تؤكد الجولة الأفريقية التي أجراها الرئيس الإيراني إلى كل من كينيا وأوغندا وزيمبابوي، عزمه على تنفيذ وعوده التي قطعها العام الماضي، بإعادة توجيه السياسة الخارجية لبلاده نحو القارة السمراء، إذ صرّح إبراهيم رئيسي آنذاك بأن “إقرار وتوطيد العلاقات مع دول القارة الأفريقية سيكونان من أولويات السياسة الخارجية لإيران خلال العهد الجديد”.
بعد تولي إبراهيم رئيسي السلطة في أغسطس/ آب 2021، بدأت إيران بتبنّي استراتيجية جديدة للعلاقات مع أفريقيا، تعتمد في المقام الأول على الاستفادة من موارد القارة الاقتصادية، ومحاولة إيجاد موطئ قدم في ممراتها المائية الضخمة، هذا إلى جانب رغبة إيران في الحصول على اليورانيوم من الدول الأفريقية.
جولة استراتيجية
يمكن وصف الجولة التي أجراها رئيسي، والتي انتهت في زيمبابوي يوم الخميس 13 يوليو/ تموز الحالي، بـ”الاستراتيجية”، حيث شملت 3 دول، اثنتان منها في شرق أفريقيا، بينما تقع الثالثة في جنوب القارة، وهي الجولة الأولى منذ آخر زيارة قام بها الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد للقارة الأفريقية قبل 11 عامًا.
Iran’s President Ebrahim Raisi visits Kenya, Uganda and Zimbabwe as he attempts to forge new alliances on the African continent pic.twitter.com/VgwgDD9yoz
— TRT World Now (@TRTWorldNow) July 13, 2023
في الفترة التي حكم فيها الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني (2013-2021)، انشغلت طهران بمفاوضات الملف النووي حتى تمَّ التوقيع عليه عام 2015، لكن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب قرر إخراج واشنطن منه عام 2018، ثم جرت العودة للمفاوضات بغرض إحياء الاتفاق وما زالت تلك المحاولات جارية، لذلك كانت السياسة الخارجية لطهران مرتبكة نوعًا ما، خصوصًا باتجاه أفريقيا.
محمود أحمدي نجاد.. عرّاب التمدد الإيراني في أفريقيا
خلال عهد روحاني، خاضت إيران أيضًا صراعات إقليمية، إذ تنامت الخلافات بين طهران وعدد من العواصم الخليجية في عدد من الملفات، إلى أن قامت المملكة العربية السعودية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران عام 2016، إثر تعرض سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد لاعتداءات، بسبب قيام السعودية بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر.
ويمكن القول إن الرئيس الأسبق محمود نجاد كان عرّاب التمدد الإيراني في أفريقيا، بهدف الخروج من العزلة الدولية، بالإضافة إلى الأهداف الأخرى مثل التمدد الشيعي المذهبي، آنذاك أسّس نجاد لعلاقات وثيقة مع منطقة القرن الأفريقي.
فقد وطّد العلاقة مع السودان وإريتريا، بعد أن توترت علاقات الخرطوم وأسمرة مع الولايات المتحدة التي فرضت عقوبات على الخرطوم في أعقاب تصنيف السودان دولة راعية للإرهاب، وعلى أسمرة بسبب حربها الطويلة مع إثيوبيا، ودعمها لـ”حركة الشباب” المتشددة في الصومال.
سمحت إريتريا في تلك الفترة للسفن الحربية الإيرانية باستخدام ميناءي عصب ومصوع الاستراتيجيَّين، في مقابل صفقة نفطية مُنح بموجبها الحق الحصري لإيران في تطوير وصيانة وتكرير النفط الإريتري في مصفاة عصب.
أما بالنسبة إلى السودان، فقد شهدت العلاقات مع إيران في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير تقاربًا، وصل حد التحالف الاستراتيجي بين الدولتَين بعدما جمع بينهما تشابه الظروف والأعداء، إذ وقّع البلدان اتفاقات تتعلق بالتبادل المصرفي ومنع الازدواج الضريبي، وأخرى خاصة بالزراعة والنفط، فضلًا عن مشروع “إيران غاز” ومشاريع التعاون البحري والملاحة.
لكن التعاون العسكري بين إيران والسودان كان أكبر بكثير من الاقتصاد، تُرجِم في استثمار طهران في مجمع اليرموك للأسلحة ومصنع جياد للسيارات.
والأول هو مصنع لإنتاج الصواريخ البالستية والطائرات المسيَّرة، قيل إنه أُقيم لخدمة إيران وتعزيز مخزونها الاستراتيجي من الأسلحة وتهريب السلاح إلى قطاع غزة، إلا أن ذلك المصنع قصفه الطيران الإسرائيلي فجر 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، ثم أُعيد بناؤه في مرحلة لاحقة.
