“سيشهد التاريخ أن هذا أصبح إيمان البحر درويش”.. بهذا التعليق ذيلت ابنة الفنان المصري إيمان البحر درويش، صورة نشرتها لوالدها بموقع التواصل الاجتماعي قبل يومين، حيث بدا نحيفًا ذا شعر متساقط وجسد هزيل أنهكه المرض، الأمر الذي أحدث حالة من الصدمة لرواد السوشيال ميديا ومن خلفهم وسائل الإعلام المختلفة.
ملامح الصورة الصادمة والحالة المفاجئة التي أصبح عليها الفنان الشهير، نقيب الموسيقيين الأسبق، ونجل الملحن الراحل سيد درويش، فتحت الباب أمام الكثير من التكهنات عما تعرض له خلال فترة غيابه عن الساحة وتجاهل الأضواء له، خاصة أنه خرج من دائرة الاهتمام الإعلامي كليًّا إثر الانتقادات التي وجهها للحكومة المصرية قبل عامين تقريبًا بسبب تعاملها مع ملف سد النهضة.
وانقسم الشارع المصري في قراءته للرسالة التي تود ابنة الفنان إيصالها من خلال نشرها لصورة بتلك الهيئة من جانب، والتعليق المستخدم عليها من جانب آخر، حيث تبنى قطاع كبير من رواد التواصل الاجتماعي سردية أن ما حدث للفنان والحالة المذرية التي وصل إليها اليوم بسبب تصريحاته السابقة بحق السلطة التي انتقد فيها القبضة الأمنية وإستراتيجية الدولة في التعاطي مع ملف الأمن المائي.
ويعد درويش المولود في 18 مارس/آذار 1955 أحد أبرز الفنانيين المصريين، ذوي الميول الوطنية المعروفة للجميع، إلا أن التعامل معه في أعقاب تصريحاته السابقة وما أثير بشأن تعرضه للاختفاء القسري – حتى إن نُفي ذلك لاحقًا – فتح الباب مرة أخرى أمام ضحايا المواقف والآراء السياسية من الفنانيين وما أكثرهم في التاريخ المصري الحديث.
الفنان ايمان البحر درويش قال كلمة حق فتم التنكيل به ، هذه الحقيقة . التعليق الذي كتبته ابنته يحمل دلالة قاطعة فكلمة
” التاريخ ” لا تستعمل للحديث عن مرض عادي ، الابنة ترسل اشارة مستترة عما حدث لابيها من أهوال. اوسخ ما في المشهد هولاء الذين يستعبطون ويتحدثون عن تقاليد تصوير…
— علاء الأسواني (@AlaaAswany) July 12, 2023
ضحية القهر
في يونيو/حزيران 2021 كتب درويش – الحاصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة الإسكندرية – على صفحته على فيسبوك تعليقًا على تقرير صحفي منشور تحت عنوان “تحلية مياه البحر.. أهم تكليفات الرئيس السيسي للحكومة اليوم” قائلًا: “قرأت خبرًا عن تكليف الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكومة بتحلية مياه البحر! بعد المناورات وحماة النيل والهجص اللي بيضحكوا به ع الناس”.
وتابع “المشكلة الكبرى في الاتفاقية التي وقع عليها رئيس الجمهورية، التي كما يقولون لا تضمن لمصر كباية مية مش حصة المياه”، مؤكدًا “إذا لم يتم إلغاء هذه الاتفاقية من خلال البرلمان قانونًا، فانتظروا المصائب بالجملة، ولا تصدقوا كل الهجص اللي بينشروا إعلام العار. إذا كان رئيس الجمهورية نفسه يقوم بما يجعل تهديداته لإثيوبيا في حكم العدم”.
وبعد وقت قصير من هذا المنشور كتب تدوينة أخرى قال فيها: “رئيس الجمهورية يهدد ويتوعد إثيوبيا بضرب السد لو نقطة واحدة نقصت من النيل، قلنا الله أكبر! ويقوم بمناورات حماة النيل وفرحنا كلنا وقلنا اضرب يا ريس! وبعد كده نلاقي خبر إصدار قرارات للحكومة بالاهتمام بتحلية مياه البحر”، وتابع “هذا معناه بكل بساطة ووضوح أن موضوع النيل انتهى ما تفكروش فيه وإثيوبيا تتريق على الريس وتهديداته، ألا تشعرون بالغيرة على بلدكم والخجل من هذا الموقف المخزي ونحن نمتلك أعظم جيش في أفريقيا والمنطقة العربية والبوابين يتريقوا على تهديدات ضرب السد؟!”، متسائلًا “كيف يكون هناك مناورات حماة النيل ويصدر قرار بهذا الشكل الذي ينفي الموقف الذي أشدنا به؟ تلاتة بالله العظيم الموت أهون إننا نعيش في هذا الذل والهوان. زعلانين قوي من الحقيقة شديدة الوضوح. بقينا بياعين كلام”.
