“عندما قالت كتائب القسام إن جنين ليست وحدها، كانت تعي ما تقول جيدًا، فجاء ردنا في عيلي على يد القساميَّين مهند شحادة وخالد صباح لتدفيع العدو ثمن عدوانه على جنين الشهر الماضي، وتواصلت الضربات كردٍّ سريع على عدوانه على المخيم قبل أيام، بعملية بطل الخليل عبد الوهاب خلايلة في قلب تل أبيب، ثم بعملية القسامي أحمد ياسين غيظان في كيدوميم التي جاءت اليوم لتؤكد من جديد جاهزية القسام والمقاومة الدائمة للردّ على العدوان على أي بقعة من أرضنا ومقدساتنا”، كان هذا تصريح المتحدث العسكري باسم كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس، أبو عبيدة، في تاريخ 6 يوليو/ تموز 2023.
تفاجأ الكثيرون من التصريح، ليس بسبب العمليات، إنما من الإعلان الرسمي والتبني الصريح لحركة حماس لسلسلة عمليات بشكل مباشر، وعبر المتحدث العسكري باسمها من قطاع غزة، كون ذلك مخالفًا للتقليد المتّبع منذ عام 2007 في التعامل مع العمليات.
تصريح أبو عبيدة، أو كما يطلق عليه الفلسطينيون “الملثّم”، جاء بعد أيام قليلة فقط من تبنّي نائب رئيس الحركة المقيم في لبنان، صالح العاروري، سلسلة من العمليات والأحداث التي جرت في الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين، بما في ذلك تجارب صاروخية جرت على صواريخ قسام 1.
بالتوازي مع ذلك، دشنت الذراع العسكرية لحركة حماس قناة رسمية تابعة لها تحمل اسم “كتائب الشهيد عز الدين القسام – الضفة الغربية”، لتعزز قناعة المراقبين بوجود تغيير حقيقي في الحركة فيما يتعلق بالتعامل مع المشهد في الضفة الغربية المحتلة، ففي فترة الانتفاضة الثانية (2000-2005)، كانت حركة حماس وذراعها العسكرية تميلان إلى الإعلانات الرسمية عن العمليات بشكلٍ موحّد في الضفة وغزة، إلا أن عام 2007 وفي أعقاب الانقسام الفلسطيني وسيطرة الحركة على غزة تبدّلت الأحوال.
في فترة 2007-2010 كان العمل العسكري في ساحة الضفة الغربية أشبه بالمستحيل نظرًا إلى التعقيدات الأمنية.
أخذ أسلوب الحركة طابع السرية في الإعلان عن العمليات أو هوية منفذيها، أو التكتم في أحيان كثيرة عن عمليات عسكرية استهدفت الجنود والمستوطنين على حدّ سواء، أو اللجوء إلى نعي الشهداء ووصفهم بأنهم كوادر في الحركة، ومباركة العمليات دون إشارة إلى مسؤولية رسمية.
الماضي
اتبعت حركة حماس في أعقاب عام 2007 أسلوبًا جديدًا يتلاءم مع الواقع القائم في الضفة الغربية والقدس المحتلة، نظرًا إلى الملاحقة الأمنية التي تتم بحقّ كوادرها ونشطائها، وخطة دايتون التي ارتكزت على التنسيق الأمني وملاحقة المقاومين واعتقالهم إما من السلطة وإما من الإسرائيليين.
يمكن القول إن في فترة 2007-2010 كان العمل العسكري في ساحة الضفة الغربية أشبه بالمستحيل، نظرًا إلى التعقيدات الأمنية الموجودة وصعوبة التحرك والتنقل، وغياب الرأس الهرمي المتحكم في المجموعات المقاومة واعتقال غالبية القيادات.
بعد ذلك تبنّت الحركة عددًا محدودًا من العمليات وفقًا لرصد “نون بوست”، كان أبرزها في أغسطس/ آب 2010، حين تبنّت القسام هجومًا بالأسلحة الرشاشة على سيارة قرب مستوطنة “كريات 4” في مدينة الخليل المحتلة أسفرت عن مقتل 4 إسرائيليين، وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه هاجم مقاتلون من كتائب القسام سيارات إسرائيلية بالأسلحة الرشاشة قرب مدينة رام الله المحتلة.