لاحقًا، مُنيت إيران بانتكاسة كبيرة في القرن الأفريقي إثر قطع السودان العلاقات معها عام 2016، واللافت في الأمر أن قرار قطع العلاقات مع طهران اتخذه الرئيس المخلوع عمر البشير من دون التشاور مع وزير الخارجية آنذاك إبراهيم غندور، حيث كان مصدر الخبر “وكالة الأنباء السعودية” التي ذكرت أن ولي العهد محمد بن سلمان تلقّى اتصالًا هاتفيًّا من مدير مكتب الرئيس السوداني طه عثمان، يبلغه فيه بقرار الخرطوم قطع العلاقات مع إيران.
الأمر نفسه تكرر مع إريتريا، إذ تمكّنت السعودية من استقطاب الرئيس إسياس أفورقي وإبعاده من المحور الإيراني، ما شكّل خسارة إضافية لإيران، التي كانت تستخدم السواحل الإريترية لمدّ نفوذها نحو أفريقيا، وتعزيز عملياتها الاستخباراتية، مطلّة عبرها على المحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأحمر.
بالعودة إلى الجولة الأخيرة للرئيس الإيراني التي شملت كل من كينيا وأوغندا وزيمبابوي، فإن الباحث المختص في الشأن الإيراني عبد الرحمان وجدان، يرى أن العلاقات بين طهران وأفريقيا ليست وليدة اليوم، لكنها تمتد إلى سنوات طويلة، وقد شهدت ذروتها عام 2002 حين بدأت إيران تتحرك بشكل أكبر نحو القارة السمراء، خاصة بعد دخولها في صراع مع الغرب.
إذ حاولت إيران توسيع نفوذها وتنويع أوراق ضغطها من خلال تكثيف تحركاتها نحو تلك الدول، وهنا يستحضر وجدان دعم النظام الإيراني لنظام عمر البشير في السودان، ومساندتها لنيجيريا وإريتريا حيث كانت لها قاعدة عسكرية، إضافة إلى مساعدة الصومال وبعض دول شمال أفريقيا.
إنشاء المراكز الطبية والمستشفيات لكسب ثقة الأفارقة
في هذا السياق، يذكر المحلل أن طهران حاولت أحيانًا، من خلال مراكز تسمّيها ثقافية، أن تنفذَ إلى داخل المجتمعات وتؤثر في كثير من مواطنيها أيديولوجيًّا، كما سلكت مرات أخرى سبلًا إنسانية عبر القوة الناعمة المتمثلة في إنشاء المراكز الطبية والمستشفيات لكسب ثقة وودّ الدول الأفريقية، التي بسّط ضعفها الفرصة أمامها كي تتمدد أكثر.
من جانبه، أوضح عمر الرداد، مدير مركز الطريق الثالث للاستشارات والخبير الأمني الاستراتيجي، في حديث لإذاعة “مونت كارلو”، أن زيارة الرئيس الإيراني إلى أفريقيا تأتي في إطار توجهات إيرانية لإثبات حضورها في القارة الأفريقية، بعد الحضور المتزايد لأمريكا وأوروبا والصين وروسيا، لا سيما بعد تراجع نفوذ بعض الدول الأوروبية، وتوقعات بتراجع الدور الروسي الذي تمثله مجموعة فاغنر بعد خلافاتها مع الكرملين.
استقبال رئيسي في زيمبابوي بأناشيد مناوئة للغرب
خلال وصول الرئيس الإيراني إلى زيمبابوي يوم الخميس، كان في استقباله بمطار هراري الدولي نظيره إيمرسون منانغاغوا، حيث شكر الزعيم الإيراني على “تضامنه”، بحسب تقرير لوكالة “أسوشييتد برس“، وكانت هناك فرقة موسيقية رددت أناشيد منتقدة للغرب، حيث يخضع البَلدان لعقوبات أميركية.
وتسلّط جولة رئيسي الأفريقية -التي شملت أيضًا كينيا وأوغندا- الضوء على جهود إيران لبناء شراكات جديدة، وسط محاولاتها لتخفيف تأثير العقوبات الاقتصادية الصارمة، بحسب الوكالة.
ووفقًا لـ”الجزيرة الإنجليزية“، وقّع الجانبان الإيراني والزيمبابوي 12 اتفاقية، تشمل خططًا لإنشاء مصنع لتصنيع الجرّارات في زيمبابوي مع شركة إيرانية وشريك محلي، كما تخطّط شركات إيرانية أخرى للتعاون في مجالات الطاقة والزراعة والأدوية والاتصالات، وكذلك مشاريع البحث والعلوم والتكنولوجيا.
قبل زيمبابوي، انتقد الرئيس الإيراني، يوم الأربعاء، بشدة دعم الدول الغربية للمثلية الجنسية عندما كان يتحدث مع نظيره الأوغندي، حيث أقرّت كمبالا مؤخرًا تشريعًا مناهضًا للمثليين يفرض عقوبة الإعدام على المثلية الجنسية، وقد تسبّب ذلك التشريع في إدانة دولية واسعة النطاق.