المنشور والتغريدة أثارا حالة من الجدل داخل الشارع المصري وعلى منصات التواصل الاجتماعي، فلأول مرة يخرج الفنان المرهف بتلك التصريحات الهجومية ضد النظام وإدارته لهذا الملف، ورغم أنه تحدث من منطلق أنه مهندس وليس فنانًا، فقد تعرض لحملة هجوم وشيطنة غير عادية.
وفي يوليو/تموز من نفس العام، أي بعد أقل من شهر على تلك الواقعة، تناقلت بعض الصفحات أخبارًا تفيد باعتقال درويش وأنه تعرض لاختفاء قسري بسبب تلك التصريحات، إلا أنه نفى تلك الأنباء، حيث نشر مقطع فيديو على صفحته على فيسبوك متهمًا مجموعات تابعة لجماعة الإخوان المسلمين بترويج ما وصفه “شائعات القبض عليه”، لافتًا إلى أن حبسه حال حدوثه سيتسبب في فضيحة عالمية، على حد قوله.
غير أن الهيئة التي ظهر بها في هذا الفيديو، والألفاظ المستخدمة فيه التي وصفت بـ”البذيئة” أثارت الكثير من الشكوك لدى البعض، إذ ليس معهودًا عن درويش، ذلك الفنان مرهف الحس، ذو الشخصية الراقية الخلوقة، هادئ الطباع، متزن الانفعال، بحسب شهادات المقربين منه، أن يصدر عنه تلك الألفاظ وهو في حالته الطبيعية، وهنا ساور البعض الريبة بشأن احتمالية أن يكون قد تعرض لضغوط أو انتهاكات أثرت على اتزانه ونفسيته وأخرجته بتلك الصورة التي كان يبدو أن الهدف منها تشويه الرجل وضرب صورته لدى جماهيره.
دفعت تلك الشكوك محبي درويش ومتابعي أخباره المفروض عليها تعتيمًا إعلاميًا، للعودة إلى الوراء قليلًا للوقوف على تغريدات الرجل ومنشوراته السابقة، لعلها تجيب عن التساؤلات مجهولة الإجابات، حيث اكتشفوا العديد من الكلمات التي كتبها قبل فترة تلخص الحالة التي يعاني منها ومنها “يا بلدنا يا بلد هو من إمتى الولد بيخاف من أمه لما في الضلمة تضمه، صدقيني خوفت منك خوفت منك صدقيني”.
“لو حد مس شعرة مني العالم كله هيعرف”
إيمان البحر درويش يحذر السيسي من التفكير في اعتقاله.. هذا ما قاله 👇 pic.twitter.com/eCjKA7pMvi
— شبكة رصد (@RassdNewsN) July 23, 2021
وفي فبراير/شباط 2021 كتبت ابنته تغريدة اعترفت فيها بشكل مباشر أن ما يتعرض له والدها له أبعاد أخرى حين قالت “الفنان نفسه من المغضوب عليهم، ولم يعامل معاملة آدمية، أنا لو نزلت صورة أبويا الكل هايعرف حالة الفنان إيه”، الرسالة اتضحت أكثر مع تدوينته التي دونها في مارس/آذار من نفس العام حين كتب يقول “يا مصر لو ع الموت انا مت 100 مرة”.
وبربط تغريدات الفنان السابقة وتلميحات ابنته ولغة الجسد والحالة النفسية التي ظهر عليها خلال مقاطع الفيديو التي ظهر بها خلال العامين الماضيين، يميل قطاع كبير إلى أن ما حدث مع درويش نوع من الانتقام لما بدر منه من انتقادات بحق السلطة، وأن الحالة التي بدا عليها في الصورة المنشورة له على سرير المرض قبل يومين هي الثمن الذي دفعه بسبب مواقفه رغم إرثه الفني والموسيقي الذي لا ينكره أحد.
اللافت هنا أن جده الأكبر سيد درويش، أحد أبرز الرموز الفنية في التاريخ الموسيقي المصري، الذي توفي في الحادية والثلاثين من عمره، كان قد أثيرت شكوك كبيرة بشأن وفاته في سبتمبر/أيلول 1923، حيث تبنت الحكومة المصرية رواية أن الوفاة كانت بسبب المخدرات إلا أن أسرة الفنان الراحل نفت هذا الكلام، وطالبت بتشريح الجثة وقتها إلا أن الحكومة التي كانت تدار وقتها من المستعمر الإنجليزي رفضت هذا الطلب، ليتأكد فيما بعد أن الوفاة كانت انتقامًا منه بسبب عدائه الشديد للإنجليز، وقد وثقت بعض الأعمال الفنية تلك الواقعة.
