أعلنت كل من الخرطوم وطهران استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد قطيعة استمرت نحو سبع سنوات، وفق ما أعلنه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في مؤتمر صحفي له أول أمس السبت 8 يوليو/تموز 2023، لافتًا أنه ونظيره السوداني علي الصادق، اتفقا على إعادة فتح السفارات وتبادل التمثيل القنصلي بين الدولتين.
وأكد الوزيران خلال لقاء جمعهما في باكو الخميس 6 من الشهر الحاليّ على “حل بعض سوء التفاهم بين البلدين وتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين طهران والخرطوم”، وفقًا لوكالة “إرنا” الإيرانية، فيما أوضحت الخارجية السودانية في بيان لها أن الطرفين “تباحثا بشأن إعادة العلاقات بين البلدين في أقرب الآجال، بما يعود بالمنفعة على البلدين”، مضيفة “تم التأكيد من الجانبين على أهمية أن تعود العلاقات السودانية الإيرانية إلى سابق عهدها بما يُمكن البلدين من الاستفادة من فرص التعاون المشترك في شتى المجالات”.
وتأتي هذه الخطوة كأحد المخرجات السياسية العاجلة لإعادة استئناف العلاقات بين طهران والرياض قبل أشهر، التي يحاول الجانب الإيراني توظيفها بشكل برغماتي لخدمة أجندته التوسيعة وإعادة بسط نفوذه في مناطق الثروة والحضور السياسي والاقتصادي في المنطقة.
عودة العلاقات الإيرانية مع دولة بحجم السودان ذات موقع لوجستي وثقل محوري قوي داخل القارة الإفريقية، ربما يعيد الزخم الإيراني لتلك المنطقة الحيوية من إفريقيا وذلك بعد سنوات من العزلة والمعاناة، لتبدأ طهران جني حصاد التطبيع مع السعودية يومًا تلو الآخر، مستغلة حالة الفوضى التي تعاني منها الدولة السودانية الرخوة في أعقاب حرب الجنرالات المستعرة منذ أبريل/نيسان الماضي.
في فلك السعودية
مثلت السعودية الفلك الأكثر حضورًا لتشكيل العلاقات السودانية الإيرانية خلال السنوات الأخيرة، فقطع العلاقات مع طهران قبل سبع سنوات كان في الأساس تعاطفًا مع المملكة ودعمًا لها حين اقتحم محتجون سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مشهد، ردًا على إعدام السلطات السعودية الداعية الشيعي السعودي نمر النمر بتهم تتعلق بالإرهاب.
حينها أعلن الرئيس السوداني المعزول عمر البشير قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في يناير/كانون الثاني 2016، لتفقد طهران إحدى نوافذها اللوجستية لتعزيز حضورها داخل القارة الإفريقية، وهي الخطوة التي دفعت الدولة الإيرانية ثمنها غاليًا جدًا من نفوذها الإفريقي.
“السودان الآن ليس به حكومة دائمة رسميًا، وبالتالي فإن التحركات الحاليّة تعكس رغبة تلك الحكومة المؤقتة في البحث عن داعمين لها في الداخل والخارج، خاصة في ظل محدودية الجهات الخارجية التي قد يكون لديها رغبة في تقديم الدعم المباشر لأي من أطراف النزاع”.. المحلل السياسي السوداني فريد زين
الأمر تكرر قبل ذلك في 1987 حين أراد رئيس الوزراء السوداني الأسبق الصادق المهدي زيارة السعودية بجانب عدد من دول الخليج، وقتها كانت العلاقات بين الخرطوم وطهران تحيا حالة من التناغم والإيجابية، لكن قبل الزيارة بأسبوع واحد فقط حلت الحكومة السودانية جمعية الصداقة السودانية الإيرانية (التي تأسست عام 1985 بعد عودة العلاقات بين الخرطوم وطهران كأحد الروافد للتقارب بين الشعبين) بقرار مفاجئ من وزيرة الشؤون الاجتماعية رشيدة إبراهيم عبد الكريم، دون توضيح أي أسباب.
