يشكل النفط نحو 94% من موارد ليبيا، وأهم ما يميزه غزارة الآبار المستخرج منها وقربه من موانئ التصدير المنتشرة على السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وتشير بيانات منظمة الدول المنتجة للنفط “أوبك” إلى أن ليبيا تحتل المرتبة الخامسة عربيًا باحتياطي نفطي يبلغ 48.36 مليار برميل.
بلغت إيرادات ليبيا النفطية خلال السنة الماضية نحو 27 مليار دولار، مرتفعة عن العام الماضي بنسبة 20%، التي كانت نحو 21.5 مليار دولار، وذلك رغم الانقسام المتواصل في البلاد وسيطرة الميليشيات على أبرز الموانئ والحقول النفطية.
تعد هذه الأرقام مهمة في الوضع الذي تعرفه ليبيا خلال السنوات الأخيرة، ما يؤكد أهمية هذه الثروة، وتشمل إيرادات ليبيا النفطية عائدات مبيعات النفط الخام والسوائل الهيدروكربونية والمشتقات النفطية والبتروكيميائية والضرائب والرسوم المحصلة من عقود الامتياز.
صبّت هذه العائدات، في صالح ميزانية الدولة الليبية حيث باتت زاخرة بالأموال السنة الماضية، ما جعل صندوق النقد الدولي يتوقع أن تكون ليبيا “الأسرع نموًا بين اقتصادات الدول العربية مع توقعات بأن تحقق نموًا بنسبة 17.9 % عام 2023”.
بالنظر إلى هذه الإمكانات الكبيرة للدولة، فإنَّ المواطن الليبي يطمح في حياة أفضل هو أمر مشروع تمامًا، خاصة إذا علمنا أن الدولة الليبية اكتشفت مؤخرًا 29 حقلًا نفطيًا جديدًا، فضلًا عن 12 حقلًا للغاز الطبيعي، وهي اكتشافات ضخمة.
إمكانات كبيرة
قبل الحديث عن الاكتشافات الجديدة والتحسينات التي يمكن أن تشهدها ليبيا أو موعودة بمشاهدتها جراء اكتشاف هذه الحقول الجديدة وتأثيرها المنتظر على وضعها الاقتصادي والرفاه الاجتماعي في البلاد، دعونا نلقي نظرة خاطفة في البداية على الإمكانات النفطية التي تتمتع بها ليبيا.
بلغ إنتاج النفط الليبي خلال سنة 2022 نحو 1.2 مليون برميل يوميًا، وفقًا للمؤسسة الوطنية للنفط، وذلك في وقت تأمل فيه حكومة الوحدة الوطنية الوصول إلى إنتاج مليوني برميل يوميًا، وتوقع صندوق النقد الدولي نمو إنتاج الهيدروكربونات بنحو 15% عام 2023.
ووصل ذروة الإنتاج الليبي من النفط خلال فترة الثمانينيات، حين تجاوز 3 ملايين برميل يوميًا، وهو الرقم الذي تحاول المؤسسة الوطنية للنفط العودة إليه أو الاقتراب منه خلال الفترة المقبلة بعد العديد من الاكتشافات التي تمت خلال السنوات العشرة الأخيرة.
أما في الغاز الطبيعي، فتصدر ليبيا نحو مليار قدم مكعبة من ملياري قدم مكعبة تنتجها البلاد، ويجري تصديره إلى إيطاليا عن طريق شركة مليتة للغاز عبر خط غاز يمر تحت البحر المتوسط من ليبيا إلى إيطاليا مملوك لشركة غرين ستريم، ولا يصدر الغاز الطبيعي إلى الخارج ما عدا الغاز المسال والمكثفات.
وتحتل ليبيا المرتبة الخامسة عربيًا باحتياطي نفطي يبلغ نحو 48.36 مليار برميل، وفق بيانات منظمة الدول المنتجة للنفط “أوبك”، فيما يبلغ احتياطي البلاد من الغاز ما يقارب 54.6 ترليون قدم مكعبة، يضعها في المرتبة الـ21 عالميًا من احتياطات الغاز.
