عرفت الدبلوماسية الجزائرية خلال العقد الأخير تراجعًا كبيرًا، مقارنة بما كانت عليه مباشرة بعد الاستقلال، فقد أثر مرض الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة وبقاءه في السلطة على دبلوماسية بلاده، تزامنًا مع بروز لاعبين جدد في المنطقة.
كما أثر ملف الصحراء الغربية وعدم الوصول إلى حل على صورة الجزائر الخارجية، خاصة أن المغرب نجح في إقناع العديد من الدول والمنظمات بأن الجزائر السبب الأبرز لعدم الوصول إلى حل للأزمة وفق النظام المغربي.
لم يعد صوت الدبلوماسية الجزائري مسموعًا في المحافل الإقليمية والدولية، فالنظام اختار الانكفاء على الذات ومعالجة المشاكل الداخلية التي ازدادت حدتها عقب انهيار أسعار البترول صيف 2014، حتى إنها لم تستطع الانخراط في مسار حل الأزمة الليبية وكان دورها غير مرئي في أزمات دول الساحل والصحراء الإفريقية.
لكن ما إن وصل الرئيس الجديد عبد المجيد تبون إلى قصر المرادية، حتى بدأت الدبلوماسية الجزائرية تنفض عنها بعض الغبار، رغبة في الخروج من الانطواء والعزلة ولعب أدوار متقدمة على مستوى المنطقة، وتم معاينة ذلك في العديد من الملفات، منها الملف الفلسطيني والملف الليبي والتونسي وملفات منطقة الساحل.
خلال هذه التحركات، برز أمر جديد، إذ كان معروفًا عن الجزائر علاقاتها القوية مع المعسكر الغربي، لكن منذ وصول تبون لكرسي السلطة بدا واضحًا أن الوافد الجديد على المرادية اختار إقامة تحالفات جديدة بعيدًا عن التحالفات القديمة، مستغلًا الطفرة المهمة في أسعار الغاز والنفط وتراجع القوى الغربية وبروز قوى منافسة لهم.
روسيا ثم الصين
منتصف يونيو/حزيران الماضي، زار الرئيس عبد المجيد تبون روسيا، بدعوة من نظيره فلاديمير بوتين في “إطار تعزيز التعاون بين البلدين الصديقين”، زيارة طغى عليها الجانب الاقتصادي، وتجلّى ذلك في الاتفاقيات المبرمة بين البلدَين، خاصة “إعلان الشراكة العميقة” الذي سيعطي “آفاقًا جديدة خاصة بتنويع التعاون الاقتصادي، ليشمل مجالات متنوعة كالطاقة والزراعة والأمن السيبراني والتعليم والثقافة والسياحة”.
ومن المنتظر أن يقوم تبون آخر هذا الأسبوع بزيارة دولة للصين الشعبية، يبحث فيها مع نظيره الصيني شي جين بينغ، تطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين وتحديث اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة الموقعة بين الجزائر وبكين منذ العام 2014.
فضلًا عن ذلك، سيتم تناول ملف انضمام الجزائر لمجموعة بريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وذلك بعد أن حصلت الجزائر على موافقة مبدئية من روسيا والصين على مطلب الانضمام لهذه المجموعة الاقتصادية البارزة.
تسعى الجزائر إلى تنويع اقتصادها وتسريع وتيرة نموه واستغلال الموارد المتوافرة بالاستفادة من قدرات الصين
تعتبر هذه الزيارة الأولى لرئيس جزائري للصين منذ أغسطس/آب 2008، ويذكر أن للجزائر علاقات خاصة مع الصين تعود إلى حرب التحرير (1954-1962)، وكانت جمهورية الصين الشعبية أول دولة غير عربية تعترف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد أسابيع فقط من إعلانها في سبتمبر/أيلول 1958.
كما دافعت الدولة الجزائرية حديثة النشأة عن حملة بكين لكسب الاعتراف بها باعتبارها الممثل الوحيد والشرعي للصين في الأمم المتحدة، وتضامنت الجزائر في نهاية السيتينيات مع الصين باسم “مناهضة الإمبريالية”، حتى تم وصفها بـ”مكة الثوار” بعد استقبالها المناضلين اليساريين من جميع أنحاء العالم.
وخلال العشرية السوداء (1992-2002)، بينما كانت العديد من الدول الغربية تسحب موظفيها الدبلوماسيين من الجزائر، كثفت الصين علاقاتها السياسية والاقتصادية مع هذا البلد المغاربي، ما مكنها من الحصول على العديد من الامتيازات.
مصالح كثيرة
تأتي هذه الزيارة بعد 9 أشهر من توقيع البلدين على الخطة الخماسية الثانية للشراكة الإستراتيجية 2022-2026، وهي الخطة الثانية من نوعها، حيث وقعت الصين والجزائر اتفاقية “الشراكة الإستراتيجية الشاملة” في 2014، لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.
وتأمل الجزائر في تطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين، خاصة أنها انضمت إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية في 2018، وفي مارس/آذار 2022، أعلن البلدان التوصل إلى توافق على “الخطة التنفيذية للبناء المشترك للمبادرة التي سيتم توقيعها بأقرب فرصة”.