ليس الأول.. فوزي النموذج الأبرز
ما يحدث لدرويش اليوم يعيد الأذهان سريعًا إلى ما حدث قبل أكثر من 55 عامًا، مع الفنان الراحل محمد فوزي، الذي قُتل قهرًا بسبب تأميم نظام جمال عبد الناصر لمصنعه وتحويله من صاحب أكبر مصنع إسطوانات في الشرق الأوسط إلى موظف درجة ثالثة بداخله، ما كان سببًا لإصابته بسرطان مفاجئ وفق شهادة زوجته مديحة يسري في حديث متلفز لها.
وُلد محمد فوزي عبد العال حبس الحَو، في إحدى القرى التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية، في 28 أغسطس/آب عام 1918، لأب كان يعمل مقرئًا للقرآن، ليتوارث حلاوة الصوت وعذوبته، ليتعلم بعد ذلك الموسيقى وأصولها وقواعدها منذ صغره.
وفي عام 1947 وبعدما بات أحد مشاهير الغناء والموسيقى في مصر قرر إنشاء شركة خاصة به لإنتاج الأفلام، حيث أنتج قرابة 25 فيلمًا، ثم توسع لاحقًا لينشئ أول مصنع للأسطوانات في المنطقة عام 1958 وأسماه “مصر فون”، حيث نافس كبريات شركات الأسطوانات في العالم.
أيد فوزي حركة الضباط الأحرار في يوليو/تموز 1952 ودعم مبادرة “قطار الرحمة” التي دعا إليها بعض الفنانيين وقتها لجمع التبرعات لدعم الجيش المصري وإعادة تسليحه بعد خسارته في حرب 1948م، كما كان أحد أبرز المساهمين في الأغاني الوطنية التي صنعت خصيصًا لدعم تلك المرحلة التاريخية المهمة في تاريخ الدولة المصرية.
لكن دون مقدمات فوجئ فوزي بقرار من سلطة عبد الناصر بتأميم مصنعه عام 1961م، وتحويله إلى شركة “صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات” مملوكة للدولة، وبدلًا من كونه رئيسًا ومالكًا للمصنع تم تعيينه موظفًا داخل ملكه بمرتب 100 جنيه شهريًا، فيما انتقل مكتبه إلى غرفة الساعي الخاص به، وهو ما أحدث صدمة عصبية له قادت في النهاية إلى إصابته بسرطان العظام الذي قلل وزنه في غضون فترة قليلة من 90 إلى 37 كيبوغرامًا.
لم يتحمل فوزي الألم والمرض والقهر الذي تعرض له، وبعد مرور خمس سنوات فقط توفي الفنان العملاق في 20 أكتوبر/تشرين الأول عام 1966 عن عمر ناهز الـ48 عامًا، لتكتب وفاته إحدى القصص المروعة لضحايا القهر والاستهداف لنظام عبد الناصر.
وبدلًا من تكريم الدولة له للدور الذي قام به في خدمة الفن والموسيقى، جرى تجاهله تمامًا بشكل أثار الكثير من التساؤلات عن المتورط الحقيقي في وفاة الرجل، وعلى النقيض تمامًا كرمته الجزائر في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 حين منحه الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة وسام الاستحقاق الوطني وأطلق اسمه على المعهد الوطني العالي للموسيقى في الجزائر، وذلك احتفالًا بمرور 60 عامًا على النشيد الوطني للجزائر الذي لحنه فوزي هدية للشعب الجزائري.
لم يكن محمد فوزي ضحية القهر والانتقام السلطوي الوحيدة، إذ شهد التاريخ المصري العديد من النماذج المختلفة، منها الفنانة أسمهان الذي أثار مقتلها ومن بعدها وفاة سائقها الخاص الكثير من الجدل وفتح الباب أمام عدة تكهنات بشأن استهدافها بشكل ممنهج نظرًا لمواقفها السياسية، كما ذكر الناقد الفني طارق الشناوي في حديث له لـ”العربية”.
الأمر تكرر مع الفنانة الجزائرية وردة عام 2010 حين تعرضت للاضطهاد على خلفية التوتر الذي شاب العلاقات بين مصر والجزائر إثر المباراة الشهيرة التي جمعت منتخبي البلدين في تصفيات كأس العام بالسودان، حيث أصدر وزير الإعلام حينها أنس الفقي قرارًا بعدم إذاعة أغانيها فيما كان هناك توجه من نقابة الموسيقيين لطردها وشطب عضويتها بحسب الشناوي الذي أوضح أن الموقف ذاته حدث مع آخرين من بينهم الملحن كمال الطويل.