تعتبر الشركات الإيطالية الشريك الأول للنفط في ليبيا، وأبرز هذه الشركات دون منازع هي “إيني”
يعتبر حوض “الهلال النفطي” الواقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط على طول 205 كيلومترات من طبرق شرقًا إلى السدرة غربًا، أغنى مناطق البلاد بالنفط، إذ يحتوي على 80% من قطاع الطاقة الليبي المقدر حجمه بأكثر من 45 مليار برميل نفط، و52 تريليون قدم مكعبة من الغاز.
من أكبر حقول النفط في منطقة الهلال النفطي: “السرير” و”مسلة” و”النافورة” التي تنتج مجتمعة نحو 60% من إنتاج البلاد النفطي، فيما تتوزع باقي الحقول على مختلف مناطق البلاد في الغرب والشرق والجنوب.
من أبرز هذه الحقول نجد حقل الشرارة النفطي الذي كان ينتج سابقًا نحو 300 ألف برميل يوميًا، بما يعادل ربع الناتج المحلي لليبيا من النفط، ويقع حقل الشرارة الذي تم اكتشافه عام 1980 في صحراء مرزق جنوب طرابلس، قريبًا من حقل الفيل الذي ينتج 70 ألف برميل نفط يوميًا.
وفي الشرق، نجد حقل الواحة الذي ينتج نحو 100 ألف برميل، ويقع جنوب مدينة أجدابيا شرقي ليبيا، تديره شركة الواحة التي تعد إحدى أكبر الشركات العاملة في مجال استكشاف وإنتاج النفط في ليبيا، بالشراكة مع شركات توتال وكونوكو فيليبس الأمريكية وماراثون وشركة هيس الأمريكية.
أما في البحر، فنجد حقل البوري البحري الذي يقع على بعد 120 كيلومترًا شمال الساحل الليبي في البحر المتوسط، اكتشف أول مرة عام 1976 على عمق 2.700 متر، يعتبر أكبر حقل منتج للنفط في البحر المتوسط، فضلًا عن حقل الجرف البحري قبالة الساحل الليبي، وكان الحقل ينتج يوميًا ما بين 30 إلى 35 ألف برميل.
تقع أكبر مجمعات تكرير النفط وموانئ تصديره إلى العالم، في منطقة الهلال النفطي، وعلى رأسها ميناء السدرة النفطي الذي يبعد نحو 180 كيلومترًا شرق مدينة سرت، ويستخدم في تصدير النفط الليبي عبر خطوط أنابيب لنقل النفط من الجنوب تصل مسافتها لنحو 1400 كيلومتر، وتزيد طاقته الإنتاجية على 400 ألف برميل يوميًا، ويضم 19 خزانًا بسعة نحو 6.2 ملايين برميل.
ثاني هذه الموانئ، ميناء راس لانوف، وتبلغ طاقته الإنتاجية 220 ألف برميل يوميًا، يستخدم في تصدير النفط الليبي عبر خطوط أنابيب لنقل النفط من الحقول النفطية في الجنوب، ويحتوي على 3 خطوط أنابيب نفط رئيسة و13 صهريج تخزين للنفط تبلغ سعتها 6.5 مليون برميل من النفط.
أما الميناء الثالث فهو ميناء الزويتينة، ويقع في مدينة أجدابيا، وتبلغ طاقته الإنتاجية 100 ألف برميل يوميًا، صدر أول شحنة نفط خام بتاريخ 28 فبراير/شباط 1968، وتبلغ سعته التخزينية نحو 6.5 مليون برميل نفط خام.
رابع الموانئ في منطقة الهلال النفطي، هو ميناء البريقة ويقع على بعد 250 كيلومترًا عن مدينة بنغازي، أنشئ عام 1965، ويتبع لشركة سرت لإنتاج وتصنيع النفط والغاز المملوكة للمؤسسة الوطنية للنفط، وقدرته الإنتاجية نحو 120 ألف برميل يوميًا.
فضلًا عن هذه الموانئ، نجد ميناء الحريقة في مدينة طبرق، وتبلغ قدرته الإنتاجية نحو 110 آلاف برميل يوميًا، افتتح سنة 1966، وميناء الزاوية الذي يعد الميناء الوحيد من بين الموانئ المستخدمة لتصدير النفط الواقع في الجزء الغربي لليبيا.
