طالعتنا الصحافة في يوم السبت 13/ 12/ 2014م بخبر على لسان وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” بأنه يرحب بالعزلة التي يحاول البعض فرضها على تركيا بسبب مواقفها الأخيرة تجاه بعض البلاد العربية وموقف تركيا منها، لقد أتى هذا التصريح عندما أوضح الوزير بأن البعض يزعم بأن إقصاء تركيا من مجلس الأمن في دورته الحالية هو بسبب مواقف تركيا الثابتة المبنية على المبادئ حيال ما يحصل في مصر، وأضاف “ويا مرحى بهذا النوع من العزلة، فالعزلة القائمة على مبادئ تروقني أكثر”.
خبر كهذا، وتصريحات كهذه، عن دولة كتركيا، هذه الدولة التي تجري على لسان أغلب المواطنين العرب وربما الغرب أيضًا بغض النظر تأييدًا لها أو معارضةً، يجعل البعض يتساءل وبإلحاح شديد، ماذا تستفيد تركيا من خطاب المبادئ خصوصًا وأنها تقريبًا الدولة الوحيدة التي تتبنى هذا الخطاب علانية وعلى لسان مسؤوليها؟ وما الذي يجعل تركيا تتبنى هكذا خطاب مع الأحداث المختلفة التي تحدث في الدول العربية كفلسطين وسوريا ومصر ومع المسلمين في آراكان مثلاً؟؟ هل فعلاً قيادة تركيا الحالية تتبنى هذا الخطاب من وحي اهتمام شعبها بهذه الأحداث والمبادئ؟ وهل يساندها الشعب التركي في ظل وقوفها مع هذه المبادئ أم أنه يظن بأن هذا الخطاب سيجلب له المتاعب؟ وما هو تعريف المبادئ التي تتبناها تركيا فعلاً والتي يمكن أن نقيس مدى التزامها بها؟
إن المُطلّع على تاريخ تركيا الحديث – إن صح التعبير – يجد أن من أهم المبادئ التي تؤمن بها هي الديمقراطية، وأن اختيارات الشعوب يجب أن تُحترم، ذلك أنها هي نفسها (أقصد تركيا) عانت مرارًا من إسقاط إرادة الشعب التركي؛ لذلك فهذا المبدأ هو الذي تنطلق منه في مواقفها تجاه ثورات الربيع العربي، وبعيدًا عن السياسة، فإن تركيا الحالية التي تعتبر نفسها وريثة حضارة كبيرة وعريقة المتمثلة بدول الترك والدولة العثمانية تجد نفسها مسؤولة من مبدأ الإنسانية عن إيواء الكثير من مواطني سوريا الذين لجأوا إليها، وبعض المواطنين العراقيين أيضًا، ومسؤولة عن الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني في العيش الكريم وإقامة دولته، ومسؤولة عن رفع الظلم عن مسلمي الروهينجا، ومسؤولة عن تحسين حياة الأفارقة، كل ذلك من منطلق مبدأ الإنسانية التي تعتبره تركيا أنه يجمع البشر جميعًا.
كذلك فإن تركيا الحالية وخاصة بعد تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم وهو المعروف عنه القدرة على المناورة، وكيف يتحدث ويتصرف تجاه قضايا المنطقة وقدرته على قراءة المصالح والعمل وفق ذلك فيما بعد؛ يجعل منه قادرًا على اتباع مبدأ جلب المصلحة للشعب التركي والدولة التركية ككل دون وجود قيود على ذلك طالما أنه يعتقد بأن تركيا يجب أن يكون لها دور ملحوظ على الساحة الدولية وفي الإقليم؛ وهذا ما يفسر علاقة تركيا بروسيا رغم وجود الأولى في حلف شمال الأطلسي.
