“إنهن في كل مكان”، هكذا تقول بطلة في مسلسل “شراب التوت البري” عندما ترى امرأة محجبة لترد عليها الأخيرة قائلة: “أنت عدوة الحرية”، فتردّ المتبرجة: “لأكن كذلك إن كانت تضمن هذا التخلف”، مشيرةً إلى الحجاب.
انتهى الموسم الأول من مسلسل “شراب التوت البري” قبل مدة قصيرة، وهو من إنتاج شركة غولد المملوكة لرجل أعمال يدعى فرقان تورغوت، وهو معروف بدعمه لحزب الشعب الجمهوري اليساري، أما مخرج العمل فهو هاكان كيتجه، وهو معروف أيضًا بمواقفه العنصرية المعادية لمظاهر الدين في المجتمع وللاجئين كذلك، العرب منهم خصوصًا، أما كاتبة العمل فجميع أعمالها السابقة تتمحور على النخبة العلمانية في المجتمع التركي، مثل مسلسل “التفاح الحرام” الذي انتهى مؤخرًا بعد 6 مواسم، فإلى أي مدى نجحَ المسلسل في تصوير المجتمع التركي المتدين؟ ولماذا تثير قصص المتدينين في المسلسلات الجدل؟ ولماذا يستاء المتدينون من طريقة تصويرهم؟
الدين الغائب
تدور المسلسلات التركية غالبًا عن قصة حب، في مجتمع علماني لا يظهر فيه أي أثر للدين الإسلامي إلا في قراءة الفاتحة على قبور الأموات، وهو النمط الذي تنتجه جُلّ شركات الإنتاج، باستثناء المسلسلات التاريخية التي دأبت شبكة “تي آر تي” الحكومية على إنتاجها في السنوات الأخيرة، لكن مؤخرًا أُدخلت بعض الشخصيات المحجبة في بعض الأعمال، مثل مسلسل “طيف إسطنبول” الذي أنتجته نتفلكس وأدّت بطولته إويكو كرايال، ومسلسل “عمر” الذي يعرَض على قناة “ستار” التركية، وأخيرًا مسلسل “شراب التوت البري”.
يظهر في معظم هذه المسلسلات انقسام كامل بين الطرفَين.
يبدأ المسلسل حين يعلم “فاتح” الشاب الملتزم دينيًا بأن صديقته حامل، وحين أخبر والده بالأمر، قابله بصدر رحب كونه بركة من الله، وكأنه حدث طبيعي متوقع، وهي حالة تطرحها المسلسلات التركية بكثرة حتى يرتأى للمشاهد أنها ظاهرة مألوفة جدًّا، رغم أن الإحصاءات تشير إلى أن أقل من 3% من المواليد في تركيا يولدون خارج مؤسسة الزواج.
في المقابل، ترفض والدة الفتاة هذه العلاقة بشكل قاطع، بسبب ثقافة الشاب المختلفة عنهم، فقد ولد وترعرع في منطقة فاتح، وهي معروفة بسكانها المتدينين، لتبدأ بعدها الأحداث في عرض الاختلافات بين المجتمعَين، في اللباس وأسلوب الحديث والعادات اليومية والعلاقات الاجتماعية.
تتلاحق المشاهد التي تبين نمط معيشة هذه الفئة من المجتمع التركي وعاداتها اليومية مثل امتناعها عن شرب الخمور أو التعامل مع أشخاص من ديانات أخرى أو دخول الكنائس، ثم نشاهد تباعًا في الحلقات كيف تقوم العلاقة بين أفراد العائلة المتدينة على توتر دائم، ناهيك عن الرسائل التي تمرّ ضمن حوار الشخصيات عن وضع المرأة في المجتمع المتدين، وكيف تتلقى الإهانات بهدوء وتكرّس حياتها من أجل الرجل.
