لن ينسى الأتراك مطلقًا، أشهر مكالمة هاتفية في تاريخ البلاد، ليلة 15 يوليو/تموز 2016، عندما اتصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عبر تطبيق “Face Time” بالمذيعة الشهيرة في فضائية “CNN Turk” هاندي فرات، مطالبًا أنصاره بالتصدي لمحاولة الانقلاب التي تقودها عناصر عسكرية.
بدأت المحاولة بتحليق طائرات مقاتلة ومروحيات فوق أنقرة وتحرك قوات نظامية لغلق مضيق البوسفور في إسطنبول، بالتزامن مع غلق مطارات وتعطيل الاتصالات الهاتفية ومواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تهز أصوات الانفجارات، فيما عبرت أصوات إطلاق الأعيرة النارية في العاصمة السياسية أنقرة والاقتصادية إسطنبول عن التطورات الدرامية حينها.
كانت هناك عوامل عدة وراء فشل انقلاب يوليو/تموز، لا سيما المساحة الجغرافية التي تحركت فيها العناصر الانقلابية (إسطنبول وأنقرة) وضعف قدراتها الميدانية ودور الإعلام في حشد الجموع الشعبية المؤيدة لأردوغان وسرعة تحركاتها في مواجهة القوات المشاركة في محاولة الانقلاب.
وإلى جانب اصطفاف القوى السياسية والأحزاب التركية ضد الانقلاب، فقد شكل الجهد الذي بذلته أجهزة الشرطة والأمن والاستخبارات والقوات الخاصة التركية، ضد العناصر الانقلابية، دورًا مهمًا في صنع حالة خاصة، تبدت في سرعة التعامل مع الأزمة وحسمها خلال ساعات.
آنذاك “تجاوز الشعب التركي واحدًا من أصعب الامتحانات في تاريخه” بحسب أردوغان، بعدما “اصطدمت محاولة الانقلاب الفاشلة ببسالة وشجاعة شعبنا الذي قدم 251 شهيدًا، بإيمانه الكبير، ما أدى لإحباط الانقلاب قبيل طلوع الفجر” والتفكير في حلول ناجحة تقطع الطريق على أي محاولة انقلابية مستقبلًا.
مؤشرات الحل
خلال حفل تنصيبه، في 3 يونيو/حزيران الماضي، حدد الرئيس التركي المنتخب رجب طيب أردوغان، خريطة طريق كفيلة بمواجهة أي ثورات مضادة أو انقلابات عسكرية، قائلًا: “سنعزّز ديمقراطيتنا بدستور مدني جديد يحررنا من الحاليّ، ثمرة الانقلاب العسكري“.
ورغم تأكيدات أردوغان بأن “تركيا أحبطت محاولة انقلاب 2016 بقوة الدولة ونضال الشعب الذي جدد موقفه في الانتخابات الأخيرة” التي حسمها بحصوله على 52.14% من أصوات الناخبين، فقد أعلن أردوغان “شروع تحالفنا – الشعب – في صياغة دستور تقبله جميع الفئات والأطياف في المئوية الثانية لتركيا”.
تأكيدات أردوغان خلال حفل تنصيبه الرئاسي والاحتفاء بفوز تحالفه الحزبي بالأغلبية البرلمانية، تشير إلى أنه وضع يده على إحدى أهم الثغرات التي يجب إغلاقها عبر تعديلات دستورية، عبر عنها بوضوح خلال أول اجتماع حكومي: “نريد المضي قدمًا بدستور مدني شامل”.
ويجهز تحالف الشعب الحاكم (بقيادة حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية) مقترحات التعديلات الدستورية التي سيتم التقدم بها للبرلمان التركي، وهي التعديلات التي يجرى العمل على تحديثها منذ شهور، قبل أن يتم إرجائها بسبب إجراء الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) في مايو/أيار الماضي.
تحييد السلطة غير الرسمية للجيش
يقول مسؤول تحرير صحيفة “ديلي صباح” التركية، الدكتور محمد تشيليك، لـ”نون بوست”: “يصعب القول إن أي دولة محصنة تمامًا من الانقلابات العسكرية. تركيا نفسها شهدت في الماضي انقلابات عدة، بأشكال وأساليب مختلفة، آخرها محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016”.
ويضيف تشيليك “يمكننا القول إن تركيا ربما تكون في أفضل حالاتها الآن في مواجهة أي انقلاب، تم تنفيذ العديد من التغييرات الهيكلية لضمان أن يكون الحكم المدني أكثر قوة لمنع الوصاية العسكرية، والأهم من ذلك تطهير الدولة من الاختراقات مع تعزيز الحكم الديمقراطي”.
