على بعد 350 كيلومترًا من مدينة كالينينغراد الحدودية الروسية، ونحو 40 كيلومترًا من الحدود البيلاروسية، تنطلق اليوم فعاليات قمة حلف شمال الأطلسي في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، التي تزينت شوارعها بأعلام دول التحالف الـ31، وسط ترقب إقليمي ودولي لما ستسفر عنه تلك القمة التي وصفت بالاستثنائية.
القمة المقرر لها أن تعقد على مدار يومين (11-12 يوليو/تموز 2023) تأتي في وقت تتواصل فيه المعارك الضارية بين القوات الروسية ونظيرتها الأوكرانية المستمرة منذ فبراير/شباط 2022، فيما جاء عنوانها الأبرز “دعم أوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي”.
يحاول المجتمعون إيصال رسالة واضحة ومباشرة لموسكو بأن الحرب المشتعلة الآن زادت من قوة ووحدة الناتو عكس ما كان يردد الرئيس فلاديمير بوتين الذي كان يرى أن تلك الحرب ستكتب نهاية هذا الكيان، وأن الأزمة الراهنة زادت من تماسك التحالف ورممت جدرانه التي كانت تعاني من تشققات قاسية إثر تباين وجهات النظر بين الدول الأعضاء.
غير أن جدول أعمال القمة يعاني من زخم القضايا الخلافية المتشعبة التي يحاول قادة التحالف المشاركون تبريدها قدر الإمكان للحفاظ على صورة اللحمة المشرقة المراد توصيلها، فيما جاءت موافقة تركيا المبدئية على ضم السويد للناتو بعد سنوات من النقاشات الجدلية، كبارقة أمل واستهلال متفائل بمخرجات هذا الاجتماع.
🇫🇲 Stoltenberg: Our doors remain open, Putin will get more NATO at the door
📝 “Our message to Putin is this: NATO’s doors remain open and the fighting will only get him more NATO at his doorstep,” he stressed. pic.twitter.com/ot6cBwJN31
— Zlatti71 (@djuric_zlatko) July 11, 2023
انضمام السويد.. استهلال يدعو للتفاؤل
ظل ملف انضمام السويد للناتو صداعًا مزمنًا للتحالف طيلة الفترة الماضية بسبب تحفظ تركيا على تلك الخطوة التي اشترطت الموافقة عليها بتقديم بعض الضمانات الأمنية لأنقرة، إلا أن الأمور يبدو أنها باتت على بعد أمتار قليلة من تحقيق هذا الحلم الذي راود ستوكهولم وعواصم الحلف الغربي، إثر توصل تركيا والسويد والناتو إلى اتفاق ثلاثي بشأن هذا الملف حسبما قال الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ.
وأوضح ستولتنبرغ في تصريحات له مساء الإثنين 10 يوليو/تموز 2023، أن الموافقة التركية جاءت عقب لقاء ثلاثي مغلق جمعه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزراء السويد أولف كريسترسون، في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، لافتًا أن أردوغان وافق على إحالة بروتوكول الانضمام إلى البرلمان التركي في أقرب وقت ممكن.
من جانبه علق كريسترشون على هذه الخطوة – في مؤتمر صحفي بعد الاجتماع الثلاثي – قائلًا: “أشعر بارتياح كبير، لقد كان هذا هدفي منذ فترة طويلة، وأعتقد أننا حصلنا على رد جيد جدًا اليوم، واتخذنا خطوة كبيرة جدًا نحو العضوية”، مؤكدًا أن بلاده “لن تدعم تنظيمات حزب العمال الكردستاني “بي كي كي” و”غولن” المحظورين في تركيا، إضافة إلى تنظيمات مسلحة في شمال سوريا تعتبرها أنقرة أذرع العمال الكردستاني في المنطقة” في رسالة طمأنة للجانب التركي.
ورحبت الولايات المتحدة بتلك الخطوة التي وصفتها بالتاريخية، حيث قال الرئيس جو بايدن: “أرحب بالتزام الرئيس أردوغان بنقل بروتوكول انضمام السويد للناتو إلى البرلمان للتصديق عليه بسرعة (..) مستعد للعمل مع الرئيس أردوغان وتركيا على تعزيز الدفاع والردع في المنطقة الأوروبية الأطلسية”، فيما أكدت الخارجية الأمريكية أنها “تدعم بيع مقاتلات F-16 لتركيا بجانب دعم أهداف أنقرة بشأن الاتحاد الأوروبي”، وهي النقطة الخلافية الأبرز بين أنقرة من جانب وواشنطن والاتحاد الأوروبي من جانب آخر.
المرونة التركية في الموافقة على انضمام السويد، كبادرة حسن نوايا، دون الالتزام بمعظم الشروط المسبقة وعلى رأسها الانضمام للاتحاد الأوروبي والموافقة على تزويد أنقرة بطائرات مقاتلات F-16 ، يعكس رغبة تركيا في الحفاظ على وحدة الناتو وعدم استثارة الملفات الخلافية بداخله بالشكل الذي يهدد قوته وتماسكه، وإن كان ذلك لا يعني عدم وجود جولات مستقبلية واحتمالية نشوب معارك جديدة بشأن مطالب أنقرة المجمدة.
