منذ خمسينيات القرن الماضي، تستقبل ليبيا مهاجرين مصريين للعمل على نهضة البلاد في مجالات كثيرة، وأولها التعليم، وبحلول العام 2009 كان عدد المصريين العاملين في ليبيا يقارب 2 مليون مصري، وهي النسبة التي كانت تعادل 30% من العاملين المصريين في الخارج آنذاك.
ظلت ليبيا بمثابة باب رزق كبير أمام المصريين الذين ضاقت عليهم الأحوال في بلادهم، حتى بعد أن تأثرت كثيرًا جراء الحرب الأهلية التي لم تضع أوزارها بعد منذ عام 2011، إلا أن إقبال المصريين على الأراضي الليبية لم يتوقف، وإن اختلفت الطبقات التي تهاجر إليها، سواء كانوا من الطبقة الوسطى أو الدنيا، لكن بطبيعة الحال، اختلفت طرق الهجرة، إذ لم تعد “رسمية” أو “شرعية”، بل أصبحت محطة عبور تقليدية للمهاجرين وطالبي اللجوء غير النظاميين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا بحرًا، وتحديدًا إلى إيطاليًا.
لا شك أن العديد من الشبان يفضلون البقاء في ليبيا بحد ذاتها، طامعين في دينارها الذي يساوي 7 جنيهات مصري، ففي عام 2022، تجاوز عدد المصريين الموجودين في ليبيا ما يقارب الـ 150 ألفًا، ويشكّلون ما نسبته 21% من المهاجرين في ليبيا، وهو العدد الأكبر بعد المهاجرين النيجيريين، والذي ربما كان ليزيد لولا أن هناك عددًا من الشباب قد لاقى مصيرًا لم يكن يحلم به يومًا في طريقه إلى ليبيا.
الطريق يبدأ من القرية
حين تقابلنا أثناء قضاء الخدمة العسكرية الإجبارية، لم أكن أعلم أن “ح. ح”، ابن الـ 18 ربيعًا، نجا من مصير رجال غسان كنفاني تحت الشمس.
في قريته في صعيد مصر، يتشابه حاله مع أغلب مجايليه من الذكور، فالفقر لا يسعف الكثيرين لاستكمال دراستهم، وتتنوع المآسي التي تؤدي بهم إلى مصير واحد، وهو الأمّية.
أما مأساة “ح. ح” فتركزت في فقده والديه واضطراره لترك الدراسة والتوجه إلى العمل لكي يعيل نفسه وأخيه، محاولًا أن يوفر قوت يومهما دون النظر إلى الغد ومفاجآته.
يعدّ الصعيد المكان الأفضل لشبكات مهربي البشر الذين يعرَفون بالسماسرة، والمسؤولون عن سفر المهاجرين وطالبي اللجوء إلى ليبيا، إذ تؤكد منظمة الهجرة الدولية أن أكثرية المصريين في ليبيا جاؤوا إليها من المنيا وأسيوط وسوهاج، ثم تأتي البحيرة من محافظات الوجه البحري.
يأتي ذلك نتيجة لندرة الوظائف التي تؤمّن دخلًا محترمًا لأصحابها في الصعيد، إذ يعاني قطاع التعليم بمختلف مراحله من مشكلات كثيرة، ما يؤدي إلى خلق فئات كبيرة من الشباب الباحثين عن فرص كريمة، وهو ما يجعلهم فريسة سهلة بيد تجار البشر الذين سهّلوا دخول 66% من إجمالي عدد المصريين في ليبيا، وهم من المحظوظين الذين استطاعوا اجتياز طريق الموت والخطر الذي يكلف ما بين 15 إلى 20 ألف جنيه مصري، وهو مبلغ غير يسير لكن لتجميعه قصة أخرى معقدة.
حين قرر “ح. ح” أن يخوض غمار تلك الرحلة المميتة، استدان من كل الذين يعرفهم مبلغًا يقارب الـ 25 ألف جنيه، وباع ما باعه من متعلقاته الشخصية، ليدفع منها 17 ألفًا للسمسار، والبقية احتفظ بها استعدادًا للمجهول المنتظر، وذلك إلى أن يجد عملًا في ليبيا سيعوضه في وقت قصير كل ما استدان وأزيد منه، كما كان يأمل.
كانت دوافعه الرئيسة للبحث عن “السراب الليبي” هي أن يضمن لأخيه حياة كريمة وتعليمًا جيدًا، لا يستثني منها رغبته في “تكوين نفسه” من أجل الزواج والاستقرار، وأن يعود يومًا ليفتح مشروعه الخاص في قريته أو في محيط مجاور لها.
