هذا ليس مقالًا علميًّا، لكنه يتحسّس بسبل العلم الحالة النفسية التي يخلقها الانقلاب في نفوس الناس، ويعمل على استمرارها لأنها الأداة الوحيدة الكفيلة ببقائه.
الانقلاب يدفع الناس إلى التصرف الغريزي، أي البحث عن سبل البقاء الدنيا، الخبز والزيت والكهرباء وما تقتضي ضرورات البقاء في هذا الزمن، وهو بذلك يناقض الثورة وما تجيّشه في قلوب الناس من عواطف إنسانية، أهمها التسامي الإرادي والواعي عن المطلب الغريزي المباشر.
الثورة ترفع الناس إلى التعالي، والانقلاب ينحط بهم إلى حضيض الحاجة، ما يعيشه التونسيون اليوم هو عملية مرتّبة للنزول بهم بعد طموحات الثورة وأحلامها إلى وضع الكائنات الغريزية، وهي العملية التي تسمح للانقلاب وأدواته بالبقاء باستعمال هرم ماسلو للحاجات، فإن الانقلاب يربط الناس بالدرجة الدنيا (قاعدة الهرم ليمنعهم من الصعود إلى قمته).
الانقلاب عقاب للثورة
الانقلاب في تونس بعد مثيله في مصر هو عقاب منهجي مسلّط على الشعب الذي فكر أن يكون شعب مواطنين حرًّا ومستقلًّا ويفكر لنفسه ويصنع مستقبله. هذا الفكرة ليست لي وإن صغتها بهذا الشكل الآن. هناك اتفاق بين كل من ناصر الثورة على أنهم يتعرضون لعقاب جماعي، لأنهم مارسوا ثوريتهم وطمحوا إلى وجود فوق الغريزة.
المعاقِبون كثر (موجّهون من الخارج وأدوات محلية مطيعة لهم ومتفقة معهم)، وهم الأعرف بأن التفكير الحر يدمّر مصالحهم، وأن الكائن الغريزي المشغول بقُوته يمكن قياده بشكل سلس، بل إطعامه القشم دون أن يحتجّ، وكل ما جاع خضع فيحكم المعاقِب على هواه.
فكرة الثورة وما تخلقه من حماس في النفوس يتوجان غالبًّا بمشروع تغيير، وهي فكرة مزعجة لمنظومات الحكم، وهذا معطى تاريخي ثابت لم نكتشفه.
والثورة التونسية كانت من هذا النوع الخلّاق للطموحات والرغبة في التغيير، وقد كانت أزهى لحظاتها وأقواها رمزيًّا وعمليًّا عندما أشعلت الفتيل، حتى وصل بلاد اليمن وعمان، وكان الرعب الذي رأيناه على وجوه المنظومات الفاسدة كافيًا لنستدل به على قوة الثورة.
غير أن تلك القوة خلت من الخطة البنّاءة ذات المشروع، لذلك اضطرب سيرها ووقعت في أحابيل المنظومات، فلم تخرج سليمة، ثم أكملت الانقلابات دفن الأحلام، فكان الوضع الحالي الغريزي يحكم “الشعب العام”.
طبعًا يمكننا تعديد الصفحات في اتهام من خذلَ تلك الموجة الثائرة، لكن توزيع الاتهامات صار جزءًا من لُعَب الانقلابات نفسها، فهي تترك معارضيها يتنابزون، بل تحرضهم على التآكل الذاتي، وهذا المقال ينأى بنفسه عن توزيع الاتهامات طبقًا لخطة الانقلاب، لكنه يقول بعض الخسران كان من أكثر المتحمسين للثورة، لأن الغريزي فيهم كان كامنًا في الثوري بما يثبت زيف الثوري فيهم، وهذا أُحبولة لم تعِها الثورة فطُعنت من الداخل.
ماذا بعد العقاب؟
هل تستقر الأمور للانقلاب (في تونس ومصر رأسا حربة الثورة). هي مستقرة بعد، وإن كان العجزة أو الحالمون الكسالى من أنصار الثورة ينتظرون معجزة ويتخيلون انتفاضة “الشعب العام” من جديد.