القرار حينها فُسر على أنه رسالة طمأنة بعثت بها الخرطوم للسعوديين والخليجيين بصفة عامة بأن العلاقات مع إيران لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون على حساب العلاقات مع دول الخليج، وهي الرسالة التي أتت أكلها لاحقًا حيث الدعم الخليجي الذي قدم بعد ذلك للسودانيين.
اليوم ونتاجًا لتطبيع المملكة العلاقات مع إيران، ها هو السودان يتخلى بالتبعية عن مواقفه السابقة ويعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016 لتبدأ صفحة جديدة من العلاقات الإيرانية السودانية، تثار معها الكثير من التساؤلات والمخاوف في آن واحد، خاصة في ظل اليقين بأن طموح الإيرانيين لن يقف عند حدود استئناف العلاقات الدبلوماسية فحسب، كما أنه لن يُحجم بحدود السودان فقط.
التوقيت.. علامة استفهام
عودة العلاقات الدبلوماسية في وقت يشهد فيه السودان فراغًا سياسيًا وأمنيًا جراء حرب الجنرالات، ومعاناة مستمرة من وضعية رخوة قابلة للاختراق من الجنبات كافة، كان مثار تساؤل لدى البعض عن دوافع طهران الحقيقية من هذه الخطوة في هذا التوقيت الحساس الذي تعاني فيه البلاد من هشاشة سياسية وأمنية غير مسبوقة.
“سر التوقيت يثير الريبة والشك”، هكذا علق المحلل السياسي السوداني فريد زين، على هذا التحرك في الوقت الذي لم تحسم فيه الحرب التي يتوقع أنها ستستمر لفترة أطول، متسائلًا في تصريحاته لـ”الحرة“: “لماذا تريد طهران إعادة العلاقات الدبلوماسية مع دولة تعاني من عدم الاستقرار؟”.
ويرى المحلل السوداني أن السودان الآن ليس به حكومة دائمة رسميًا، وبالتالي فإن التحركات الحاليّة تعكس رغبة تلك الحكومة المؤقتة في البحث عن داعمين لها في الداخل والخارج، “خاصة في ظل محدودية الجهات الخارجية التي قد يكون لديها رغبة في تقديم الدعم المباشر لأي من أطراف النزاع” على حد قوله.
در حاشیه اجلاس جنبشعدمتعهد با برادرم علی الصادق علی، سرپرست وزارت امورخارجه #سودان دیدار و نحوه از سرگیری قریبالوقوع مناسبات دیپلماتیک خارطوم و تهران را بررسی کردیم. در جریان آخرین وضعیت تحولات داخلی سودان قرار گرفتم. تهران بر راهحلسیاسی و دوری از جنگ تاکید دارد. pic.twitter.com/PES2WdbNdq
— H.Amirabdollahian امیرعبداللهیان (@Amirabdolahian) July 6, 2023
أما المحلل الإيراني حسن هاشميان، فيرى أن هناك رغبة إيرانية واضحة في التدخل في الشأن السوداني، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، استغلالًا لحالة الفوضى التي تعاني منها البلاد في الآونة الأخيرة، لافتًا أن هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها طهران التدخل في السودان، حيث سبق أن اتهمت الخرطوم طهران بالتدخل عبر إنشاء مراكز دينية طائفية، وأنها كانت سببًا في قطع العلاقات في السابق.
هذا بخلاف العلاقات القوية التي كانت تجمع بين الحرس الثوري الإيراني ومسؤولين عسكريين سوادنيين، وهو ما قد يعزز مخاوف السلطات السودانية الحاليّة من التدخل الإيراني مرة أخرى، ما دفع الخرطوم لعقد محادثات مع طهران لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وذلك من أجل أن تكون العلاقات عبر الأبواب الأمامية دون أي تحركات من تحت الطاولة، وفق ما ذهب المحلل الإيراني.
إستراتيجية جديدة للعودة لإفريقيا
مرت العلاقات الإيرانية الإفريقية بأربع مراحل رئيسية شكلت في مجملها إستراتيجية طهران في التعاطي مع هذا الملف الذي يحتل مرتبة متقدمة في قائمة أولويات سياستها الخارجية، حسبما ذكرت الكاتبة السودانية منى عبد الفتاح، المرحلة الأولى كانت في حكم الشاه محمد رضا بهلوي (1941-1979) حيث كان التوجه صوب القارة السمراء مدفوعًا بالتوجه المناهض للشيوعية والراديكالية في المقام الأول، حيث استغلت الدولة الإيرانية المشاعر المناهضة للاستعمار في إفريقيا لتعزيز نفوذها هناك.
