تنفّذ هيئة تحرير الشام منذ أسابيع حملة اعتقالات واسعة في مناطق سيطرتها في محافظة إدلب وريف حلب الغربي شمال غربي سوريا، طالت العديد من القياديين والعناصر العاملين في صفوفها بتهمة “العمالة والتجسُّس” لصالح عدة جهات، على رأسها روسيا وميليشيا “حزب الله” والنظام السوري والتحالف الدولي ضد “داعش”.
تثير حملة الاعتقالات الموسعة التي تشنّها تحرير الشام ضد العاملين في صفوفها، مخاوف المعارضين لسياسات الهيئة من اتخاذها ذريعة “العمالة والتجسُّس” للقضاء على أصواتهم، كما تثير الشكوك حول حقيقية التهم الموجهة بأنها ليست تصفية للحسابات بين قادة الهيئة.
حملة اعتقالات مكثَّفة
وعقب حصولها على معلومات استخباراتية خارجية، أكدتها التحقيقات الجارية مع عدد من الأشخاص الذين اعتقلتهم، شكّلت تحرير الشام غرفة عمليات مصغّرة بقيادة أبو محمد الجولاني، بغية تدارك حجم الاختراق الحاصل في صفوفها، إذ طالت الاعتقالات مسؤول الموارد البشرية في الجناح العسكري، بتهمة تقديم نسخ كاملة عن سجلّات العسكريين الذاتية لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA).
كما طالت أحد مساعدي مسؤول المعابر، وواحدًا من العاملين في مكتب رئيس حكومة الإنقاذ، ومشرف قناة “إدلب بوست” العاملة ضمن الإعلام الرديف، بالإضافة إلى مسؤول التنسيق في الإعلام العسكري بحسب مصادر موقع “تلفزيون سوريا”.
كذلك اعتقل الإداري العام في لواء علي بن أبي طالب ضمن الجناح العسكري، إضافة إلى المسؤول الأمني عن الكتلة الشرقية وأمير الهيئة سابقًا في مدينة تفتناز، ومسؤول القطاع الأوسط سابقًا الذي شغل منصب قيادي في منطقة القلمون سابقًا.
ومن ضمن من شملتهم حملة الاعتقالات أيضًا، مسؤول الدراسات الأمنية عن منطقتَي سرمدا والوسطى، إلى جانب المسؤول عن كاميرات المراقبة وخطوط الإنترنت في خطوط التماس مع قوات النظام (قدم معلومات كاملة للنظام السوري وروسيا عن نقاط الحراسة في خطوط التماس).
وتواصل تحرير الشام حملة الاعتقالات منذ يونيو/ حزيران الماضي بتُهم العمالة، والتي امتدت إلى قياديين بارزين وعناصر عسكريين وعاملين في القطاع الإداري التابعة للهيئة وشخصيات مدنية، بدأت بإعلان جهاز الأمن العام عن إلقاء القبض على خلية أمنية تتبع لـ”حزب الله” اللبناني في 24 يونيو/ حزيران الماضي.
ونشر المتحدث الرسمي باسم جهاز الأمن العام ضياء العمر، بيانًا يوضّح فيه عمليات الاعتقال التي طالت شخصيات “مشبوهة” في المناطق المحررة من خلال عمليات الرصد والتتبُّع، حيث جاء فيه: “النتائج الأولية تشير إلى أن هذه الشخصيات مرتبطة بميليشيا “حزب الله” اللبناني، وتعمل لصالحها في كل من ريفَي إدلب وحلب الشمالي، وذلك بعد إجراء الدراسات اللازمة”.
وكشف البيان أن التحقيقات الأولية مع المتهمين تبيّن أنهم كانوا يعملون لصالح أجهزة المخابرات السورية ثم المخابرات الروسية، وجُنّدوا مؤخرًا لصالح “حزب الله” اللبناني، مشيرًا إلى “أن عملهم ينشط في تحديد مواقع المجاهدين والمراكز الحيوية والحكومية والمنظمات الإنسانية”.
اختراق أمني واسع
كشفت التحقيقات المكثفة عن أعداد كبيرة من المتهمين، ما دفع الهيئة إلى توسيع حملة الاعتقالات لتشمل قياديين في مناصب حسّاسة، إذ ارتفع عدد المقبوض عليهم إلى أكثر من 300 عنصر وقيادي من مختلف المفاصل العسكرية والإدارية والإعلامية، التابعة لهيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ (الذراع الإدارية للهيئة).
ولم توضّح تحرير الشام عمل الأشخاص المتهمين بالعمالة لصالح “حزب الله” اللبناني، سواء كانوا مدنيين أو عاملين في المؤسسات التابعة لها، إنما ركزت على أنهم يعملون على تحضير عمليات تفجير في مناطق ريفَي حلب الشمالي وإدلب، فضلًا عن دورهم في التخابر لصالح الحزب اللبناني.
