تعيش مدينة الباب الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية شمال شرق حلب، حالة من التوتر المستمر، إذ تشهد المدينة التي تعد من أكبر مدن المنطقة تصاعدًا غير مسبوق في حوادث إطلاق النار، والتي غالبًا ما تتطور إلى مواجهات مفتوحة تستمر لساعات ويسقط بسببها ضحايا من طرفَي القتال، وكثيرًا ما تتسبّب الاشتباكات المتكررة في مقتل وإصابة مدنيين أبرياء، وبسببها تغلق بعض أسواق المدينة.
وجرت العادة أن يستنفر معظم سكان الباب هربًا إلى بيوتهم، خوفًا من الرصاص الكثيف الذي يتم إطلاقه عند وقوع أي شجار، ولو كان لأسباب تافهة، قد تكون حادثًا مروريًّا وربما خلافًا بين مجموعتَين تتاجران بالمواد المخدرة، مثلًا، أو شجارًا بين مجموعة من المراهقين، وسرعان ما يتطور ويتوسع بعد دخول عائلاتهم في مواجهات مفتوحة، حينها يصبح المدنيون حتى وهم في بيوتهم بخطر.
اشتباكات شبه يومية
اندلعت اشتباكات بالأسلحة الخفيفة، فجر الأحد 9 يوليو/ تموز، داخل أحياء مدينة الباب، واستفاق معظم سكان المدينة على أصوات رصاص المعركة التي استمرت لأكثر من 3 ساعات بين عائلتَي السيد وحوران، وتركزت المواجهات بين الطرفَين في منطقة شارع مدرسة فلاحة، وهذه المواجهات التي تندلع عادة بين عائلات المدينة، أو بين مجموعات محلية مسلحة تتبع لفصائل المعارضة، باتت شبه يومية.
وفي 8 يوليو/ تموز، أُصيب شخصان إثر اشتباك بين مجموعتَين تتبعان للفصائل المعارضة، قرب دوار الراعي الواقع عند مدخل مدينة الباب من الجهة الشمالية، ويرجع سبب الاشتباكات إلى إيقاف الشرطة العسكرية لشخص يركب دراجة نارية غير مسجّلة في دائرة المرور بالمدينة، وحاول أقاربه وأصدقاؤه إطلاق سراحه بالقوة.
وفي أواخر شهر يونيو/ حزيران الماضي، شهدت مدينة الباب مجموعة من الحوادث والمواجهات وقع معظمها داخل الأحياء المدنية، بينها حادثة اغتيال حسن شاويش الواكي بالقرب من جامع الإحسان في الحي الشمالي لمدينة الباب.
كما أُصيب مدنيون بسبب خلاف بين عائلتَين في المدينة ما لبث أن تطور إلى اشتباك مسلح، واستخدم طرفا المواجهات من عائلتَي “الحزوري” و”نصف الدنيا” الأسلحة النارية من طرازات متنوعة، وتركزت معاركهما بالحي الجنوبي لمدينة الباب.
الشرطة عاجزة
وكالعادة لا تجرؤ قوات الشرطة على الاقتراب حتى انتهاء المواجهات، ورغم وجود أكبر مركز لقوات الشرطة في الباب من ناحية الأعداد والمركبات الأمنية، إلا أن دورها محدود للغاية في فرض التهدئة أو فضّ الاشتباك، فمعظم المقتتلين من العائلات يعمل أبناؤهم في صفوف الفصائل، أو لديهم أشبه ما يكون بمجموعات حماية مسلحة يتم الزجّ بها في مثل هذه المواجهات الأهلية.
قال عنصر في قوات الشرطة بمدينة الباب (رفض الكشف عن هويته) لموقع “نون بوست”، إن “الاشتباكات وإطلاق الرصاص في مدينة الباب صارا روتينًا شبه يومي يعيشه سكان المدينة منذ سنوات”.
أضاف: “التدخل المباشر من قبل قوات الشرطة في فضّ الاشتباكات في الباب يشبه إلى حد بعيد محاولة الانتحار، فالمسلحين يطلقون الرصاص بعشوائية وكثافة كأنهم في معركة وعلى عداوة تاريخية، ومعظمهم ينتمون إلى الفصائل العسكرية”.