ولم ينتهِ الجزء الأول من المسلسل حتى شهدنا الأم المحجبة تُشبع الكنّة المتبرجة انتقادًا بسبب طريقة ملابسها، وعلاقتها بزوجها، معتبرةً أنها لا تكرّس الوقت الكافي لزوجها، ثم شاهدنا كيف تجبر العائلة المتدينة ابنتها على الزواج من شخص ينتمي هو الآخر إلى عائلة متدينة أخرى رغم أنها لا تحبه، دون الاكتراث لمشاعرها أو لسوء سمعة الشاب الذي يعنفها.
وفي النهاية، نشاهد اكتشاف خيانة ابن العائلة الملتزمة الدينية لزوجته، وهنا نسمع الاتهامات التي يكيلها العلمانيون للمتدينين على لسان أمّ الفتاة، وهي تصرخ في وجه والدَي الشاب وتقول لهما أنتما هكذا، حيث يصول الرجل ويجول كما يشاء خارج المنزل وعلى الفتاة الجلوس في المنزل والتزام الصمت.
فلسفة الحياة التركية
إن مجتمع الفنانين في تركيا في معظمه يتكون من أشخاص قادمون من أسر علمانية، وخلال العديد من الاستحقاقات الانتخابية عبّر نجوم الدراما التركية بطرق مباشرة وغير مباشرة عن دعمهم للمعارضة، وتحديدًا الأطراف اليسارية العلمانية، ويصف جُلّ العاملين في هذا القطاع أنفسهم بأنهم أتاتوركيون، نسبة إلى مؤسس الجمهورية والعلمانية التركية.
ولفظ أتاتوركي يستخدَم في تركيا للتعبير عن الانتماء لمبادئ أتاتورك، وتبنيهم لفكره وأسلوب حياته ورؤيته عن الدولة والمجتمع، وبحسب كثير من المؤرخين فإن مؤسّس تركيا رأى أن الإسلام عقبة أساسية أمام تقدم الجمهورية الناشئة، وأن أهم مهمة تواجههم هي الحيلولة دون تأثير الإسلام على الجماهير، كما يرى مطّلعون أن العلمانية في تركيا من أكثر أشكال العلمانية تعقيدًا، فلعقود طويلة لم تكن مجرد فصل الدين عن الدولة، بل كانت محاربة الدولة للدين ومظاهره خصوصًا الحجاب.
حتى مع استلام حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002، واجه صعوبات في تسمية رئيس الجمهورية، وأحد الأسباب هو ارتداء زوجة مرشحه في ذلك الوقت، عبد الله غول، للحجاب، وهو ما أثار حفيظة العلمانيين في الدولة.
هذه الأفكار التي يمكن وصفها بأنها عدائية تجاه الدين، كانت أفكار البيئات الحاضنة لمعظم المخرجين والممثلين والكتّاب الذين أسّسوا عالم السينما والدراما التركية، ويمكن القول إن سمة العلمانية تظهر في تركيا بكونها هوية فردية شخصية، ولا تقتصر على كونها تيارًا سياسيًّا ينادي بفصل الدين عن الدولة، بل هي تنادي بفصل الدين عن المجتمع العام وحصره في ضمير الفرد، دون أن يتدخل في أسلوب الحياة أبدًا، كماذا يشرب الإنسان أو كيف يجب أن يلبس.
فحين تكتب المؤلفة عبارة “أنا ضد الحرية إن كانت ستأتي بهذه الأشكال”، فهي تعبّر، وإن لم تكن متعمدة، عن سياسة منهجية سنّتها المحكمة الدستورية التركية حين اعتبرت العلمانية عقيدة رسمية شاملة ومبدأ شاملًا يسبق جميع الحريات والحقوق، وهي مشروع هندسة اجتماعية تشكّل هيكلة المجتمع المرجوة.