وفي يونيو/ تموز 2014 نفّذت كتائب القسام عملية أسر لـ 3 مستوطنين مجنّدين في الخليل، حيث بقيت الحركة متحفّظة عن الإعلان بشكل رسمي، قبل أن يعلن نائب رئيس الحركة صالح العاروري عن مسؤولية الحركة الرسمية بعد استشهاد المنفّذين وقتل المستوطنين.
وفي 6 فبراير/ شباط 2018، نعت كتائب القسام الشهيد أحمد جرار بوصفه قائد الخلية المسلحة التي نفّذت اغتيال الحاخام رزيئيل شبيح، في عملية مسلحة قرب مستوطنة حفات جلعاد في نابلس شمال الضفة الغربية في 9 يناير/ كانون الثاني من العام نفسه.
وفي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 أعلنت القسام انتماء الشهيد فادي أبو شخيدم إليها، بعد تنفيذه عملية مسلحة في البلدة القديمة بالقدس المحتلة، أسفرت عن مقتل مستوطن وجرح 4 آخرين بينهم 3 جنود إسرائيليين.
وبالتالي إن سلسلة هذه العمليات تعكس اتّباع الحركة لنموذج الإعلان المتباعد، ومراعاة الظروف الأمنية للكوادر والقيادات على حدّ سواء، في ضوء الملاحقة المشتركة وعمليات الاعتقال الإداري والاعتقال التقليدي والتغييب داخل السجون الإسرائيلية أو الاعتقال السياسي.
نقطة تحوُّل: انتفاضة القدس 2015
شكّلت معركة “العصف المأكول” عام 2014، التي اندلعت شرارتها نتيجة لسلسلة من الأحداث في الضفة الغربية، أبرزها عملية الأسر في الخليل وإحراق الطفل محمد أبو خضير، دافعًا للفلسطينيين انطلقت معه موجة جديدة للانتفاضة أو “الهبّة” كما يطلق عليها البعض.
حملت اسم هذه الهبّة أو الانتفاضة اسم “هبّة القدس”، إلا أن الطابع العملياتي جاء مختلفًا ومغايرًا عن انتفاضة الأقصى التي تميزت بالأحزمة الناسفة أو “الباصات الطائرة”، إذ كانت بعمليات الطعن والدهس نتيجة غياب التسليح وصعوبة عمل فصائل المقاومة.
لم تتغير تكتيكات الفصائل الفلسطينية وحركة حماس، إذ حافظت الحركة وغيرها من الفصائل على خصوصية ساحة الضفة الغربية.
خلال هذه الهبّة، بدأت الفصائل الفلسطينية، والإشارة هنا إلى حركتَي الجهاد الإسلامي وحماس، في تبنّي بعض الشهداء دون التبنّي الرسمي للعمليات، كونها لا تتم بنسق عسكري أو تكتيكات إنما بدوافع وطنية وشخصية، إلا أن ارتباط الشهداء بالتنظيمات فكريًّا كان الدافع وراء التبني.
ومع تتابع العمليات الفردية اتّسع النسق لاحقًا لتنفيذ عمليات مسلحة، كان في بدايتها يتم من خلال أسلحة بدائية “الكارلو”، وهو سلاح يتم تصنيعه محليًّا ويعود تاريخ استخدامه بين الفلسطينيين إلى الانتفاضة الأولى بسبب صعوبة توفير الأسلحة الأخرى والملاحقة الأمنية.
مع وجود هذه العمليات كذلك، لم تتغير تكتيكات الفصائل الفلسطينية وحركة حماس، إذ حافظت الحركة وغيرها من الفصائل على خصوصية ساحة الضفة الغربية، إلا أن ذلك لم يمنعها من اتّباع أساليب وُصفت إسرائيليًّا بالتحريضية، ووصلت في بعض الأحيان إلى تنفيذ عمليات اعتقال أو اغتيال كما في حالة الشهيد مازن فقها، الذي اغتاله الاحتلال عام 2017 بواسطة متخابرين معه تحت ادّعاء تورُّطه في تشكيل خلايا عسكرية في الضفة.