مكملًا: “والشرطي الذي سيجازف بحياته لن يأخذ أحد أو أي جهة رسمية حقه إن أُصيب أو قُتل، وكما نقولها بالعامية: “راح من كيس حاله”، ومعظم الزعران لا تتم محاسبتهم، أو يسجنون لأيام قليلة على الأقل كفترة تأديبية، وبالتالي غياب دور القضاء العادل والعقوبات الرادعة كان سببًا في زيادة أعداد الزعران ومطلقي الرصاص، والذين لا يقيمون أي اعتبار لقوات الشرطة”.
في 20 يونيو/ حزيران الماضي، اندلعت اشتباكات مسلحة في مدينة الباب بين الشرطة المدنية ومجموعة من تجار المخدرات في المنطقة، ما أسفر عن مقتل محمد نضال الهاشم، وهو أحد عناصر الشرطة في المدينة، في حين تمكّن تجار المخدرات من الهرب، وهم بزعامة أحمد البهاء، وهو أحد أبرز تجار المخدرات بريف حلب، والذي لا يزال طليقًا حتى الآن من دون محاسبة.
وقامت عائلة الشرطي الهاشم وأقاربه بتنظيم وقفة احتجاجية أمام مقر قوات الشرطة المدنية، واحتجاج آخر أمام مقر الشرطة العسكرية في مدينة الباب، وطالبوا أهالي المدينة بمساندتهم حتى تحقيق مطالبهم، وعلى رأسها محاسبة قاتل ابنهم، وجميع القتلة والزعران المتهمين بافتعال الفوضى والمسؤولين المباشرين عن الفلتان الأمني في المدينة.
احتقان شعبي
سيطرت فصائل الجيش السوري الحرّ على مدينة الباب عام 2012، وطردت قوات النظام السوري منها قبيل دخولها الأحياء الشرقية في حلب بوقت قصير، لكنها خسرتها لصالح “داعش” عام 2014، واستعادتها الفصائل مرة أخرى بدعم من الجيش التركي في أغسطس/ آب 2016 خلال العملية العسكرية “درع الفرات”.
لكن المدينة التي عادت إلى “حضن” المعارضة عاشت منذ ذلك الوقت فوضى أمنية، وشهدت عدة تفجيرات وعمليات اغتيال غالبًا ما استهدفت مدنيين، بالإضافة إلى انتشار السلاح والاشتباكات بين الفصائل المسيطرة، والتي تتقاسم النفوذ والمصالح في المدينة.
جال موقع “نون بوست” مدينة الباب، والتقى عددًا من الناشطين والأهالي المشاركين في الاحتجاجات التي شهدتها المدينة خلال الأيام القليلة الماضية، وبدا الغضب الشعبي واضحًا، واتفقت آراء معظمهم على أن الشرطة والمكاتب الأمنية التابعة للفصائل هي المسؤولة عمّا يجري بمدينة الباب.
كما بعضهم لمّح إلى أن الفوضى والفلتان الأمني اللذين شهدتهما الباب خلال الأسابيع القليلة الماضية كانا مفاجئَين من حيث حدتهما، وأنهما مفتعلان من قبل بعض الجهات الرسمية (عسكرية وأمنية) تتبع للمعارضة، والتي لها مصلحة في بقاء الوضع على ما هو عليه في المدينة التي تأوي اليوم أكثر من 300 ألف نسمة، أكثر من نصفهم من النازحين والمهجّرين.
يقول محمد الهاشم (وهو من أهالي مدينة الباب) لـ”نون بوست”، إنه يجب إعادة هيكلة وتجميع القوى المجتمعية والثورية في مدينة الباب تحت مجلس واحد يضم كل الكتل والعائلات، ومنها النازحين والمهجرين المقيمين في المدينة، لتكون مرجعية متكاملة تتدخل وتأمر الفصائل والقوى الأمنية الموجودة بالتدخل لحل أي مشكلة تحدث، وتسائل وتحاسب المؤسسات، ومنها القضائية والشرطة وأمنيات الفصائل في حال حصل تقصير، وتحمّلها صراحة مسؤولية تصاعد الفوضى إن حصلت”.