شركات عالمية
هذه الإمكانات النفطية الهائلة والمؤشرات المستقبلية المهمة، جعلت كبرى الشركات العاملة في مجال الطاقة تتسابق للظفر بعقود عمل في ليبيا، فالأرباح مضمونة في هذا البلد العربي القائم على النفط ومشتقاته، وتعمل بعض هذه الشركات في مجال التنقيب والأخرى في الإنتاج والثالثة في التصنيع والتكرير فيما يعمل القسم الرابع في الصيانة والخدمات.
تعتبر الشركات الإيطالية الشريك الأول للنفط في ليبيا، وأبرز هذه الشركات دون منازع شركة “إيني”، إذ يبلغ إنتاجها اليومي نحو 600.000 برميل نفط مكافئ (نفط خام وغاز طبيعي ومكثفات غازية من بروبان وبيوتان ونافتا)، بالإضافة إلى إنتاج نحو 450 طنًا من عنصر الكبريت يوميًا.
تدير “إيني” الإيطالية عددًا من الحقول النفطية البرية المنتشرة على الجغرافيا الليبية الشاسعة، وحقولًا بحرية متمثلة في ثلاث منصات بحرية وخزان عائم، كما تدير أيضًا شبكة خطوط أنابيب برية مختلفة الأحجام ممتدة لآلاف الكيلومترات.
فضلًا عن الشركات الإيطالية، نجد أيضًا الشركات الفرنسية التي تقودها “توتال”، وتقوم الشركة بتشغيل وإنتاج حقل المبروك وحقل الجرف من خلال أحد فروعها وهي شركة “سي.بي.تي.إل”، كما تشارك في إنتاج بعض الحقول الأخرى مثل حقل الشرارة، وتعمل شركة توتال في ليبيا منذ 60 عامًا، وتركز في نشاطها على الاستكشاف والتنقيب عن النفط في الحقول البرية والبحرية.
أما الشركات الأمريكية، فتبرز منها “أوكسيدنتال بتروليوم”، التي بدأت أعمالها في ليبيا منذ عام 1965 وواصلت العمل إلى حين فرض العقوبات الأمريكية على ليبيا عام 1986، ثم عادت للنشاط عام 2004 بعد رفع الحصار، وفي العام 2008 وقعت الشركة خمسة عقود تنقيب وإنتاج بالمناصفة مع المؤسسة الوطنية الليبية للنفط، كما نجحت في تمديد آجال عقودها في البلاد.
من الشركات الأمريكية العاملة في هذا البلد المغاربي أيضًا “إكسون موبيل الأمريكية”، التي استأنفت نشاطها في ليبيا عام 2005 عقب رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، إلا أنها قلّصت عملياتها وعدد موظفيها في البلاد سنة 2013 نتيجة تدهور الوضع الأمني.
بدأت مؤسسة النفط في تطوير إجراءات بعض القطع ومناطق الامتياز
بعد مرور 11 عامًا على سقوط نظام معمر القذافي، عادت شركات النفط البريطانية بريتيش بتروليوم وشل إلى ليبيا أي بعد ما يزيد على عقد من الزمن، كما حصلت شركة بتروفاك البريطانية التي تقدم خدمات هندسية لعمليات النفط على عقد للمساعدة على تطوير حقل نفط يعرف باسم إيراوين ويقع في أقصى جنوب غرب ليبيا.
فضلًا عن هذه الشركات العالمية، هناك العديد من الشركات الوطنية العاملة في مجال النفط والغاز وهي شركات سرت والواحة ومليتة والخليج العربي وأكاكوس والهروج والمبروك للعمليات النفطية، وهي شركات عاملة في مجال التشغيل.
فتح الباب أمام الاستثمارات
أكد المسؤولون في المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا – المسؤولة عن العمليات الفنية التشغيلية والتصدير والإنتاج – في أكثر من مرة، عزم بلادهم رفع إنتاجها من النفط إلى 2.1 مليون برميل بحلول عام 2024، فضلًا عن إنتاج 3.5 مليار قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.
لكن هذه الزيادات، تتطلب استثمارات كثيرة لتطوير النفط والغاز وتشغيل حقول جديدة واكتشاف أخرى، وفي فبراير/شباط الماضي أطلقت ليبيا بالتعاون مع شركة كيرني الأمريكية، خطة إستراتيجية لقطاع النفط والغاز في البلاد.
