ترجمة وتحرير: نون بوست
“استعدوا معي للسهر في أحد النوادي مع هذه الفتاة!”، هذا ما قالته طالبة في إحدى الجامعات العربية الدولية تدعى باتريشيا في أحد مقاطع الفيديو التي نشرتها على تيك توك الذي يظهر فتاتين في سن الجامعة في غرفة نوم إحداهما وهما تضعان آخر لمسات الماكياج بينما تستغرقان في الدردشة والاستماع إلى الموسيقى أثناء استعدادهما للخروج إلى حفلة. كانت كلتاهما ترتديان زيًا تلبسه كل البنات في سن العشرينات في سنة 2023 – والذي يتمثل في سروال ديجيز مع قميص قصير، وكان لإحداهما وشم على طول عظمة الترقوة.
يعد هذا المشهد مألوفًا للشابات في جميع أنحاء العالم، لكنه غير طبيعي بالنسبة لسوريا. فهاتان الفتاتان تستعدان للخروج للسهر في أحد النوادي في سوريا، ذلك البلد الذي كان منذ وقت ليس ببعيد يعيش تحت وطأة حرب أهلية دامية أسفرت عن مقتل ما يزيد عن 500 ألف مدني وتشريد أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم 21 مليون نسمة.
ووفقًا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2023 عن سوريا، سيحتاج 15.3 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية على مدار السنة الجارية، بما في ذلك 2.1 مليون نازح داخليًا يعيشون في الملاجئ؛ وتعد البنية التحتية الحيوية والعديد من الخدمات الأساسية على وشك الانهيار؛ هذا إلى جانب تراجع الاقتصاد بسبب ارتفاع معدل التضخم وأسعار الضروريات مثل الطعام والملابس جراء العقوبات المفروضة على البلاد.
يُوضّح التقرير أن الناس في كل ناحية من سوريا البالغ عددها 270 ناحية يعيشون وضعا إنسانية كارثيا، 203 ناحية منها تعيش ظروفًا مصنفة على أنها شديدة أو قاسية أو كارثية.
لكن حساب باتريشيا على منصة تيك توك ليس الهدف منه الحديث عن تدهور الوضع في سوريا. بقاعدة 106 ألف متابع عددهم في ازدياد مستمر، تعد باتريشيا واحدة من ثلة المبدعين الشباب على تيك توك الذين بدأوا استقطاب متابعين عالميين من خلال إظهار سوريا “الحقيقية” من وراء عدستهم بشكل مختلف تمامًا عما تصوّره وسائل الإعلام الغربية عن الحرب التي مزقت أمة يقودها دكتاتور مجنون. في مقاطع الفيديو الخاصة بها، تذهب باتريشيا إلى حفلات تكنو على أسطح المنازل، وتتسكع مع الأصدقاء وتستكشف شوارع دمشق.
قالت باتريشيا في أحد الفيديوهات “لا تُظهر وسائل الإعلام الأماكن الجميلة في سوريا. لهذا السبب بدأت نشر هذه الفيديوهات لأن الكثير من الناس لا يعرفون كيف تبدو سوريا في الواقع، وهم يعتقدون أنها دُمرت فقط ولم تعد هناك أماكن جميلة فيها، وأننا شعب غير مثقف ولا نملك أماكن للترفيه وأننا نعيش في حرب فقط. لا، ليس الأمر كذلك. إننا في الواقع عكس ذلك”.
لدى تارا البالغة من العمر 19 سنة، وهي من إحدى مواطني دمشق وتدرس علم النفس في جامعة جورج واشنطن في واشنطن العاصمة، منظور مماثل. بعد أن سئمت من الجهل الذي يظهره أقرانها الأمريكيون عندما تخبرهم أنها ستعود إلى دمشق لقضاء فصل الصيف هناك، بدأت تارا نشر مقاطع فيديو على تيك توك توثّق أيامها لتُظهر لأصدقائها كيف تبدو الحياة في سوريا على أرض الواقع”. وسرعان ما اكتسبت مقاطع الفيديو الخاصة بها، التي تظهر فيها وهي تذهب إلى صالة الألعاب الرياضية مع الأصدقاء، وتتناول الطعام في المطاعم العصرية وتقضي إجازة على الشاطئ في اللاذقية، شعبية وجذبت أكثر من 30 ألف متابع.
سواءً أكان ذلك عن قصد أم بغير قصد، فإن العديد من المؤثرين السوريين الشباب على تيك توك يضعون بصمة “الجيل زد” على المحتوى الذي يبدو أنه يشبه إلى حد كبير الدعاية المؤيدة للأسد.