وفي العصر الذهبي للثورة الإسلامية بين عامي 1981 – 2005 تركزت التحركات الإيرانية في إفريقيا على التمدد الشيعي المذهبي المدفوع بطبيعة الحال بمعاداة الولايات المتحدة، وخلال تلك الفترة كانت الإستراتيجية الأبرز هي التدخل في شؤون بعض الدول الإفريقية، ما نجم عنه توترات في العلاقات معها.
وتحت ولاية محمود أحمدي نجاد في الفترة بين 2005 – 2013 سعت إيران للخروج من العزلة الدولية المفروضة عليها عبر طرق أبواب القارة الإفريقية، فبدأت طهران في تعزيز حضورها في منطقة القرن الإفريقي منذ عام 2006، وفتحت قنوات اتصال مع إريتريا التي سمحت للسفن الحربية الإيرانية بالرسو في ميناءي عصب ومصوع الإستراتيجيين.
أما المرحلة الثالثة فكانت في عهد حسن روحاني من 2013 – 2021 وهي الفترة التي تراجع فيها الزخم الإيراني إفريقيًا بسبب انشغال طهران بالصدام مع دول الخليج خاصة السعودية ومحاولة توظيف مشهد الربيع العربي لتوسيع نفوذها الإقليمي، وفي تلك الفترة تم توقيع الاتفاق النووي عام 2015.
يبدو أن موسم حصاد التوظيف الجيد بدأ، البداية كانت مع فتح قنوات اتصال تطبيعية مع الإمارات ومصر والبحرين، ثم ها هو السودان ينضم إلى الركب، لتضع طهران قدمها مجددًا وبشكل رسمي داخل الساحل الشرقي للقارة ومنطقة القرن الإفريقي
وبعد تولي إبراهيم رئيسي السلطة في أغسطس/آب 2021 بدأت إيران في تبني إستراتيجية جديدة في تعاطيها مع إفريقيا، تعتمد في المقام الأول على السيطرة على موارد القارة الاقتصادية والهيمنة على ممراتها المائية اللوجستية بما يضمن لها الحفاظ على نفوذها في مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
واعتمدت إيران من أجل تنفيذ تلك الإستراتيجية على 3 عوامل رئيسية – بحسب عبد الفتاح – الأول أن تكون هي القوة الأكثر قربًا إلى إفريقيا من خلال الانخراط في أزمات وملفات القارة، والثاني ديموغرافية القارة الإفريقية الجاذبة، حيث الاستعانة بالشباب الإفريقي لخدمة اقتصادها الوطني في مواجهة الشيخوخة التي تهيمن على المجتمع الإيراني، ثم تبني السياسة الصينية في التعامل مع دول القارة، وهي السياسة القائمة على المصالح المتبادلة والمكاسب المحققة، سياسة برغماتية بحتة، تضع الاقتصاد في المقدمة كونه القاطرة الأقوى لتعميق الحضور الإيراني في إفريقيا.
وهكذا تحاول إيران تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب المحتملة من خطوة استئناف العلاقات مع السعودية، فرغم الضغوط والانتقادات الداخلية جراء هذا الموقف، فإن السلطات الإيرانية أصرت على المضي قدمًا في هذا الملف، إيمانًا بما يمكن أن يتحقق حال توظيفه بشكل مناسب.
ويبدو أن موسم حصاد التوظيف الجيد بدأ، البداية كانت مع فتح قنوات اتصال تطبيعية مع الإمارات ومصر والبحرين، ثم ها هو السودان ينضم إلى الركب، لتضع طهران قدمها مجددًا وبشكل رسمي داخل الساحل الشرقي للقارة ومنطقة القرن الإفريقي، بعد عزلة دامت سنوات بسبب قطع العلاقات مع الخرطوم، مع التوقع بألا يتوقف المد عند هذا الحد في ظل طموحات الإيرانيين التوسعية التي لا سقف لها.