تتضمن الخطة تطوير حقول مكتشفة جديدة ورفع القدرة الإنتاجية للحقول الحاليّة، إضافة إلى تطوير البنية التحتية التي تضررت بسبب الأحداث التي مرت بها الدولة الليبية، وفق وزير النفط والغاز الليبي محمد عون.
ضمن هذه الخطة أيضًا، من المقرر طرح مربعات جديدة للتنقيب عن النفط والغاز خلال العام المقبل، وذلك لأول مرة منذ أكثر من 17 عامًا، إذ كانت آخر جولة عطاءات طرحتها المؤسسة الوطنية للنفط في سنة 2007، وتسعى ليبيا من خلال هذه الخطة للاستفادة من كل مواردها الهيدروكربونية، التي تعد المصدر الرئيس للدخل.
كمؤشر على انفتاحها على الاستثمارات الخارجية، وقّعت السلطات الليبية صفقة مشروع للغاز البحري بقيمة 8 مليارات دولار مع شركة إيني الإيطالية مطلع هذا العام، لتطوير قطعتين غازيتين في المنطقة البحرية غرب طرابلس.
وتستهدف الصفقة تطوير حقول غاز، تقترب احتياطياتها من 6 تريليونات قدم مكعبة، ومن المرتقب أن ترفع الاتفاقية إنتاج ليبيا من الغاز في أقل من ثلاث سنوات إلى 4 مليارات قدم مكعبة، وفق رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة.
كما وقعت ليبيا اتفاقيات أخرى مع شركة توتال الفرنسية في حقول شركة الواحة بشأن الغاز وذلك بعد رفع القوة القاهرة على الاستكشافات النفطية في الحقول النفطية خلال شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي.
ضمن خطط رفع الإنتاج، سرعت ليبيا من عمليات الاستكشاف، وبدأت مؤسسة النفط في تطوير إجراءات بعض القطع ومناطق الامتياز، خاصة أن ما نسبته 30 إلى 40% من مساحة ليبيا البرية والبحرية لم تستكشف أصلًا، وفق وزير النفط الليبي، ومن المرتقب أن تركز ليبيا في عمليات الاستكشاف على المناطق الاقتصادية الخالصة بين إيطاليا واليونان ومالطا وبين تركيا وليبيا.
وفي حوار له مع وكالة الأناضول، أكد الوزير الليبي اكتشاف بلاده 29 حقلًا نفطيًا جديدًا، و12 حقلًَا للغاز الطبيعي في البر والبحر، وفي مايو/أيار الماضي، أعلنت ليبيا عن اكتشاف حقل نفطي جديد جنوبًا، بمعدل إنتاج يصل إلى 1888 برميلًا يوميًا، بواسطة شركة تاتنفت الروسية، بمنطقة العقد 82/04 الواقعة بحوض غدامس.
عودة الحياة لقطاع النفط والغاز
من شأن الاكتشافات الجديدة التي تشمل النفط والغاز والاتفاقية الموقعة مع شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية، أن تعيد الحياة لقطاع النفط والغاز في ليبيا، خاصة أن هذه الاستثمارات لم يشهدها قطاع النفط الليبي منذ ما يزيد على ربع قرن.
وتقدر الحكومة الليبية، العائد المحقق للدولة من الاستثمار مع شركة “إيني” الإيطالية بما يتراوح بين 13 و18 مليار دولار، بعد استرجاع المصاريف الرأسمالية والتشغيلية، وذلك من إنتاج حقول الغاز الطبيعي في المنطقتين البحريتين “ألف وهاء”.
وتأمل السلطات الليبية في أن تفتح الاتفاقيات الأخيرة، الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، خاصة أن العديد من الشركات العالمية أبدت رغبتها في العودة إلى ليبيا والاستثمار في قطاع النفط، بعد أن تهدأ الأوضاع السياسية أكثر.
واضطرت العديد من الشركات العالمية إلى الخروج من ليبيا عقب ثورة فبراير/شباط 2011 والإطاحة بنظام معمر القذافي، نتيجة اشتداد الانقسام السياسي في البلاد وتواصل الصراع على السلطة بين العديد من القوى المدعومة من الخارج.
