في السادس من تشرين أول/ أكتوبر غادرت مطار تونس قرطاج باتجاه مطار القاهرة الدولي محملاً بأفكار جمة عن جمهورية مصر العربية “أم الدنيا”، وصلت المطار وتم استقبالي كـ “أحسن ما يكون” بقضاء ثلاث ساعات بمصلحة أمن الدولة ولا ذنب لي سوى أني من بلد ثورة الياسمين: تونس، ومهنتي في جواز السفر: صحفي.
وفي ليلة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك وجدتني أنزل على عماي في وطن يقطنه ما يقارب التسعين مليون نسمة وأنا القادم من بلد بالكاد يتجاوز عدد سكانه العشر ملايين، بلغت قلب القاهرة لأنزل في فندق بشارع طلعت حرب على بعد أمتار من دار القضاء العالي، كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحًا وكانت عيون القاهرة ماتزال ساهرة، فراودتني فكرة أن أتمشى قليلاً علي أرتاح من تعب الجلوس لثلاث ساعات على الكنبة البالية أمام مصلحة أمن الدولة بالمطار.
نزلت أتمشى وماهي إلى دقائق فوجدتني أقف أمام لافتة خط عليها “ميدان التحرير”، لم أصدق نفسي وهل أني صحيح أقف على أرض الميدان الذي أنهى أربع عقود من حكم ديكتاتور مصر “محمد حسني مبارك”، كما أنهى عقودًا من حكم العسكر؟!! وهل أنا أقف بنفس الميدان الذي اُغتصبت به الديمقراطية وتعرضت فيه الآمنات للتحرش؟ وأقف على أرض الميدان الذي أعاد مصر لزمن العسكر والديكتاتورية؟
إنه المكان الذي جمع المتناقضات، مكان أنهى حقبة ليعيد أخرى أشد سوادًا، مكان رحّل نظام وأعاد إنتاجه في صورة أشد قبحًا وبشاعة، إنه الميدان الذي حمل لمصر رئيس اغتصب السلطة واغتصب حتى رتبته العسكرية فالفريق الأول “عبد الفتاح السيسي” وزير دفاع الإخوان ورئيس المخابرات السابق رقى نفسه لرتبة مشير رغم أن المشير يفترض أن يشارك في حرب، ولعله اعتبر الانقلاب على نتائج صناديق الاقتراع حربًا فحق له أن يعطي نفسه مرتبة المشير.
إنه نفس المكان الذي أشعل لهيب الثورة وأطفأها بل ووأدها، كنت سأشعر بأني في أرقى الأماكن لو أني أقف على أرض الميدان الذي نصر الديمقراطية في أرض الكنانة ونقل مصر من السلطة العسكرية إلى أخرى مدنية يتداول فيها الإسلاميون والعلمانيون على حكم وطنهم.
في أول ليلة أقضيها على أرض مصر وجدت الدبابات تحاصر ميدان التحرير وتحاصر معه مصر التي يسمونها “المحروسة”، لقد وجدت مصر محبوسة بدلاً من أن تكون محروسة، وشعرت عندها بأني لا أزور بلدًا حصلت فيه ثورة فتحت أبواب الحرية، بل أزور ثكنة عسكرية بها 90 مليون شخصًا بين قادة وسجانين وخدم ومسجونين، وبين جاثمين على الرقاب وبين مضطهدين.
كنت أجوب شوارع القاهرة ولكنتي التونسية تفصح عن أني لست ابن “أم الدنيا”، لكنها أيضًا تفصح عن هويتي التي أعتز بها “ابن ثورة الياسمين” وابن أرض الزيتونة، أتجول في شوارع القاهرة وحيدًا وأنا أشاهد الوجوم في ملامح الوجوه والاختناق البادي على محيى العديدين، عدت ليلتها إلى الفندق كي أسترق جزءًا من الراحة قبل الانطلاق في العمل في الغد.