لماذا غيّرت الحركة من استراتيجيتها؟
لا يمكن الإشارة هنا إلى سبب رئيسي وواضح وراء تغيير حركة حماس من استراتيجيتها في التعامل مع الساحة في الضفة الغربية المحتلة التي ظلت قائمة لسنوات طويلة، إلا أن ثمة مجموعة من العوامل السياسية والأمنية والعسكرية التي طرأت في الفترة ما بعد عام 2018 يمكن الإشارة إليها.
من بين العوامل التي قد تكون دفعت بالحركة نحو ذلك متغيرات أبرزها ما جرى في ساحة الضفة بعد حرب عام 2021، وظهور تشكيلات عسكرية متعددة المسميات بعضها اتهمت الحركة فيها علانية بالوقوف وراء تمويلها مثل مجموعة “عرين الأسود” في نابلس، أو التشكيلات الأخرى المحسوبة على حركة الجهاد الإسلامي في جنين.
ومع استقرار عمل المجموعات وفشل اجتياح مخيم جنين، وتحوُّل الحركة عبر مجموعاتها العسكرية إلى تطوير الصواريخ وصناعتها هي والعبوات الناسفة، يمكن القول إن هذه العوامل دفعت نحو الاستراتيجية الجديدة المتمثلة في العمل العلني في الضفة.
إلى جانب ذلك، فإن فشل السلطة الفلسطينية في ملاحقة المقاومين أو إغرائهم بتسهيلات مالية وتوفير ما يعرَف بالحماية، دفع نحو التحاق عشرات الشبان بالتشكيلات العسكرية الموجودة، وبحث آخرين عن العمل المقاوم بشكل مباشر ورسمي، وهو ما تبنته الحركة في خطابها الرسمي بعد عام 2021.
المشهد سيكون مفتوحًا على إمكانية اندلاع جولات من التصعيد مستقبلًا إذا ما ازدادت سخونة الأوضاع والعمليات في الضفة، أو أقدم الاحتلال على تنفيذ اقتحامات واغتيالات بحقّ مقاومين أو مطلوبين له.
بمحاذاة ذلك، أشار الاحتلال الإسرائيلي بشكل صريح إلى مسؤولية الفصائل عمّا يجري في الضفة الغربية، وهو أحد العوامل التي دفعت به لتنفيذ عمليات اغتيال بحقّ شخصيات قيادية في سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، في مايو/ أيار الماضي.
العين على غزة
مع تنامي العمل المقاوم وتكرار تفجير العبوات الناسفة والعمليات التي أدّت إلى مقتل 32 إسرائيليًّا، من بينهم 22 في ساحة الضفة الغربية فقط، يمكن القول إن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، ففصائل المقاومة باتت تتحدث بشكل واضح عن تمويل وتسليح الضفة بصورة مباشرة.
يشكّل الإعلان المباشر من قبل الأذرع العسكرية عن العمليات الفدائية، تدشينًا لهذه المرحلة التي لا يبدو أن الاحتلال سيفصل ما يجري في الضفة الغربية عن قيادات المقاومة في غزة أو لبنان، بعد الإشارات الأخيرة لإمكانية تنفيذ اغتيالات جديدة بحقّ شخصيات مثل صالح العاروري.
في الوقت ذاته، أكّدت الفصائل في غزة بشكل واضح وجليّ أنها وضعت مجموعة من الخطوط الحمراء المتعلقة بالضفة، والتي في حال تجاوزها الاحتلال فإن ردّها لن يكون بعيدًا، وستكون غزة لاعبًا مركزيًّا في المشهد العسكري والأمني ضدّ الاحتلال.
وبالتالي سيكون المشهد مفتوحًا على إمكانية اندلاع جولات من التصعيد مستقبلًا إذا ما ازدادت سخونة الأوضاع والعمليات في الضفة، أو أقدم الاحتلال على تنفيذ اقتحامات واغتيالات بحقّ مقاومين أو مطلوبين له، كما بحث في اجتياح جنين الأخير الذي فشل فيه فشلًا ذريعًا.