تعتبر تركيا واحدة من الدول القلائل في العالم التي تمتلك سفن أبحاث زلزالية
نتيجة هذا الصراع، عرف إنتاج النفط في ليبيا في العقد الأخير تذبذبًا، فمرة نجده بلغ مستويات قياسية وفاق 1.22 مليون برميل يوميًا، وفق بيانات متطابقة لمؤسسة النفط الليبية ومنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، ومرة نجده لا يتجاوز 70 ألف برميل يوميًا، وأخرى لا ينتج أي برميل.
وغالبًا ما تستهدف، المجموعات المسلحة حقول النفط وموانئ التصدير لفرض شروطها والحصول على امتيازات جديدة، وهو ما يدفع السلطات إلى إعلان القوة القاهرة في هذه الأماكن، الأمر الذي ينعكس على اقتصاد البلاد القائم على مداخيل النفط.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، رفعت حكومة عبد الحميد الدبيبة حالة القوة القاهرة عن عمليات استكشاف النفط والغاز في ليبيا، وقالت للشركات العالمية العاملة في مجال النفط والغاز في ليبيا، التي وقّعت مؤسسة النفط معها اتفاقيات لممارسة عمليات البحث والتنقيب والاستكشاف، بأنه أصبح بإمكانها العودة لاستئناف أعمالها في البلاد.
ما حجم المنافسة التركية؟
بينا في البداية أبرز الشركات النفطية العاملة في البلاد، وأشرنا إلى بدء ظهور لاعبين جدد على الساحة من بينهم شركة تات نفط الروسية وشركة سي إن بي سي الصينية وسوناطراك الجزائرية التي قد تعود إلى ليبيا للفوز بعقود امتياز جديدة.
هناك لاعب مهم يتوقع ظهوره في الفترة المقبلة، ونعني هنا الشركات النفطية التركية، إذ تأمل أنقرة في الحصول على امتيازات للتنقيب والحفر في ليبيا، في ظلّ الدور الكبير الذي أصبحت تتمتع به تركيا في هذا البلد العربي.
وسبق أن قال وزير النفط والغاز الطبيعي الليبي محمد عون إن أولوية المسوحات السيزمية هي للشركات التركية، وبرّر الوزير ذلك بما تمتلكه الشركات التركية من خبرة كافية في هذا المجال، كما أنها تمتلك سفن المسح الزلزالي والحفر.
كما قال محمد عون إن الشركات التركية لها الأسبقية في عمليات المسح الزلزالي، نظرًا لقربها من ليبيا، إذ سيكون وصول السفن إلى المنطقة أقل تكلفة وأسهل، وهو ما سيعود بالفائدة على البلدين، ذلك أن المؤشرات إيجابية.
تعتبر تركيا واحدة من الدول القلائل في العالم التي تمتلك سفن أبحاث زلزالية، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج وإيطاليا، كما أنها تمتلك البنى التحتية والمعدات الفنية اللازمة، لإجراء المسوحات البرية والبحرية، للتنقيب عن مصادر الطاقة التقليدية.
فضلًا عن سفن الأبحاث الزلزالية، تمتلك مؤسسة البترول الوطنية التركية، وياووز أيضًا 4 سفن حفر من الجيلين السادس والسابع (سفن الفاتح والقانوني ووياووز عبد الحميد خان أحدث سفن التنقيب في العالم).
وأدركت أنقرة منذ عقدين، أهمية تطوير بنيتها التحتية في مجال الطاقة، وسارعت لبناء أسطول ضخم من سفن المسح والتنقيب تقوده طواقم محلية خبيرة ومؤهلة للبحث عن موارد الطاقة الطبيعية تحت مياه الوطن الأزرق الذي يحيط بتركيا من ثلاث جهات.
وتمتلك تركيا اليوم القدرة على إجراء المسوحات السيزمية في جميع أنحاء وطنها الأزرق وخارجه أيضًا، ومباشرة الحفر في الحقول التي اكتشفتها، ما شجع الدولة الليبية على الاستعانة بها ومنحها أولوية في الاستثمار بمجال الطاقة.