أوكرانيا.. بين الدعم والتحفظ
القضية الخلافية الأبرز حاليًا داخل أروقة الناتو هي عضوية أوكرانيا للتحالف، حيث تضغط كييف بكل قوتها من أجل الانضمام للأطلسي، مستغلة حالة الدعم والزخم الغربي منذ بداية الغزو الروسي قبل عام ونصف لتسريع ربطها بهذا الكيان الذي تحاول من خلاله أن تبقى تحت مظلة الدعم العسكري الغربي المستمر وليس المؤقت.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قال في حديث لشبكة “إيه. بي. سي” إنه سيحضر القمة وسيحاول التحدث إلى قادة التحالف من أجل الموافقة على عضوية بلاده، مؤكدًا أن دعوة أوكرنيا للانضمام للناتو ستبعث برسالة مفادها أن الحلف لا يخشى موسكو، ومنوهًا إلى ضرورة حصول كييف على ضمانات أمنية واضحة في ظل عدم انضمامها في الوقت الراهن.
وينقسم أعضاء التحالف بشأن حسم ملف عضوية أوكرانيا، ففريق يرى ضرورة الإسراع بتلك الخطوة بما يمثل ردعًا لموسكو والمعسكر الشرقي، ويتصدر هذا الفريق دول البلطيق، فيما يميل فريق آخر وعلى رأسه الولايات المتحدة إلى التريث بشأن تلك الخطوة.
بايدن في مقابلة له مع شبكة “سي إن إن” يرى أن ضم أوكرانيا للناتو في الوقت الراهن سيكون بمثابة استفزاز لروسيا ربما يزيد من رقعة الصراع الدائر حاليًا بما لا يمكن تحجيمه، وعليه فإن توخي الحذر إزاء تلك المسألة أمر غاية في الأهمية وإلا سينجر التحالف وأعضاؤه بالكامل لحرب شاملة مع روسيا بسبب اتفاقية الدفاع المتبادل، قائلًا: “لا أعتقد وجود إجماع داخل حلف الأطلسي بشأن ما إذا كان سيتم ضم أوكرانيا إليه، في هذه اللحظة، في خضم الحرب”.
وتحاول أمريكا وألمانيا وبعض قادة الناتو الاستعاضة عن فكرة عضوية أوكرانيا الحاليّة في الناتو بتعزيز المساعدات والدعم المقدم لكييف في حربها الدائرة حاليًّا مع الروس، عسكريًا وماديًا ولوجستيًا، هذا بخلاف الضغوط المفروضة على موسكو التي تهدف في المقام الأول إلى تقليم أظافرها وتجفيف منابع تمويل الحرب.
ثمة دوافع تجبر أعضاء الناتو على التريث قبل دعوة كييف للانضمام للحلف، خاصة في هذا التوقيت الحساس وحرب الاستقطابات المستعرة مؤخرًا، وأمام هذا الانقسام يرجح أن يكون الحل الأكثر حضورًا وواقعية وقبولًا لدى الجميع، منح الدولة الأوكرانية أفضلية نسبية، والتعامل معها كعضو لكن بشكل غير رسمي، وأن يُسمح للدول الأعضاء بإبرام اتفاقيات ثنائية معها على المستويات كافة، لكن دون التزام رسمي قانوني بالانجرار معها في حرب مع أي جهة كانت.
ومن الملفات الخلافية كذلك مسألة تعيين أمين عام جديد للناتو بعد انتهاء ولاية ينس ستولتنبرغ، وكانت رئيسة وزراء الدنمارك، ميتي فريدريكسن، هي المرشحة الأوفر حظًا، غير أن إصرار بولندا على أن يكون الأمين العام الجديد من دول البلطيق، غير كل الحسابات.
فاختيار مرشح من دول البلطيق ذات المواقف العدائية الصريحة ضد موسكو ربما يكون خيارًا استفزازيًا من جانب، ومصوغًا لتبني مواقف أكثر استفزازية تجاه المعسكر الشرقي من جانب آخر، وهو ما لا يريده قادة الحلف في الوقت الحاليّ، وعليه جاء التمديد لستولتنبرغ لعام جديد الخيار الأفضل للهروب من هذا المأزق.
في ضوء ما سبق.. يحاول قادة الناتو القفز على القضايا الخلافية بينهم رغم ما تمثله من صداع وما يمكن أن تحدثه من تشققات داخل جدران الكيان، وذلك من أجل أن تكون “الوحدة” هي الرسالة الأبرز التي تخرج بها تلك القمة المصيرية، فالتماسك واللحمة التي يشهدها الأطلسي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية لم تتحقق منذ الحرب الباردة حين تم تدشينه لمواجهة المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي المنهار.
ومن هنا يستميت قادة التحالف من أجل الحفاظ على تلك النجاحات التي قال عنها زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأمريكي ميتش ماكونيل: “أعتقد أنَّ الغزو عزَّز الناتو، وهو بالضبط عكس ما توقَّعه بوتين”، تلك المكتسبات التي تعزز من قوة الناتو المهلهلة قبل سنوات، وتعيد ترميم ثيابه المرقعة بثقوب الخلافات، فهل ينجح في ذلك؟