المغضوب عليهم
قائمة الضحايا من الفنانيين المغضوب عليهم في مصر طويلة، وإن أطاح القهر بالعديد منهم في السابق فإن الساحة على أتم استعداد لتقبل المزيد خلال المرحلة المقبلة، خاصة بعدما تحول الفن إلى عملية سياسية في المقام الأول، وبات تقييم الفنانيين على أسس سياسية وليس فنية، ما أدى في النهاية إلى انهيار الريادة المصرية للفن العربي.
منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وما تبعها من أحداث وصولًا إلى أحداث 30 يونيو/حزيران 2013 والانقلاب على أول نظام حكم مدني في التاريخ المصري، انقسم الفنانون المصريون إلى قسمين: قسم تابع ومؤيد وداعم للانقلاب وللسلطة العسكرية، وآخر معارض ورافض لعودة الحكم العسكري مرة أخرى.
وتحول هذا الانقسام إلى تصنيف وظيفي، يكافأ به الداعمون ويعاقب به المعارضون، ومن هنا فقد الكثير من المعارضين أعمالهم وزج بهم زجًا إلى طابور العاطلين، كما مُنعت أعمالهم من العرض بالأمر المباشر، فيما اضطر آخرون لمغادرة البلاد هربًا من التنكيل والحبس.
ففي عام 2014 فوجئ الكاتب بلال فضل، مؤلف مسلسل “أهل إسكندرية” بانسحاب العمل من السباق الرمضاني لأسباب غير معروفة، هذا العمل الذي شارك في بطولته كل من الفنان عمرو واكد والفنانة بسمة، والثلاثة، المؤلف وبطلا العمل، كانوا من المعارضين لتولي العسكر الحكم في البلاد
ومن هنا قرر فضل السفر إلى الولايات المتحدة فيما أعلنت بسمة الابتعاد عن السياسة، أما واكد الذي كان ضمن مؤيدي المرشح حمدين صباحي في انتخابات الرئاسة 2014 فآثر الخروج بعدما بات مستهدفًا بسبب آرائه السياسية وهو صاحب العبارة الشهيرة أن مصر “لن تكون دولة ناجحة في ظل وجود رئيس من الدولة العسكرية”.
الاستهداف ذاته تعرض له الفنان خالد أبو النجا، الذي فوجئ هو الآخر بمنع فيلمه “بائع البطاط المجهول” من العرض في مهرجان دبي، بسبب مواقفه السياسية الداعمة للثورة والمعارضة لحكم الجنرالات، ما أجبره على مغادرة وطنه والإقامة بالخارج، وهو ما يعيد إلى الأذهان ما حدث لبعض الفنانين في عهد جمال عبد الناصر، على رأسهم الفنانة فاتن حمامة التي غادرت مصر في المدة ما بين عامي 1966 و1971.
وغادر مصر الكثير من الفنانيين الآخرين بعدما بات وجودهم داخل وطنهم مغامرة قد تزج بهم داخل السجون بسبب آرائهم السياسية مثل هشام عبد الحميد وهشام عبد الله ومحمد شومان، كذلك المطرب حمزة نمرة الذي منعت أغانيه من البث في الإعلام الرسمي والخاص، الذي عاد إلى الوطن مؤخرًا.
وفي السياق ذاته فقد شهدت السنوات الخمس الماضية حالة احتكار شبه كامل للمشهد الفني المصري على مساراته كافة، من خلال الشركات التابعة للنظام وعلى رأسها شركة “المتحدة للخدمات الإعلامية” التي باتت تتحكم في خريطة الأعمال والفنانيين على أرضية سياسية بحتة، فتمنح المقربين الداعمين للسلطة الفرص تلو الأخرى، فيما يُجهل غيرهم حتى إن بعضهم عبر أكثر من مرة عن معاناته التي وصلت إلى أنه لم يجد ثمن الدواء.
وفي الأخير.. فإن الحالة التي وصل إليها الفنان إيمان البحر درويش، والمغلفة بالكثير من الغموض، لا يمكن قراءتها بمعزل عن الضغوط القهرية التي تعرض لها الرجل خلال العامين الماضيين، واختفائه عن الأضواء، قسرًا أو طواعية، لتكشف النقاب عن هذا الملف الزاخر بالكوارث المسكوت عنها الذي حول الفن إلى جارية في قصر السلطة يتعامل معها وفق أهوائه ومزاجه العام.