أوضحت تارا لنيو لاينز “أريد فقط أن يعرف الناس أن سوريا جميلة حقًا”. وبقدر ما مرت سنوات الحرب والمشاكل، فهي لا تزال موجودة. وبالنسبة لي، باتت أجمل من أي وقت مضى”.
تنشر الفتاتان مقاطع الفيديو باللغة الإنجليزية بهدف تبديد الصور النمطية عن سوريا، ومن الواضح أن مقاطع الفيديو الخاصة بحياة صانعي المحتوى على تيك توك الشباب في سوريا تستهدف الجمهور الغربي. واستنادًا إلى أقسام التعليقات، فإن هذه المقاطع تظهر على صفحات ” من أجلك” لهذا الجمهور المستهدف.
يدرك المراقبون المطلعون عن كثب على الشأن السوري، وبالتأكيد السوريون أنفسهم، منذ فترة طويلة كيف يعيش النصف الآخر – أي الأثرياء والمتعلمون، والذين غالبًا ما يحملون جوازات سفر مزدوجة، والذين كانوا يستضيفون حفلات زفاف فخمة في شيراتون دمشق حتى عندما سقطت الرقة في يد تنظيم الدولة. لا تمثل هذه النخبة غالبية البلاد أو حتى أقلية كبيرة. (والجدير بالذكر أن الفئة الاجتماعية التي تنتمي إليها تارا وباتريشيا ضئيلة للغاية. وقد وجدت الفتاتان أنفسهما مؤخرًا أنهما نشرتا مقاطع على تيك توك في حفلة تكنو ذاتها التي نُظمت على أحد أسطح المنازل).
حتى بوجود هذه الفجوة بين الأغنياء والفقراء قبل فترة طويلة من اندلاع الانتفاضة في سنة 2011، أدت الحرب إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل ومحو الطبقة الوسطى وانحسار الثروة في أيدي أولئك المرتبطين بشكل وثيق بالنظام، في حين ظل بقية السكان يكافحون من أجل توفير قوت يومهم. وجدت دراسة نُشرت سنة 2019 أجراها أستاذ الاقتصاد بجامعة دمشق رسلان خضور أن تزايد عدم المساواة سبب رئيسي لانخفاض ثقة السوريين ببعضهم البعض والحكومة، وأن توزيع الثروة والدخل يغذي عدم الاستقرار في البلاد.
تتجلى نتائج التفاوت الاقتصادي في سوريا في النوعين الأكثر شعبية من صانعي المحتوى السوريين على تيك توك: أولئك مثل باتريشيا وتارا الذين يظهرون الحياة بين صفوف الطبقة العليا في دمشق، واللاجئين داخل البلاد وخارجها الذين استخدموا المنصة للتسول للحصول على هدايا رقمية يمكنهم الاستفادة منها للحصول على الضروريات الأساسية.
لا يعد قسم التعليقات في تيك توك المكان المناسب لمناقشة قضايا الطبقية بشكل كافٍ، إلا أن بعض المتابعين يحاولون ذلك. في أحد مقاطع الفيديو، شجبت باتريشيا صعوبة تلقي هدايا مجانية للعلامات التجارية بسبب العقوبات المفروضة على سوريا، فردّ عليها أحد المعلقين قائلا: “الناس يموتون ويا إلهي لا يملكون علامات تجارية، يا له من أمر محزن”. فأجابته باتريشيا “هل تعتقد أنني لا أعرف أن هناك أناسًا يموتون، وآخرون دون منازل بسبب الزلزال أو بسبب الحرب، أيا كان؟ هل تعتقد أنني لا أعرف أن هناك أناسا يموتون جوعًا، أو لأنهم لا يستطيعون شراء الطعام الآن بسبب غلاء الأسعار بالفعل؟ هل تعتقد أنني لا أعرف ذلك؟”.
تجادل باتريشيا بأن الإعلام يظهر الكثير من الجوانب السلبية عن سوريا، ولهذا السبب هي تنأى بنفسها عن إظهار تلك الصورة النمطية. وتابعت قائلة “إذا تحدثت فقط عن الأجزاء المتضررة في سوريا، وإذا تحدثت فقط عن موت الناس جوعًا، فسوف أتلقى الكثير من الكراهية وسيقول الناس عني، يا إلهي، إنها سلبية جدًا ولا توثق سوى الجوانب السلبية فقط. لذلك ماذا تريدونني أن أفعل؟ وأنا متيقنة مهما فعلت، لن أحصد سوى كراهية المتابعين”. وهذه وجهة نظرها.
الرغبة في إظهار الجانب الإيجابي فقط لسوريا غالبًا ما تتعارض مع الواقع الذي يواجهه غالبية سكانها، الذين يكافحون بعد سنوات من الحرب والكوارث الطبيعية للعثور على الطعام والعمل والمأوى.