1_في الخلايا التي تتسر قيادة النصرة على وجودها داخل صفوها وتورط قيادات من الصف الأول بها
المسؤول الإداري العسكري العام وقد قام بتسليم نظام الأسد كل معلومات جنود وقيادات النصرة لنظام الأسد— الفاروق أبو بكر (@alfarookayoop) July 8, 2023
وتتكتّم تحرير الشام عن خلفيات الأشخاص الذين اعتقلتهم خلال الحملات الأمنية التي ينظمها جهاز الأمن العام، إلا أن مصادر عسكرية في حديثها لـ”نون بوست” أكّدت “أن العاملين في صفوف الهيئة يمثلون نسبة كبيرة من المعتقلين بتهمة العمالة، بينهم شخصيات قيادية ومدنية وإدارية في مختلف المؤسسات التابعة لها”.
ووصل حجم الاختراق إلى شخصيات قيادية في صفوف الهيئة، كما تعدّى إلى شخصيات رفيعة المستوى في حكومة الإنقاذ السورية، ذراع الهيئة المدنية، وهي الآن في ورطة كبيرة، وتحاول الخروج منها من خلال حملات الاعتقال، بعدما كشفت عن اختراق صفوفها من قبل مخابرات عدة جهات على رأسها روسيا والنظام السوري والتحالف الدولي، حسب الفاروق أبو بكر، قيادي في الجيش الوطني السوري.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تؤكد المعلومات وجود شبكات متعددة من التخابر ضمن صفوفها، وتعمل الهيئة منذ اعترافات الخلية الأولى على تنفيذ عمليات اعتقال لشخصيات متورطة بالعمالة”.
موضحًا: “لم تستطع الهيئة بجهودها كشف الخلايا، لكن جهات مخابراتية كشفتها بغية تعريتها وجعلها في مأزق على الصعيدَين الداخلي والخارجي”.
اتهامات بالعمالة وتصفية للحسابات
في وقت تصارع فيه تحرير الشام الخلايا المخابراتية ضمن صفوفها، يخشى معارضون لسياسات الهيئة من عمليات اعتقال تعسفية تطال شخصيات معروفة بمعارضتها لسياسة الهيئة في مناطق سيطرتها شمال غربي سوريا، لا سيما أن حملة الاعتقالات تلت حملات عسكرية موسّعة للهيئة ضد شخصيات تابعة لحزب التحرير بينهم مدنيين ليس لهم صلة به، ما أدّى إلى تأجيج الشارع ضدها.
ويرجّح مصدر عسكري في إدلب، رفضَ الكشف عن اسمه، أن حملات الاعتقال التي تطال شخصيات عاملة ضمن صفوف الهيئة، تدخل ضمن الصراعات الداخلية بين القادة، وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “هناك تيارات مختلفة ضمن صفوفها من حيث الرؤية وآليات العمل، لذلك هي بحاجة إلى تصفية البعض كما جرى سابقًا للعناصر الأكثر تطرفًا”.
وأكّد “أن التهم فضفاضة، ولا يوجد معيار حقيقي تلتزم به الهيئة، لأن كل ما يحصل لإبقاء السيطرة محكمة وسحق التيارات التي يمكن أن تشكّل خطرًا على قيادتها وعلى مركزية القرار مستقبلًا، وهذا ما تعمل عليه منذ محاولات تغيير استراتيجياتها محليًّا وخارجيًّا”.
ويتفق القيادي في الجيش الوطني، الفاروق أبو بكر، مع ذلك، ويرى أن “الهيئة يمكنها استغلال حادثة العمالة والتجسُّس التي تكافحها بحملات الاعتقال، في تصفية بعض الحسابات من شخصيات تعارض السياسة التي انتهجتها مؤخرًا، وأخرى عاملة ضمن صفوفها قد لا تكون بالضرورة نشطة ضمن الخلايا التي تعتقلها”.
مشيرًا إلى أن التسريبات المخابراتية أوقعت تحرير الشام في مأزق، في وقت تروّج نفسها أنها قادرة على إدارة المناطق المحررة بإحكام على الصعيدَين العسكري والإداري، إلا أنها وجدت نفسها في ورطة كبيرة تعرقل مشروعها الذي تعمل عليه.
ختامًا، توضّح تحركات تحرير الشام حجم الاختراق الأمني الذي بات يعصف بصفوفها، إذ تعمل ضمن أطر العمليات المستبقة لأية تغيرات مستقبلية، كما تحاول السيطرة على كوادرها وضبطها خلال عمليات اعتقال قد لا تكون بالضرورة مرتبطة بتهمة العمالة، ما يدفعها إلى استغلال الحادثة لتصفية الحسابات وإحكام قبضتها والقضاء على التيارات المتعددة ضمن الشخصيات البارزة في صفوفها، محاولة تصدير نفسها محليًّا وخارجيًّا كأفضل سلطة عسكرية وإدارية للشمال السوري.