يمكن تفسير التزام تركيا بهذه المبادئ بأن الشعب التركي مع كل انتخابات تجري في البلاد يجدد الثقة لحزب العدالة والتنمية الذي ينتهج ويلتزم بهذه المبادئ؛ لذلك يجد الحزب نفسه مضطرًا إلى الاستمرار في هذا الخطاب مع تأكيده على أنه بذلك لا يتعارض مع مصالح الدولة والشعب على حد سواء، هذا يعني أنه يمكن القول بأن أهم ما يمكن أن تستفيده تركيا داخليًا من هذا الخطاب هو:
- ثقة عالية من الشعب التركي بقدرة الدولة على جلب المصالح من خلال هذا الخطاب، خصوصًا وأن الحكومة تقوم بتوفير كافة احتياجات الشعب التركي من تنمية واقتصاد.
- تصبح الحكومة التركية في هذا الخطاب قادرة على الموازنة بين الحريات والأمن، انطلاقًا من مبدأ أن من يخترق المبادئ التي تقوم عليها الدولة التركية هو بمثابة عدو للشعب قبل الدولة.
- تجنيب تركيا الكثير من ردات الفعل والأزمات الداخلية، خصوصًا مع المعارضين لسياسات الحكومة أو من طرف الأكراد، بتغليب الدولة خطاب المبادئ المبني على أن جميع من في تركيا هم شعب واحد ولهم نفس الحقوق.
أما على الصعيد الخارجي فيمكن القول بأن تركيا على الرغم من كل ما تملكه من مقومات تجعلها قادرة على تحمل الأزمات التي قد تنتج نتيجة خطاب المبادئ الذي تتبناه، إلا أنها معرضة للكثير من الأزمات بسببه:
- فتركيا حاليًا هي الوحيدة التي ترفع صوتها عاليًا تجاه ما يحدث في مصر، وهي الوحيدة تقريبًا التي تنادي بضرورة حل الأزمة السورية، وهي الوحيدة التي تعمل من أجل القضية الفلسطينية علانيةَ؛ هذا كله يجعلها في الملعب وحدها في مواجهة الآخرين.
- صحيح أن خطاب المبادئ قد يجلب تعاطف شعوب المنطقة، ولكن على السياسة التركية أن تعمل على الموازنة بين عدم فقد ثقة هذه الشعوب وعدم الانجرار إلى عزلة دولية تضغط على تركيا في اتخاذ بعض القرارات التي لا ترغب بها.
- هذا الخطاب تستغله بعض الأطراف التركية والمعارضة هناك في النيل من سياسة الحكومة وبعض رموزها؛ الأمر الذي أشعل فتيل أزمة بين الحكومة وبين ما تسميه هي نفسها “الكيان الموازي”.
- قد تستغل بعض القوى الخارجية هذا الخطاب في إشعال بعض الأزمات المختلفة الداخلية وتحريك ملفات قديمة كملف الأكراد، أو العلاقات التركية الاسرائيلية، أو التركية اليونانية؛ مما يحجم من دور تركيا الإقليمي في المنطقة وانشغالها بنفسها.
صحيح أن كل ما سبق يعد من الأمور الخطيرة على الدولة التركية بسبب تبنيها هذا الخطاب، ولكن مما لا شك فيه بأن تركيا ومن خلال هذا الخطاب تسعى وبشكل أساسي إلى زيادة النفوذ في المنطقة عن طريق مؤسساتها المختلفة الإعلامية والإغاثية والدبلوماسية، كذلك الضغط على الغرب لتحقيق مصالح تركيا من خلال توجيه الخطاب لشعوبهم وإيمانهم بقيم الديمقراطية والإنسانية، بالإضافة إلى استغلال تركيا (بجانب هذا الخطاب) لموقعها الجغرافي وقوتها الاقتصادية الصاعدة، وسياستها المتوازنة تجاه الأحداث والتي تجعل منها دولة محورية لا يمكن تجاهلها.
إذن، فالديمقراطية والإنسانية وجلب المصالح ركائز مهمة في خطاب تركيا الحالي، والالتزام بهذه المبادئ يجعل من تركيا في واجهة السياسة الدولية؛ الأمر الذي يجعلها أيضًا عرضة للكثير من الضغوطات والأزمات، فهل تنجح في تجاوزها؟ الأيام والأحداث كفيلة بالإجابة.