لا معوّل على ثورة شعبية ثانية (وهذا إعلان تصحيح لما كنت أشارك فيه من وهم)، وإن ما زلت أعتقد جازمًا أن “الشعب العام” يملك من الوعي ما يخرجه بسرعة من الوضع الغريزي إلى لحظة ثورة.
لكن هذا الوعي الحاد نبّهه إلى أن من استلم منه الثورة الأولى لم يصنها وفرّط في خيرها، لذلك “الشعب العام” المؤمن لن يُلدغ من الجحر نفسه، وهذا ليس أفقًا ثوريًّا حاليًّا لكنه تنبيه ذكي أو فطري لمن فشل بأن يصحّح فكرته وموقفه وسلوكه السياسي.
لا يظهر لنا أن هناك عملية مراجعة حقيقية تجري لما سبق لذلك، تنتهي قناعاتنا أن “الشعب العام” لن يمد عنقه للذبح بسكين النخب ثانية، وسيكتفي بتدبير يومه تحت ظل الانقلاب. هنا انتصر الانقلاب انتصارات نفسية تعطيه بطارية قوية للبقاء واقفًا لا يتراجع.
لقد كررنا القول إن النخب لم تكن في مستوى الثورة، ومع الوقت تبيّن لنا أن النخب جزء من منظومات الحكم السابقة بذلك، فهي معادية للثورة غريزيًّا (من أعلى أساتذة الجامعة إلى موظف محتقر في السلَّم الإداري).
حتى أن هرم ماسلو يفقد قوته التحليلية، فضمان وقود السيارة عند أستاذ جامعي مقدّم على الحرية الأكاديمية، فضلًا عن الحرية السياسية التي تضمن له مشاركة قيادية بصفته العلمية، هذا الاستقرار هو الخراب عينه.
الإحباط وقود الانقلاب
ينتَج في نفوس الناس فيعتمل استقالات من الشأن العام فكأنه يتحول إلى وقود لمزيد من الإحباط، وهو الوقود الذي يتحرك به الانقلاب، هل تساهم هذه القراءة في المزيد من الإحباط؟ نعم، لكن الإحباط الأكثر تأثيرًا في ما نظن هو بثّ الآمال الكاذبة والانتصارات الوهمية في مواجهة الانقلابات.
غني عن القول أن الانقلابات كشفت معادن النخب ووفّرت وعيًا بغريزيتها، كما غربلت الأحزاب التي تدّعي الدفاع عن الحريات والديمقراطية، لكن هذا من قبيل التعزيات التي تأخّر الوعي بها (كان يجب أن يعي من شارك في الثورة أن القوميين واليسار المتطرف لم يكونا أبدًا من أنصار الحريات، إذ إن الأمر مكشوف منذ زمن طويل)، لكنها الغفلة وحسن الظن وضعف الوعي باسم البحث عن المشتركات.
كما أن الصورة المثالية المحمولة عن النقابات لم تسمح بوعي بدورها كأداة من أداوت منظومات الحكم ذات الدور التخريبي، والحالة التونسية أكبر مثال على ذلك. هل نستسلم للانقلاب المحبط والمدمّر للنفوس؟
لا أظن أن ذلك سيحدث، ولو دعونا إليه، لكن بدايات جديدة ومختلفة ستفرض نفسها من داخل هذا الإحباط العام، بدايات مبنية على غربلة الأحزاب وعلى تمحيص النخب وعلى عجز الانقلاب عن تحقيق المكاسب لـ”الشعب العام”.
آخر المؤمنين بالثورة مدعو إلى التخلي عن وهم الثورة الشعبية (كما حدث ذات شتاء عبقري)، وعن وهم المثقف العضوي قائد الجماهير الغافلة، وعن انتظار معجزة أو نجدة خارجية تحبّ الديمقراطية للعرب، والعمل على إعادة بناء الوعي وتشكيل التنظيمات بروح واقعية.
لقد حسم الانقلاب أمرًا ما كان قبله، فليكن هناك ما بعد الانقلاب وما بعد ما قبل الانقلاب. تلك هي الطريق.. وهذا حديث التاريخ لا أماني النخب أمام الحواسيب.