جدير بالذكر أن عمل الشركات التركية النفطية في ليبيا ليس جديدًا، إذ حصلت شركة النفط التركية على قطع استكشافية سنة 2005، واكتشفت مكامن نفطية: واحدة في حوض غدامس (غرب) وأخرى في حوض مرزق (جنوب) والثالثة في حوض سرت (شمال وسط)، وكان من المفترض أن تطوّر أعمالها، لكن بسبب الأوضاع التي مرت بها ليبيا منذ 2011 توقف عمل الشركة بعد إعلان القوة القاهرة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقعت تركيا مذكرة تفاهم مع ليبيا في مجال الموارد الهيدروكربونية (النفط والغاز الطبيعي)، وأكد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو آنذاك أن الاتفاقيات المبرمة بين تركيا وليبيا تستند إلى مبدأ الربح المتبادل للطرفين.
تأمل الحكومة الليبية في الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية
تهدف الاتفاقية إلى إقامة تعاون بين الشركات التركية والليبية في الاستكشاف والتنقيب في البر والبحر وفي مناطق الصلاحية البحرية، وسبق أن وقعت تركيا وليبيا اتفاقية لتحديد الحدود البحرية بينهما وقامت أنقرة عقب ذلك بتسجيل حدود جرفها القاري لدى الأمم المتحدة، في انتظار أن تقوم الحكومة الليبية بخطوة مماثلة.
وسارعت الحكومة التركية بعقد هذه الاتفاقيات مع نظيرتها الليبية، لضمان امتيازات جديدة في ليبيا، في ظل مسارعة شركات النفط الأوروبية خاصة شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية ومعهما عدد من الشركات الأخرى للتنقيب عن الغاز والنفط داخل ليبيا.
وسبق أن اقترح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على نظيره الأذري، إلهام علييف، إمكان التعاون التركي الأذربيجاني في مجالات النفط والطاقة في ليبيا، وقال أردوغان إن شركة النفط الأذربيجانية يمكنها مساعدة شركة النفط التركية “تابو” في شحن النفط واستخراجه من ليبيا، من أجل الانفتاح على أوروبا والتوسع في البلدان الأخرى.
هذه ليست المرة الأولى التي يتعاون فيها الطرفان في مجال الطاقة، حيث تنفذ أذربيجان وتركيا العديد من مشروعات الطاقة في أوروبا، من بينها مشروع خط أنابيب “تاناب” لنقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، وكذلك خط “باكو- تبليسي- قارص”، وتعوّل أنقرة كثيرًا على باكو في خطّتها لتحوّل تركيا إلى “بورصة لموارد الطاقة من النفط والغاز والكهرباء”.
نقطة مهمة ترجح كفة الشركات التركية، هي أن قرابة 40% من المواقع المحتمل ظهور النفط بها في ليبيا توجد في المنطقة التي سيتم تفعيل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بها كما أشار وزير النفط والغاز الليبي محمد عون، في تصريحات صحفية له.
تمتلك تركيا مكانة كبيرة عند الليبيين، إذ فتحت مطاراتها لليبيين خلال الحرب في الوقت الذي أغلقت فيه باقي الدول مطاراتها في وجهم، كما أنها لم تغلق سفارتها في طرابلس، وساعدت حكومات البلاد الشرعية في التصدي للعدوان على طرابلس.
كما تحظى الشركات التركية بتقدير كبير في ليبيا كونها لاعبًا رئيسيًا في البلاد الغنية بالنفط قبل نشوب الحرب، لذلك فالجميع يسعى للعمل معها والاستفادة من خبراتها، ويفوق عدد الشركات التركية العاملة حاليًّا في ليبيا 48 شركة.
ويتوقع أن تجني الشركات التركية الأموال الطائلة، نتيجة الاتفاقات الأخيرة مع الجانب الليبي، وإن كان من المبكر تحديد أرقام معينة في هذا الخصوص، لكن من المؤكد أنه سيكون هناك ربح مشترك من الطرفين، فتركيا تبحث أن تكون مركزًا عالميًا في مجال الطاقة بكل تفاصيله، أما ليبيا فتأمل في تنمية هذا القطاع، للاستفادة منه قدر المستطاع.
مع ذلك، وجب الإشارة أن مهمة الشركات التركية لن تكون سهلة في تركيا، صحيح أن لها الأولوية الكاملة للعمل هناك، خاصة أن أنقرة وقفت بقوة إلى جانب الحكومات الشرعية في ليبيا وأنقذتها من خطر السقوط تحت قبضة المليشيات المسلحة التي يقودها خليفة حفتر، إلا أن المنافسة ستكون شديدة.
