثم رصف قوالب الطوب فوق بعضها حتى الوصول إلى الارتفاع المطلوب، ومنها إلى وضع أخشاب عريضة تسمّى “عوارض” توضع على سقف المنزل، ومن ثم ربطها وكسوها بالطين الممزوج بالقش.
ويستطرد أبو شام قائلًا: “يبلغ طول لبنة الطوب 50 سنتمترًا وعرضها 25 سنتمترًا، ويتم صنعها عبر ملء قالب يصنع خصيصًا لها، إذ يملأ القالب بالماء والتراب والقش، ومن ثم تيبيسه تحت أشعة الشمس، ما يمنحه قوة وصلابة”.
يقول الشاب محمد خاروفة الذي يسكن مخيم الحلوانية، إنه بنى غرفة طينية واحدة مساحتها 4×4 بـ 100 دولار أمريكي فقط، إذ احتاج إلى قرابة 20 مترًا من التراب، وهو ما قام بجمعه برفقه أولاده من أرض المخيم بعد غربلته للتخلص من الشوائب العالقة.
ومن ثم قام بشراء قرابة 100 كيلو تبن ثمنها 25 دولارًا، وصهريج ماء يحوي 45 برميلًا بـ 15 دولارًا، إضافة إلى 40 دولارًا ثمن أخشاب وحديد ونايلون من أجل السقف والأبواب والنوافذ، و20 دولارًا تكلفة أسمنت ورمل للأرضية.
ولفت إلى أن صناعة القوالب الطينية استغرق معه قرابة 3 أيام، وتجفيفه استغرق يومَين، والبناء وإكساء المنزل (التطيّين) 4 أيام، وتشييد السقف الذي يكون عبارة عن عوارض خشبية يعلوها طبقة من النايلون والشوادر والطين يومَين أيضًا، ومن ثم صبّ الأرضية بالإسمنت والرمل يومًا واحدًا، مؤكدًا أن مدة بناء منزله استغرقت قرابة 12 يومًا.
فقدان الخصوصية
السيدة زليخة خلاصي مهجّرة من ريف حلب الجنوبي، وهي أمّ لـ 6 أولاد، 4 منهم إناث، وتسكن منزلًا طينيًّا في مخيم كفر ناصح بريف منطقة الأتارب غربي حلب، تصف منزلها المكون من غرفتَين فقط بـ”القصر” بالنسبة إليها.
إذ أكّدت خلال حديثها لـ”نون بوست” أنها استعادت خصوصيتها بالكامل، بعد أن كانت تفتقدها منذ سنتَين في خيمتها القماشية، مشيرةً أن السكن داخل هذا المنزل وفّر عليها أشياء كثيرة، منها الطبخ على النار خارج المنزل والذهاب إلى دورات المياه، الأمر الذي وصفته بـ”المحرج” بالنسبة إليها لأن المخيم مختلط، وأنها معرضة لأن يراها جميع الناس، نافية تعرضها لأي عملية تحرش.
تعتبر خلاصي المنزل الطيني أنه أفضل الحلول في رحلة النزوح، وأنه استعاد حريتها في اللباس والعمل المنزلي وخصوصيتها، كحال منزلها الأسمنتي الذي هُجّرت منه في بلدة الزربة جنوبي حلب.
كثيرات من النساء لا يختلف حالهنّ عن حال خلاصي، فالسيدة سهيلة الحسين، وهي نازحة من حي السكري في حلب، وتقيم في مخيم راجو شمال حلب، تؤكد لـ”نون بوست” أنه بعد عيشها قرابة 4 سنوات داخل المخيم، لم تستطع التأقلم بسبب انعدام أبسط حقوقها وهي الخصوصية، ما دفعها أن تصرَّ على زوجها لبناء غرفة طينية للسكن بداخلها كأفضل الحلول وأقلها تكلفة من أي حلول أخرى، وفق قولها.
أفضل الحلول
يؤكد معظم أصحاب هذه المنازل ممّن التقينا معهم، أن الحياة داخل المنزل الطيني أفضل من حياة الخيام بكثير، إذ أجمعوا على أنها تمنح صاحبها الاستقلالية الكاملة على عكس الخيام المصنوعة من النايلون والقماش، التي تكون حارة جدًّا بالصيف ولا تمنع تسرّب الأمطار، إذ يشكّل فصل الشتاء الهاجس الأكبر لدى النازحين الذين تسوء أوضاعهم بشكل كبير، بسبب البرودة الشديدة التي تلامس الصفر، وافتقارهم لأدنى مستلزمات التدفئة.
يحدثنا الشاب المهجر من بلدة أورم الكبرى غربي حلب، محمد الحسين، بكل انفعال، عن أن العام الماضي اُقتلعت خيمته مرتين وغرقت مرة واحدة بسبب الأمطار والرياح، وأن منزله الطيني الذي شيّده مطلع العام الجاري كان مخرجًا له من هذه الأعباء.
وأكّد على أن البناء وفّر عليه تكاليف بناء المنزل الأسمنتي الباهظة بأضعاف، خاصة أن وضعه المعيشي لا يسمح له ببناء منزل كحال منزله الذي هُجّر منه مطلع عام 2020، لافتًا أن كل الذي احتاجه في عملية البناء هو “التراب وقليل من القش والعيدان والحجارة” التي جمعها برفقة أطفاله من الأراضي المجاورة.
نجحت أول تجربة في بناء قرية طينية في مدينة سلقين غربي إدلب عام 2017، إذ أُنشئت قرية “بني سريع” الطينية.
بدوره، يؤكد المهندس المعماري شادي جويني أن تشييد المنازل الطينية في شمال سوريا لاقى استحسانًا جيدًا لدى النازحين والمهجّرين، خاصة أنها أثبتت صلابتها أمام الخيام التي باتت غير صالحة للاستخدام البشري بعد سنوات من العيش داخلها.
وأيّد جويني خلال حديثه لـ”نون بوست” فكرة بناء هذه المنازل، باعتبار أنها ثابتة ومؤقتة في آنٍ واحد، لافتًا أنه من السهل إزالتها كونها لا تعتمد على الحفر في الأرض التي تشيّد عليها، خاصة أن التلال الصخرية والجبلية التي تتميز بها المخيمات، شكّلت عاملًا مساعدًا لتسهيل عملية بنائها بأقل التكاليف المتاحة.
وعن كيفية بناء هذه المنازل، يقول جويني أنه قبل الشروع في بناء المنزل، يتم مدّ خيط أو اثنين متوازيَين في اتجاه أفقي مستوٍ، لتحديد مسار الجدار ونقطتَي بدايته ونهايته واستقامته، مستعينًا بميزان الاستواء لتفادي اعوجاجه أو ميلانه.
ومن ثم يتم البناء، إذ توضع كل لبنة طوب فوق نصفَي لبنتَين حرصًا على تماسك الجدار، وبعد الانتهاء يتم إكساء الجدران بالطين الممزوج بالقش والعيدان من الداخل والخارج ما يجعله جدارًا متينًا، لافتًا إلى أن هذه الجدران يتم إكساؤها سنويًّا بسبب تأثرها بالعوامل الجوية، الأمر الذي يُعيد صلابتها في كل عام.
ونجحت أول تجربة في بناء قرية طينية في مدينة سلقين غربي إدلب عام 2017، إذ أُنشئت قرية “بني سريع” الطينية بدعم من منظمة الهلال الأحمر القطري، وضمّت وقتها 200 شقة سكنية مساحة كل شقة منها 65 مترًا، مكوّنة من غرفتَين وصالون.