يضاف إلى ذلك، هروبه من مدة التجنيد الإجبارية للعساكر الأمّيين، والتي تقدَّر بـ 3 سنوات وشهرَين، لا يتقاضى فيها المجند سوى 400 جنيه شهريًّا بالكاد تكفيه أسبوعًا واحدًا يقضيه في معسكره، وهي تجربة كفيلة بتدمير حياته.
وعلى عكس نمط هجرة المصريين النظامية إلى دول الخليج، التي تعتمد على سياسة “لم الشمل”، تأتي الهجرة إلى ليبيا بطريقة غير نظامية بعد تشجيع وإغواء السمسار والتغرير بالشباب من أمثال “ح. ح”، إذ يعدهم بالثروة ويأمرهم بالسعي للحصول عليها، ويضرب لهم أمثالًا لمهاجرين وصلوا ونجحوا، ومنها ما قد يكون حقيقيًا أحيانًا وما قد يكون خيالًا، وغالبًا ما يستثني في حديثه مخاطر الطريق ومفاجآت الرحلة، ويغلف كلامه بعبارات تستفز رجولتهم وحماسهم، مثل قوله بأنها “خطوة عايزة راجل”، كما أن العمل الذي ينتظرهم لا يحتاج إلى ثقافة تكنولوجية وخلافه، وإنما أبدان قوية للعمل في النجارة والبناء والفلاحة.
في ضيافة “أولاد علي”
بعد أن يجمع السمسار نحو 20 شخصًا، جنى منهم ما يقارب نصف مليون جنيه مصري، ينقلهم عن طريق أحد السيارات الخاصة به إلى مدينة السلوم المصرية ليسلمهم إلى السماسرة الآخرين، والذين ينحدر أغلبهم من قبائل “أولاد علي” التي تسيطر على تلك المدينة الحدودية.
يحكي العائدون من ليبيا أن من كان يقع منهم عطشًا أو جوعًا كان يترَك ليموت، ومن كان يستسلم في نصف الطريق ويرغب في العودة إلى بلده مرة أخرى، فكان المهرب يخبره أن يعود وحيدًا
ينزل المهاجرون في تلك البقعة بضعة أيام غير مرحّب بهم، إذ لا يلقون سوى الفظاظة والمعاملة الخشنة من أدلّائهم للطريق إلى ليبيا، الذين يعاملونهم معاملة الراعي والأغنام، غير أن الراعي يخشى على أغنامه ويعطف عليهم.
وبعد أن تنقضي مدة “الترانزيت”، ينقل أحد القبليين هؤلاء الشباب إلى داخل المنطقة الحدودية، التي يوجد بها الكثير من كمائن الشرطة والجيش المصري، وغالبًا ما يعبر بهم بحجّة أنهم مجموعة من المياومين الذين يعملون في أحد المشاريع داخل المدينة، وهذا سبب اصطحابه لهم، وأحيانًا يعبر بهم مختبئين في فناطيس الماء، وهذا ما حدث مع “ح. ح”.
ينتهي دوره عند تسلميهم إلى المهرب النهائي لرحلتهم، وهو شاب أو مراهق يعرف طريق الجبال ومسالكها الوعرة أكثر من اسمه ونسبه، ليقودهم في رحلة قد تمتد إلى 7 أيام مشيًا على الأقدام قبل دخول ليبيا، حيث يتحتّم على المجموعة أن تسير في مسالك الجبال الوعرة ليلًا فقط، فيما تختبئ نهارًا، ويسيرون حاملين أمتعتهم كأنها صليبهم، هربًا من أبراج الحراسة وكمائن الحراسة للجيش والشرطة.
وسيكون عليهم بينما يسيرون ليلًا أن يكونوا حذرين من الذئاب والعقارب وأفاعي طرائش الجبل السامة، وربما يعبرون إحدى مناطق الألغام التي يجب عليهم الحذر بشأنها كما ينبّههم دليلهم، بالإضافة إلى ذلك سيتعيّن عليهم التقطير في الزاد من الماء والأكل حتى يكفيانهم في تلك الرحلة الأشبه بالنزوح من حرب.
في الكثير من القصص، يحكي العائدون من ليبيا أن من كان يقع منهم عطشًا أو جوعًا كان يترَك ليموت، ومن كان يستسلم في نصف الطريق ويرغب في العودة إلى بلده مرة أخرى، فكان الدليل (المهرب) يخبره أن يعود وحيدًا وألّا دخل له بتلك المسألة، وما أكثر الجثث التي لم يقتلها أحد سوى التيه والعطش في الصحراء الغربية.