من المتوقع أن تعمل الشركات العالمية الكبرى خاصة الإيطالية والفرنسية العاملة في ليبيا، على عرقلة نشاط الشركات التركية التي تعتبر حديثة العهد بليبيا، وهو ما سيجعل المهمة صعبة، خاصة في مجال الإنتاج.
العراقيل لن تكون من جهة شركات الطاقة فقط، وإنما من بعض الدول أيضًا على رأسها اليونان التي سبق أن رفضت اتفاق ترسيم الحدود بين ليبيا وتركيا، إلى ذلك، كما يمكن أن تسبب أنشطة التنقيب والحفر التي ستقوم بها تركيا في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليبيا في أزمات بين تركيا وإيطاليا في الفترة المقبلة، وبين تركيا ومصر أيضًا.
سجلت ليبيا في السنتين الأخيرتين تحسنًا ملحوظًا، إذ عرفت البلاد طفرة في إنشاء بُنى تحتية في مدن مثل طرابلس وبنغازي
قفزت الإيرادات النفطية في ليبيا إلى 130.5 مليار دينار (نحو 27.19 مليار دولار) خلال سنة 2022، مرتفعة عن العام الماضي بنسبة 20%، التي كانت نحو 21.5 مليار دولار، ويتوقع أن يتضاعف هذا الرقم، إن تمكنت ليبيا من تحقيق خططها لمضاعفة الإنتاج.
وتأمل الحكومة الليبية في الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، نتيجة الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وعدم تحديد سقف لإنتاجها من النفط، ما سيمكنها من جني أموال إضافية ستساعد في تنمية احتياطي البلاد الذي فقد أكثر من 54% من قيمته خلال عشر سنوات، حيث تراجع إلى 75 مليار دولار مع نهاية العام الماضي 2021، بينما كان عام 2012 نحو 138 مليار دولار، حسب إحصاءات المصرف المركزي.
كيف سينعكس النفط على الداخل الليبي؟
زيادة مداخيل ليبيا من العملة الصعبة من شأنه أن يساهم في تنمية البلاد وقدرة الدولة على قيادة جهود إعادة الإعمار، فآلة الحرب المتواصلة منذ سنوات دمرت معظم البنى التحتية في ليبيا وأعادت البلاد سنوات عديدة إلى الوراء.
كما من شأنها أيضًا أن ترفع القوة الشرائية للمواطن الليبي، ذلك أن قيمة الدينار الليبي ستنمو مقارنة بالعملات الأجنبية، وستتحسن الأوضاع المعيشة في البلاد، فتعافي القطاع النفطي يعني مباشرة تعافي مستوى الاقتصاد الكلي.
بالفعل، سجلت ليبيا في السنتين الأخيرتين تحسنًا ملحوظًا، إذ عرفت البلاد طفرة في إنشاء بُنى تحتية في مدن مثل طرابلس وبنغازي، وحتى الحياة اليومية للمواطنين أصبحت أفضل مما كانت عليه، بفضل الاستقرار النسبي الحاصل وتنامي إيرادات النفط والغاز.
لكن المشكلة الأبرز والمطروحة بجد على الطاولة، أن الاستقرار الحاصل في ليبيا الآن نسبي وفي أي لحظة يمكن أن تشتعل البلاد مجددًا، ما من شأنه أن يسقط كل الخطط التي وضعتها الحكومة لتطوير قطاع النفط، وبالتالي سينهار الاقتصاد مجددًا.
أيضًا، حتى في حال تواصل هذا الاستقرار، فإن أغلب عائدات النفط ستصب في صالح القوى التي تسيطر على البلاد، أي المليشيات المنتشرة في أغلب المناطق وتسيطر على مختلف الحقول والموانئ النفطية، فالنمو الاقتصادي وعائدات النفط ستصب في صالح تلك القوى، أما المواطن الليبي فسيتوجب عليه الانتظار أكثر حتى يتمتع بخيرات بلاده.
صحيح، يمكن أن نشاهد مستقبلًا تطورًا ملحوظًا في البنى التحتية وسنشاهد الطرقات السيارة والعمارات الشاهقة والحدائق الخضراء، لكن من الصعب أن نشاهد مستشفيات متطورة ومدارس ذات جودة عالية، وسيبقى الليبي مرتبطًا بالعديد من الدول.