قال رئيسي بعد لقائه بنظيره الأوغندي يوم الأربعاء، إن الحكومة الإيرانية “من أهم أولوياتها بناء العلاقات مع القارة الأفريقية، وخصوصًا أوغندا”، معربًا عن تطلُّعه إلى “توسيع التعاون بين البلدَين في مختلف المجالات”.
بينما غرّد الرئيس موسيفيني على صفحته الرسمية بموقع تويتر، قائلًا: “تتمتع أوغندا وجمهورية إيران الإسلامية بعلاقات جيدة منذ الثورة الإسلامية، “النقطة المشتركة” كما قال زائرنا بجدارة هي الموقف المناهض للإمبريالية. لقد أخذنا هذا المبدأ الأساسي عبر سنوات من التعاون ونتطلع إلى تعزيزه وتنويعه”.
H.E Sayyid Ebrahim Raisolsadati arrived in the country this afternoon where we held welcome ceremonies and bilateral discussions leading to the signing of a number of MOU’s.
Uganda and The Islamic Republic of Iran have had good relations since the Islamic Revolution, our… pic.twitter.com/eqPgMxmq3y
— Yoweri K Museveni (@KagutaMuseveni) July 12, 2023
أولوية لقطاع الطاقة والنفط
وأكّد رئيسي لنظيره يوري موسيفيني أنه “في مجال الطاقة والنفط على وجه الخصوص، الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستعدة لتشارك خبراتها مع أوغندا بشأن المصفاة ومسائل الخدمات التقنية والهندسية”، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”.
شريك استراتيجي هام لكينيا
في نيروبي، تعهّد الرئيسان الإيراني والكيني بتعزيز العلاقات بين بلديهما، خلال توقيع 5 مذكرات تفاهُم ركزت على عدة قطاعات، من بينها تكنولوجيا المعلومات وتعزيز الاستثمار ومزارع تربية الأسماك.
ووصف رئيسي زيارته لكينيا بأنها “منعطف في تنمية العلاقات بين البلدَين”، وقال إن محادثاته مع روتو “تعكس عزم وتصميم البلدَين على توسيع التعاون الاقتصادي والتجاري، والتعاون السياسي، والتعاون الثقافي”.
من جهته، وصف روتو إيران بأنها “شريك استراتيجي هام لكينيا”، وقال إن حكومتَي البلدَين وقّعتا 5 مذكرات تفاهم تركّز على قطاعات من بينها تكنولوجيا المعلومات، وتعزيز الاستثمار ومزارع تربية الأسماك.
We also witnessed the signing of new MoUs and agreements in the areas of agriculture, livestock, culture and heritage, information, ICT, fisheries, housing, urban and metropolitan development that will further deepen our bilateral relations for sustainable growth. pic.twitter.com/UdKuDnG8QX
— William Samoei Ruto, PhD (@WilliamsRuto) July 12, 2023
وقال: “هذه المذكّرات ستعزز وتعمّق بدرجة أكبر علاقاتنا الثنائية من أجل النمو المستدام والتنمية بين بلدَينا”، ولفت الرئيس الكيني أمام الصحفيين أن رئيسي قدّم أيضًا خططًا لإقامة منشأة في مدينة مومباسا الساحلية، “لتصنيع عربة إيرانية أُطلق عليها الآن اسم “كيفارو” أي وحيد القرن”.
الرئيس الكيني غرّد على صفحته الرسمية في تويتر مضيفًا: “كينيا حريصة على تعزيز حجم تجارتها مع إيران. هذا هو السبب في أننا نعمل عن كثب مع طهران لتسهيل تصدير المزيد من الشاي واللحوم والمنتجات الزراعية الأخرى إلى إيران، والتي ستكون أيضًا بمثابة نقطة دخول رئيسية إلى دول آسيا الوسطى”.
وعليه، من الواضح أن الشراكات الاقتصادية تصدّرت الجولة النادرة للرئيس الإيراني في شرق وجنوب أفريقيا، ضمن ما يمكن تسميته بـ”التنافس الدولي على أفريقيا”.
وغني عن القول إن القوى الاقتصادية والعسكرية العالمية باتت تسعى لتعزيز حضورها في القارة السمراء، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان وتركيا، إلى جانب القوى الإقليمية مثل إيران ودول الخليج و”إسرائيل”، وغيرها من الدول التي تسعى لأن يكون لها موطئ قوة في أفريقيا لاعتبارات جيوسياسية واقتصادية.
هذا بخلاف التأثير الكبير للدول الأفريقية في الأمم المتحدة (54 دولة معترف بها)، إذ تمثل كتلة كبيرة يمكن أن تدعم إيران في مواجهاتها المستمرة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك يمكن النظر إلى الوجود الإيراني في أفريقيا على أنه جزء من التنسيق بين موسكو وطهران وبكين، باعتبار أن الدول الثلاث لديها عداء مشترَك مع الغرب.