أضاف الهاشم: “جرت العادة أن يتطوع عدد من المشايخ والوجهاء لحل النزاعات، وبالفعل تنجح معظم المبادرات بحل الإشكالات والنزاعات العالقة، والتي غالبًا ما تسبّبت في وقوع قتلى وجرحى من طرفَي النزاع، لكن مع الآسف ليس هناك دعم رسمي لمثل هذه المبادرات والشخصيات المتطوعة، والتي يمكن البناء عليها لتشكيل هيئة أو مجلس صلح يضمّ وجهاء المدينة ووجهاء من المهجرين المقيمين فيها، والذي من المفترض أن يفرض هيبته على المكونات الاجتماعية ويأخذ الدور الرقابي على المؤسسات الأمنية والقضائية”.
والتقى موقع “نون بوست” بإبراهيم أبو الحسن (مهجر من شرق سوريا مقيم في الباب)، حيث قال: “70% من النزاعات الحاصلة وإطلاق الرصاص سببه مجموعات تتبع للفصائل في الجيش الوطني، صراع على النفوذ والمنافع والمخدرات، مجموعات منفلتة من دون رقيب أو حسيب”.
يضيف: “تعدُّد الفصائل المسيطرة على الباب هو المسبّب الرئيسي للفوضى والفلتان الأمني، لو أن المدينة تقع تحت سلطة جهة عسكرية واحدة كما في أعزاز مثلًا لكان وضع الباب مختلفًا، ولم نكن لنعيش هذه اليوميات من الهلع والرعب، ولا يأمن أحدنا على أبنائه إن أرسلهم إلى السوق أو المدرسة، فبأي لحظة ممكن أن تندلع المواجهات”.
في سياق متصل، وجدت هيئة تحرير الشام في تصاعد الفوضى بمدينة الباب فرصة ذهبية، كي تقارن ما تزعم أنه استقرار أمني في مناطق سيطرتها (إدلب وما حولها) بالفوضى التي تعاني منها مدينة الباب بريف حلب.
وبالتزامن، عمل الإعلام التابع لتحرير الشام على بثّ الشائعات، والترويج لضرورة دخول الجهاز الأمني التابع للهيئة إلى المدينة لضبط الأمن وإحلال الاستقرار، وزعم إعلام الهيئة أن طيفًا واسعًا من أهالي المدينة يناشدون تحرير الشام كي تدخل وتخلصهم من سطوة الفصائل، وتخرجهم من حالة الفوضى.
وأعلنت وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة عن تشكيل قوة طوارئ دائمة في مدينة الباب شرقي حلب، بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها المدينة، وجاء ذلك في بيان صادر عن وزارة الدفاع مطلع يوليو/ تموز.
وأعربت الوزارة في بيانها عن أسفها للأحداث التي وقعت في مدينة الباب، مشيرة إلى أنها أرسلت تعزيزات من الشرطة العسكرية مدعومة بقوات مركزية من الجيش الوطني، بهدف حفظ الأمن وتحقيق الاستقرار في المنطقة.
وذكر البيان أن الشرطة العسكرية -بعد التحرّي والمتابعة- ألقت القبض على 4 أشخاص في مدينة الباب، متورّطين بإثارة الفتنة والتحريض على إطلاق النار الذي تسبّب في مقتل مدني، وأن البحث لا يزال مستمرًّا عن الجاني لتقديمه مع المتورّطين في الأحداث إلى القضاء.
أخيرًا.. رغم مرور أكثر من عقد على تحرير مدينة الباب (إذا تجاوزنا نكسة “داعش” التي امتدت عامين)، وهو وقت كافٍ تمامًا لتنهض وتعيد تشكيل مؤسساتها الإدارية والقضائية والأمنية، فضلًا عن المدنيّة، لتكون نموذجًا يُحتذى كمنطقة ثورية محررة انعتقت من سيطرة نظام الإرهاب والفساد، إلا أن الواقع بعيد عن الأمنيات، وهو ما تكشفه بوضوح هذه الفوضى الأمنية المرّوعة.