في سياق متصل، نضيف أن الحجاب كان من المظاهر التي مُنعت بعد تأسيس الجمهورية، لكن الأمر لم يتحول إلى قانون ساري المفعول إلا في انقلاب عام 1980، ثم جاء انقلاب فبراير/ شباط 1997 وكانت الفترة الأكثر عداء وقسوة تجاه الحجاب، وحتى مع استلام حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002، المعروف بخلفيته المحافظة، واجه مؤسسو الحزب صعوبات في تسمية رئيس الجمهورية، وأحد الأسباب هو ارتداء زوجة مرشحه في ذلك الوقت، عبد الله غول، للحجاب، وهو ما أثار حفيظة العلمانيين في الدولة بأن تكون سيدتها الأولى امرأة محجبة.
في ظل هذه الأجواء السياسية وانعكاساتها الاجتماعية، كانت الدراما التركية تتشكّل وتتضح ولا يمكن أن ننكر تأثير الأوضاع السياسية والاجتماعية على البيئة الفنية، فهي تشكّل بطريقة ما انعكاسًا للدولة أمام العالم، لذلك فإن تجسيد المحجبات في المسلسلات كأنهن جزء من المجتمع لم تكن واردة، خصوصًا أن هذا الفن يسعى للمنافسة عالميًّا ويتجه نحو الغرب.
وبناءً عليه، يمكن القول إن تجسيد المحجبة في العمل الدرامي دخل متأخرًا، وهو نتيجة طبيعية باعتبار أن المحجبة لم تستطع أن تمارس حياتها بشكل طبيعي قبل عام 2013، لكن حين جُسّدت شخصية المحجبة لم تُقدَّم الصورة بأفضل شكل ممكن، بل صُوّرت تمامًا كما يراها العلمانيون، متأخرة عن ركب الحضارة والتقدم بسبب حجابها، ونال هذا الظهور نقدًا واسعًا من المجتمع التركي، كما حدث مع مسلسل “شراب التوت البري”.
لذلك، ما يراه المشاهد تشويهًا للبيئة المتدينة، قد يكون ضرورة لكاتب السيناريو أو المخرج أو الشركة المنتجة، فهو دفاع عن الدولة التي يحبها، والقيم التي يؤمن بأنها السبيل للتقدم والرفاه، كما أن البيئة العلمانية التي تسيطر على عالم الفن التركي تتوق لدخول سوق العمل الفني الأوروبي والمنافسة عالميًّا، وعلمانيتها تفرض عليها قناعة مسبقة سنّتها القوانين منذ تأسيس الدولة، بأن الإسلام يجب أن ينتَزع من تركيا كي تصبح جزءًا من الحضارة الغربية.
هذه العلاقة المتوترة بين الطرفَين يعتقد كثيرون أنها متبادلة وليست من طرف واحد، فالمتدينون في المجتمع التركي عانوا من التشدد العلماني للدولة، ويدركون أن المجتمع المتدين الذي يريدون، وإن كان بعيدًا عن السياسة، لا تقبله الفئة العلمانية، وهي وجهة نظر يدلل عليها المسلسل من خلال مشهد صوّر فيه المرأة العلمانية المتبرجة تزور حفلًا محافظًا مع صديقها، لتقابَل باستياء مبطن بسبب لباسها، وتستاء المحجبات من وجودها ويستخدمن العبارة نفسها التي قالتها في الاعتراض على وجودهن: “إنهن في كل مكان”.
حرب “الريتنغ”
عادةً ما تصوَّر حلقات المسلسلات التركية أسبوعيًّا، ويستأنف المسلسل أو يتوقف بناءً على “الريتنغ” أو نسب المشاهدة، لذلك تحرص شركات الإنتاج على تقديم مادة ترضي الجمهور وتجذبه، هذه الحقيقة تلفت النظر إلى نقطتَين، أنه لم يكن بالإمكان تجاهل فئة كاملة من المجتمع لفترات طويلة، وبناءً عليه بدأ العاملون في هذا الحقل إدخال الشخصيات المحجبة في أعمالهم، بل كانت عاملًا مهمًّا لزيادة الجدل والمشاهدات.