ليس الأمر أن هؤلاء المبدعين لم يعانوا من الحرب أو أن وجهات نظرهم لا تستحق الاستماع إليها، بل إنهم كذلك. يجب النظر إلى محتواهم في السياق الكامل للواقع السوري الحالي، جنبًا إلى جنب مع مقاطع الفيديو الخاصة بالنزوح والتجويع وعنف النظام التي لا تتدفق عبر صفحات مستجدات تيك توك المخصصة، وهي أكثر خطورة من حيث تصويرها ونشرها.
سواءً أكان ذلك عن قصد أم بغير قصد، فإن العديد من المؤثرين السوريين الشباب على تيك توك يضعون بصمة “الجيل زد” على المحتوى الذي يبدو أنه يشبه إلى حد كبير الدعاية المؤيدة للأسد. والمحتوى الذي تنشره مؤثرات مثل باتريشيا وتارا لا يظهر عبثًا، بل ينتشر في وقت يقود فيه الأسد نفسه حملة “لا اعتذار” مع إعادة جامعة الدول العربية الترحيب به والتطبيع مع نظامه مرة أخرى بينما بدأت القوى العالمية – مثل الصين (إذ يخشى الكثيرون أن تكون تيك توك خاضعة في النهاية للحكومة الصينية) – تجادل على المسرح العالمي بإسقاط العقوبات الأمريكية ضد نظام الأسد.
تبذل الحكومة السورية أيضًا جهودًا لتنمية قطاع السياحة بعد أن عطّلته الحرب تمامًا لمدة 12 سنة تقريبًا. قال نائب وزير السياحة السوري نضال مشفج لرويترز في أيار/مايو الماضي: “نهدف الآن إلى استرجاع عائدات السياحة التي كنّا نحصّلها من سيّاح دول مجلس التعاون الخليجي القادمين إلى سوريا. اعتدنا أن يكون لدينا الملايين من أصدقائنا وإخواننا من دول مجلس التعاون الخليجي في سوريا، وخاصة في فصل الصيف”.
في أواخر سنة 2022، قدّمت سوريا 25 مشروعًا سياحيًا جديدًا ومختلفًا، وجنّدت بنشاط عددًا من مؤثري السفر المشهورين من دول مثل الولايات المتحدة وأيرلندا وفرنسا الذين تعهدوا بإظهار سوريا “الحقيقية”. وكما كتبت الباحثة في مجال حقوق الإنسان صوفي فوليرتون في عمود رأي بصحيفة “واشنطن بوست” السنة الماضية، فإن تجنيد مدوني السفر أمر عبقري لأن معظم المؤثرين في السفر يعتبرون أنفسهم غير سياسيين، ويهتم جمهورهم بشكل أساسي بالمشاهد والأصوات والنكهات. النغمة التقليدية لمثل هذه الفيديوهات مبهجة مع وجود مساحة صغيرة للتذكير بالمأساة. وبقدر ما تعترف مقاطع الفيديو بتدمير سوريا، فإنها تصبح جزءًا من الجمالية، مع إضافة بعض التلميحات عن الخطر والاندفاع إلى المغامرة”.
تضم قناة اليوتيوبر الأمريكي درو بينسكي أكثر من 3 ملايين مشترك. بعد زيارة إلى سوريا سنة 2019، نشر سلسلة فيديوهات عن رحلته علّق في واحد منها بعبارة “سوريا مذهلة” إذ يقول “بعد 3 سنوات من تصوير حلقات “10 دولارات” في أكثر من 30 دولة، كانت الحلقة في سوريا هي المفضلة لدي حتى الآن”. يظهر الفيديو كل ما يمكنك الحصول عليه مقابل 10 دولارات في دمشق، ورغم المشاكل الاقتصادية الرهيبة، فإن 10 دولارت تمكنك من اقتناء الكثير. غالبًا ما يتجنب مدونو السفر الغربيون الوضع السياسي في سوريا تمامًا، ويركزون على ثقافة البلد وطعامه وفنه دون التوقف للتفكير في الوضع الأوسع للبلاد.
في مقال عن منشئي محتوى غربيين على يوتيوب يسافرون إلى سوريا، قال مدوّن السفر الإسباني ومنظم الرحلات السورية خوسيه توريس لصحيفة الغارديان “بالتأكيد لن أقول أي شيء سيئ عن الحكومة، لأنني أخاطر بتعريض نفسي للاعتقال. إذا ذهبت إلى أي بلد حيث لا توجد حرية تعبير، هل ستبدأ في قول أشياء سيئة عن الحكومة؟”.