في صباح اليوم التالي بدأت اكتشف الشوارع والطرقات، أتجول في المحلات وأتحدث إلى إخوتنا في الثورة وفي العروبة، وبدأت أفهم أن الوجوم والاختناق الذي يعيشه المصريون ناجم عن الوضع البائس والاقتصاد الراكد والفقر الذي دخل أغلب البيوت؛ ما جعل الناس منزعجة والإرادات منكسرة، فالمواطن المصري كان يمني النفس بأن يصلح حال البلد برحيل حسني مبارك ونجليه جمال وعلاء، لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه فقد سارت الرياح عكس ما اشتهت سفينة الثورة وسمى الإعلام انقلاب العسكر تصحيحًا للثورة.
إن رحيل مبارك الذي أتى بجماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة زاد في تعقد الوضعية الاقتصادية رغم الكم الهائل الذي كسبه الناس من الحرية في زمن الإسلاميين، ولكن العديدين يقولون ما فائدة الحرية والبطون خاوية والثلاجات فارغة والحال راكدة والتجارة كاسدة والمؤسسات فاسدة.
تسأل المصريين عن العسكر وحكمهم فيقولون بأنه رمز للدولة (مصر) وأن هذا الشعب لا يحكم إلا بالحديد والنار، كثيرون يحبون حكم العسكر بل يعشقونه لكنهم يمقتون جهاز استخباراته وكتم الأنفس والقضاء على الحريات كما يشمئزون من ثراء الجنرالات وفقر أبناء الشعب الكادحين.
أما الشق الثاني فتجدهم يناصرون حكم جماعة الإخوان المسلمين، معتبرين أن أنصار الرئيس القادم على ظهر دبابة “عبد الفتاح السيسي” ليسوا سوى فلول نظام مبارك الذين قامت الثورة جراء فسادهم وقامت لكنسهم عن المناصب الفاعلة في نظام الحكم، فهم يهللون باسم السيسي للحفاظ على مكتسباتهم التي حصّلوها من لحم الفقراء وعرق جبين البسطاء.
في مصر تدرك أن كل شيء عاد إلى ما قبل ثورة 25 كانون ثان/ يناير، فالثورة قُبرت والشعب مطحون والفقر في ازدياد والحقد الطبقي يتضاعف والحرية فُقدت والديمقراطية سارت نكتة يتندر بها على أنها لن توجد البتة بأرض الكنانة.
في مصر السيسي كل شيء متاح ومباح: الدعارة، الجنس، الخمرة، النهب، الاختلاس، السرقة، الحشيش، المخدرات، السلاح، الرقص، الغناء، السينما الرياضة والتجارة، الصلاة والعبادة أيضًا، كل شيء في المتناول إلا التفكير في منصب الرئاسة، منصب احتكره الجيش وسيكون مصير كل من حاول الاقتراب منه مصير الرئيس المعزول “محمد مرسي” إي سجين أو مصير من حُرقوا في ميداني رابعة والنهضة أمام عيون العالم بأسره، في مصر من حقك أن تكون مواطن لكن لا يحق لك ألا تنتخب العسكر في الرئاسة.
مصر أم الدنيا بعدد سكانها وتاريخها وحضارتها وجيشها، بعدد أدباءها ومفكريها وعلمائها، بمغنييها وشعرائها ومبدعيها، بأهراماتها ومساجدها وكنائسها، لكن كل ذلك لم يشفع لمصر الكنانة بأن تقود ركب الحداثة دون التخلي عن مخزونها الحضاري وأصالتها، لم يشفع لها في أخذ المبادرة لتكون رائدة في إدخال الديمقراطية لمنطقة ملت من تربّع ملوك الحكم العاض على صدور البشر، لقد رفضت مصر أن تجعل من العرب مواطنين بدلاً من رعايا يهللون ويصفقون لشيوخ منتهين أساسًا.