الجزائر العظمى
من روسيا الى الصين بالتنسيق مع أعلى المستويات
وتحقيق جميع الاهداف المرجوة ،واستقدام الأسلحة المتطورة ،بدلا من المسرحيات الصهيونية،
نعم للتوجه شرقاً، وترك الغرب يعاني صراعه مع الفوضى العارمة ،نتوجه بالشكر والتقدير لأهلنا في الجزائر قيادةً وشعباً .#الجزائر🇩🇿 pic.twitter.com/cKX3EmHTmv
— الشيخ.د موسى الخلف (@Moussa_Alkhalaf) July 10, 2023
يُذكر أن الصين، تحافظ منذ 2013 على صدارة المصدرين إلى الجزائر حيث أزاحت فرنسا التي احتكرتها لعشرات السنين، وتحولت بكين إلى الشريك التجاري الأول للجزائر، ويمتدّ التعاون بين البلدين ليشمل كل المجالات تقريبًا منذ إنشاء البلدين عام 1982 اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والفني.
وتأمل الجزائر في تنمية اقتصادها، في ظل بحثها عن تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط والغاز، ذلك أن الاقتصاد الصيني يتميز بالتنوع الكبير والنمو السريع، ويعتبر ثاني اقتصاد عالمي، وتسعى الجزائر لاستقطاب شركات صينية أكثر للعمل في بلادها.
من أبرز المجالات التي يركز عليها النظام الجزائري، قطاع المناجم والصناعات التحويلية والبنى التحتية والأشغال العمومية، إضافة إلى مجال الفضاء وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وقطاع الأسلحة وتطوير منظومات الدفاع والجيش.
تعتبر الصين أول مستثمر أجنبي في الجزائر، إذ تستحوذ شركاتها العاملة هناك على استثمارات فاقت الـ20 مليار دولار تشمل البنية التحتية والمنشآت الكبيرة، ومؤخرًا حصدت شركاتها على أغلب صفقات المشاريع الكبرى في مجالات البناء والأشغال العامة بالجزائر.
ترى القيادة الجزائرية أن ضمان صداقة حلفاء أقوياء مهم لأمنها الداخلي
من أبرز المشاريع التي أشرفت عليها شركات صينية، ميناء الجزائر الجديد وتوسعة مطار الجزائر الدولي والسكنات والطريق السريع شرق غرب وجامع الجزائر، وفي مارس/آذار 2022، بدأ الشريك الصيني استثمارًا بقيمة 7 مليارات دولار في قطاع الفوسفات لإنتاج 5.4 مليون طن من المخصبات الزراعية، كما ظفرت 3 شركات صينية بمشروع منجم غار جبيلات لاستخراج خام الحديد بقيمة ملياري دولار في مرحلة أولى.
منذ سنة 2000، ساهمت الاستثمارات والنشاطات الصينية في الجزائر، في خلق أكثر من 50 ألف موطن شغل، كما حقّقت تدفقات مالية كبرى، وتسجل هذه التدفقات ارتفاعًا متواصلًا، خاصة مع اهتمام الشركات الصينية بجعل الجزائر إحدى نقاط ارتكاز لتوسعها في إفريقيا.
تنويع الشركاء
تسعى الجزائر إلى تنويع اقتصادها وتسريع وتيرة نموه واستغلال الموارد المتوافرة بالاستفادة من قدرات الصين، كما تأمل أيضًا في تنويع شركائها وإقامة تحالفات قوية بعيدًا عن حلفائها التقليديين، الذين لم يساهموا في الدفع باقتصاد الجزائر، وأضعفوا مكانة البلاد إقليميًا.
فضلًا عن الأهداف الاقتصادية، لدى القيادة الجزائرية أهداف جيوسياسية، إذ يعمل النظام منذ سنة 2019 على استعادة مكانة البلاد الإقليمية وعدم فسح المجال للقوى التي تريد الاستفادة من هذا الفراغ وأخذ مكانة الجزائر.
#الجزائر #الصين pic.twitter.com/hEMnVRvCiW
— د. محمد دخوش (@MuhDakhouche) July 10, 2023
ترى الجزائر أن الدول الغربية لم تف بالتزاماتها تجاهها ولم تقف معها في أبرز قضاياها، لذلك لا بد من إيجاد بديل قوي وموثوق، وقد وجدت ذلك في روسيا والصين، اللذين أكدا دعمهما لمساعي الجزائر الانضمام لمجموعة البريكس الاقتصادية.
تشهد المنطقة في الفترة الأخيرة تحولات عديدة وإعادة تشكّل لتحالفات جديدة، لذلك ترى القيادة الجزائرية أن ضمان صداقة حلفاء أقوياء مهم لأمنها الداخلي، خاصة أن هؤلاء الحلفاء يمثلون قطبًا واعدًا في الساحة الدولية وقد ظهرت قوته في العديد من المحطات.
يمكن القول إن الجزائر وجدت في روسيا والصين الشريكين اللذين يمكن أن يحققا لها القيمة المضافة مقارنة بدول العالم الغربي وأن يضمنا لها التعامل وفق قاعدة رابح-رابح، وهو ما دفع قيادة البلاد إلى توجيه بوصلتها هناك بعيدًا عن الغرب.