هذه التجربة ليست تجربة غير شائعة فحسب، بل هي أيضًا تجربة تتماشى مع المنظور المفضل للنظام.
إن العقوبة المفروضة على المواطنين السوريين إذا تحدثوا علانية ضد الحكومة ستكون أقسى بكثير من مجرد منعهم من السفر إلى هناك، لذلك لا عجب أن يتجنب صانعو المحتوى السوريون على تيك توك أيضًا هذه المشاكل. تقول باتريشيا في مقطع فيديو آخر “الوضع في سوريا جيد جدًا الآن. يمكنني القول تمامًا إن الوضع آمن الآن. الشيء الوحيد الذي ليس جيدا هو أسعار البضائع إذ ما زلنا متضررين اقتصاديًا. يمكن القول الآن إننا نعاني من تداعيات الحرب، تعرفون ما أعنيه؟ لذا فكل شيء باهظ الثمن في الوقت الحالي ولدينا عقوبات مطبقة على سوريا أيضًا، وهذا أمر سيء أيضًا. لكن بشكل عام الوضع جيدة جدًا والحياة جيدة هنا. هناك الكثير من الناس الذين يسألون هل من الآمن القدوم إلى سوريا في الوقت الحاضر؟ نعم إنها آمنة وهناك الكثير من الأماكن الجميلة في سوريا التي يمكنكم زيارتها، والكثير من النوادي التي يمكنكم الذهاب إليها، يمكنكم الاستمتاع هنا”.
مثل باتريشيا وتارا، لدى العديد من صانعي المحتوى السوريين على تيك توك رغبة عميقة في التباهي ببلدهم بكل فخر، وتجاوز القوالب النمطية العنصرية والمعادية للإسلام والسيطرة على رواية تصور سوريا على حافة الانهيار. إنه عمل مقاومة ضد رواية عالمية سلبية، ووسيلة لتذكير العالم بأن الدولة هي شعبها وليس حكومتها. (يجب على الديمقراطيين في الولايات المتحدة الذين خجلوا مما حدث خلال أربع سنوات من إدارة ترامب أن يتفهموا أكثر من غيرهم معنى التمييز بين معتقدات الشعب ومعتقدات الرئيس).
بعد عقد من الحرب، من المعلوم أيضًا أن ترغب في الاحتفال بمآثر أمتك، خاصة إذا كان تاريخها الغني يعود إلى آلاف السنين أو بالأحرى إلى فجر الحضارة. لكن هذه الرغبة في إظهار الجانب الإيجابي فقط لسوريا غالبًا ما تتعارض مع الواقع الذي يواجهه غالبية سكانها، الذين يكافحون بعد سنوات من الحرب والكوارث الطبيعية للعثور على الطعام والعمل والمأوى.
مثل تارا وباتريشيا، فإن العديد من صانعي المحتوى السوريين الذين يتم دفعهم إلى تيك توك هم أثرياء ومتعلّمون ومن الأقليات الدينية، وهم عادة – وإن كان ذلك غير مريح في بعض الأحيان – مؤيّدون لنظام الأسد. فليس لديهم فقط ما يكفي من المال للطعام والمأوى والملبس فقط، بل لديهم أيضا دخل كافٍ لتناول العشاء في المطاعم الفاخرة ودفع رسوم عضوية الصالة الرياضية والذهاب في إجازات.
لقد درسوا في مؤسسات دولية باهظة الثمن واستمروا في الالتحاق بالجامعات الخاصة برسوم باهظة. يبدو الأمر كما لو أن أبناء النخبة في مدينة نيويورك قد ذهبوا إلى تيك توك لمشاركة “يوم في حياة أمريكي”، ثم أظهروا أنفسهم وهم يتدربون مع مدرب خاص ويتسوقون في متاجر “لويس فيتون” قبل التوجه بسيارة عبر خدمات “أوبر بلاك” لتناول العشاء في “كاربون” (مطعم إيطالي-أمريكي فاخر في نيويورك).
قد تكون جميع الروايات وإن تعددت صحيحة في آنٍ واحد، بغض النظر عما قد يقوله تويتر. يبدو المحتوى الذي ينشره مبدعو تيك توك الشباب في سوريا وكأنه انعكاس حقيقي لتجربتهم، وهم يفعلون ذلك على الأرجح بنوايا بريئة. لكن هذه التجربة ليست تجربة غير شائعة فحسب، بل هي أيضًا تجربة تتماشى مع المنظور المفضل للنظام. ولكنْ، لا يمكن لأي حساب تيك توك أن يمثل وجهات نظر بلد بأكمله، خاصةً دولة مجزأة مثل سوريا.
المصدر: نيوز لاينز