في حالة “ح. ح”، أمسك حرس الحدود المجموعة التي كان يسير معها، وسلمهم إلى المخابرات التي حققت معهم وسجنتهم لأيام معدودة، ثم أخلت سبيلهم بما فيهم السمسار الذي تدخلت قبيلته للإفراج عنه، وهكذا عاد “ح. ح” إلى قريته بعد أن فقد 25 ألفًا من الجنيهات كان عليه أن يردها حالما يجد عملًا، أما وحالته هكذا فقد قال لـ “نون بوست”: “قررت أن ألتحق بالجيش وأقضي فترة الخدمة الإجبارية وألا أهرب من التجنيد، هربًا من الديون، أما أخي فقد دبرت السفر له إلى القاهرة عند مجموعة من معارفنا ليعمل في أي عمل يجني منه قوت يومه”.
العابرون
باستثناء الذين ينجون من رحلة الموت، هناك من تكتمل مآسيهم، فربما تختطف العصابات أحدهم وتطالب عائلته بفدية قد تصل إلى 5 آلاف دولار أمريكي ما يعني قتله في النهاية، لأن عائلته لن تقدر على الدفع على كل حال، وذلك عدا عن المصريين الأقباط الذين تعرضوا للاختطاف والقتل على أيدي الميليشيات المتطرفة في ليبيا مثل الحادثة الشهيرة عام 2016.
وغالبًا ما تحتجز عصابات التهريب المهاجرين لبضعة أيام، من أجل التنسيق لوسيلة الهروب خلال تلك الأيام، وخلالها قد يتعرض للضرب والشتم إذا حاول أن يطالب بأشياء بسيطة مثل الاستحمام أو الأكل أو الشرب، والتي كان بالفعل يعتقد أنه قد دفع ثمنها للسمسار مقدمًا.
قبل أن نلوم الحكومة الليبية، أو عصابات المهرّبين، أو شرطة وحرس الحدود المصريَّين، لا يجب أن نغفل القضية الرئيسية في توجيه اللوم إلى اختباء الحكومة المصرية وراء شعارات مثل “حياة كريمة لكل مواطن مصري”
وكثيرًا ما تداهم الشرطة الليبية أماكن تلك العصابات، وفي شهر يونيو/ حزيران الماضي استطاعت الشرطة مداهمة أحد تلك العصابات، وأعادت 4 آلاف مصري سيرًا على الأقدام مرة أخرى إلى مصر، في مشهد أشبه بمشاهد أسرى حرب أو نازحين، لكنه طبيعي جدًّا للمصير التعيس الذي قد يلقاه المهاجر غير الشرعي.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2022 ، استطاعت الشرطة الليبية كشف عصابة أخرى كانت تنقل مجموعة من المصريين للعمل في الداخل الليبي وتنقلهم في مدينة مصراتة، وكانت المشاهد التي اُلتقطت لتلك العملية خير معبّر عن المأساة التي يواجهها مطاردو السراب الليبي، حيث صُوّروا مهرَّبين في صناديق تشبه كثيرًا علب السردين، كانت في قعر إحدى الشاحنات الكبرى، وسلمتهم الشرطة الليبية إلى الحدود المصرية أيضًا.
ومن عبر واستقر لفترة ما لا يأمن ألّا يتم اكتشاف وجوده غير الشرعي داخل البلاد، فكثيرًا ما تكتشف الحكومة مثل تلك الحالات وتقوم بترحيلها إلى مصر مرة أخرى.
لكن هل يُمكن توجيه اللوم إلى الشرطة الليبية؟ في الواقع قبل أن نلوم الحكومة الليبية، أو عصابات المهرّبين، أو شرطة وحرس الحدود المصريَّين، لا يجب أن نغفل القضية الرئيسية في توجيه اللوم إلى اختباء الحكومة المصرية وراء شعارات مثل “حياة كريمة لكل مواطن مصري”، والتي تنتشر في كل مكان في قنوات التليفزيون وإعلانات الشوارع.
هذا بينما تحاول الحكومة من خلالها أن تغطي على مئات الآلاف الذين يتوسلون الصحراء أو البحر هربًا من تلك البلاد، التي لم تعد لهم فيها ولو حياة شبه كريمة، أو أي وسائل للرزق حقيقية تساعدهم على بناء مستقبل والتطلُّع إلى الترقي في مستوى معيشتهم، فتكون المغامرة المميتة تكفل حلمًا أثمن من العيش الآمن في بلاد لا تكفل لذويها من هؤلاء المهمشين أي شيء على الإطلاق.