وإن تركنا وارد التشويه المتعمّد في مسلسل “شراب التوت البري”، فإن تصوير المتدين لم يكن واقعيًّا ولم يقدّم صورة مقنعة، بل كان في معظمه مثيرًا للاستفزاز، فتارة نرى أن الشاب يدخل في علاقة حميمة مع فتاة وينتج عن هذه العلاقة حمل، ويكون للأمّ والأب موقف ودود تجاه هذا الأمر، لكن في المقابل تقوم قائمة المنزل حين تزين الفتاة جدران غرفة الطفل القادم بصور حيوانات من ضمنها صورة خنزير، أو حين تزور الفتاة كنيسة.
اعتبر المشاهدون أن هذه المشاهد تنمّ عن جهل كاتبة المسلسل بالمجتمعات المتدينة، إذ شكلت الشخصيات والأحداث بناءً على تصورها الشخصي للملتزمين دينيًا وليس استنادًا إلى واقع المجتمع التركي، ما تسبب في اعتراض شخصيات دينية معروفة في تركيا على أحداثه، مثل إمام مسجد آيا صوفيا، محمد بوينكالن، باعتباره يتعمد الإساءة للرموز والطقوس الإسلامية، ويشوه المبادئ الدينية بوصفها تخلف ورجعية ومصادرة للحرية، ولا سيما بعد حلقة عُرضت في رمضان تصور جدالًا بين شخصيات المسلسل عن الإفطار والشرب في الشهر الفضيل، ودفاع المرأة العلمانية عن ذلك بقولها إن تركيا بلد علمانية ويحقّ لأي شخص الشرب متى أراد.
اعتبر أيضًا الأكاديمي التركي، عدنان كالكان، أن التركيز على مواطن الخلاف الحاد بين الفئتين العلمانية والمتدينة هو تعميق للاستقطاب الاجتماعي والسياسي في المجتمع، وهو هدف غير بريء للمسلسل، وأن العداء الواضح للدين فيه من عمل الكتّاب والمنتجين الذين لم يتعايشوا مع أي فئة أخرى من المجتمع وينتهزون كل فرصة لإطلاق رصاصة في روحه.
كتبت كذلك صحيفة “يني عقد” مقالًا عن العمل وأسمته “شراب العلمانية لا التوت”، باعتباره يعيد صبّ القيم العلمانية في المجتمع التركي، فيما صرحت شخصيات تركية مشهورة أن المسلسل بالغَ في طرح القضية، واستحضر خلافات ونقاشات انتهت منذ سنوات، وهو يحاول إعادة إحياء الصراع وإذكاءه، لإفساد القبول الذي بات يحظى به المتدينون في جميع المجالات.
توازن ممكن
نموذج “شراب التوت” وغيره لا ينفي وجود الاستثناءات، فمسلسل “اشرح أيها البحر الأسود” قدّم الفتاة المحجبة كونها محامية قوية الشخصية دمثة الخلق، وكان الشيخ في القصة مساندًا للمرأة وداعمًا لها، فيما حاول مسلسل “طيف إسطنبول” تقديم المحجبة بصورة عادية، وسلّط الضوء على الكره غير المبرر الذي يحمله بعض العلمانيين للمحجبات وحياد بعضهم تجاهه.
ولأن إنتاج الأعمال واستمراريتها في تركيا تعتمد على تقييم الجماهير ونسبة المشاهدات، فإن التأثير فيها من قبل المشاهدين أمر سهل وحتمي، وكل ما يتطلبه الأمر هو انخراط المتدينين في عالم الفن وعدم الاكتفاء بالمشاهدة، وتقديم الاعتراضات إعلاميا حتى يستطيعوا التأُثير في قصص الأعمال الدرامية.