ونبه تشيليك إلى أنه “مع النظام الرئاسي وبعض السياسات الجديدة، يتم تحييد السلطة غير الرسمية للجيش وقوات الأمن على الجسم السياسي، الاستخبارات ناجحة جدًا الآن، والأهم من ذلك أن الوعي العام مرتفع للغاية فيما يتعلق بحماية الديمقراطية وإرادتهم الديمقراطية”.
ويؤكد البروفيسور أحمد أويصال، رئيس مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط لـ”نون بوست”: “تركيا أصبحت محصنة من الانقلابات العسكرية لأسباب عدة، الأول: الوعي الشعبي المتنامي، ثانيًا: قوة الكتلة الديمقراطية في ظل النظام الرئاسي، وثالثا: الانقلابات نتيجة لفشل وشلل النظام الرئاسي القائم، وهذا لا ينطبق على تركيا حاليًّا”.
ويوضح البروفيسور أويصال أن “البعد الرابع في استبعاد الانقلابات العسكرية في تركيا، حاليًّا، يعود لتركيبة وتوجهات المؤسسة العسكرية نفسها التي أصبحت أكثر فهمًا لطبيعة المرحلة وحساسيات الموقف الداخلي والخارجي وتوازن القوة والصلاحيات بين المؤسسات: العسكرية والأمنية والاستخبارات”.
ويشدد أويصال على أن “أي مغامرة في هذا الشأن لن تكون في صالح الطرف الذي سينفذها، خاصة مع الآليات العقابية التي سيواجهها أي مغامر يتآمر على الأمن القومي التركي، وبالتالي فرصة الانقلابيين شبه مستحيلة، خاصة أن الشعب لديه الآليات البديلة لتجديد دماء النظام الحاكم”.
تعزيزات لا صلاحيات
يتصدر ملف التعديلات الدستورية جدول أعمال الكتلة البرلمانية لتحالف الشعب الحاكم، خلال الدورة الجديدة للبرلمان (الجمعية الوطنية الكبرى)، ويشير مصدر برلماني مقرب لـ”نون بوست” إلى أن “المناقشات الدائرة حاليًّا تتحدث عن مواد دستورية تعزز حقوق الإنسان وترسخ لدولة القانون”.
ووفق المصدر المطلع على ملامح التعديلات الدستورية: “نحن لا نرغب في مراكمة صلاحيات، بل نحاول تعزيز أداء المؤسسات وعلاج إشكاليات في الدستور الحاليّ، بهدف إعطاء دفعة قوية للديمقراطية والحقوق وتنشيط قطاعات الدولة، خاصة الاقتصاد، مع منح المزيد من الحقوق التي تدعم حرية المرأة”.
لكن ما لم يقله المصدر إن تركيا الحديثة تحاول تحصين نفسها “دستوريًا” من مخاطر الانقلابات المتكررة (27 مايو/أيار 1960، 12 مارس/آذار 1971، 12 سبتمبر/أيلول 1980، 28 فبراير/شباط 1997، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016) وقطع الطريق على أي مبررات واهية كانت توظف في هذا الشأن.
مسار إصلاحي
منذ وصوله للسلطة في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، بادر أردوغان بإجراء تعديلات دستورية وسياسية استهدفت إحداث نوع من التوازن بين المؤسسات التركية، بعد عقود من سيطرة الجيش على السلطة، ومن ثم لمس الأتراك التراجع النسبي لوصاية الجيش علي المشهد السياسي في البلاد.
ولأن عوامل نجاح الانقلابات العسكرية متعددة (القوة الميدانية والاصطفاف العددي والدعم اللوجيستي والقيادة الموحدة والتسلسل الهرمي) فإن قوة الدساتير وحمايتها للعملية الديمقراطية تعد من أهم الحواجز التي تعرقل الانقلابات العسكرية في المجتمعات التي تشهد مثل هذه الممارسات التقليدية.
ولم يكن يتصور الأتراك قبل عهد أردوغان إجراء محاكمات لقيادات الانقلابات السابقين وتجريد قيادات انقلابية من الحصانة القضائية، وبالتالي أصبح بمقدور السلطات التركية محاكمة العسكريين الموجودين في الخدمة أمام محاكم مدنية، وغيرها من الخطوات المهمة التي تعيد الاعتبار لمؤسسية الدولة.
وفي ظل تكامل الأداء المؤسسي في تركيا، خلال الـ20 عامًا الماضية، لا يتم الاعتماد على مؤسسة واحدة خاصة “الجيش” في هندسة مصالح تركيا، على عكس الدساتير السابقة، حيث أصبحت الأولوية لحزمة إصلاحات متدرجة لا تمس “العلمانية التركية” (عدم تدخل المشاعر الدينية المقدسة أيًا كانت في شؤون الدولة وسياستها).
لكن طوال المدة المذكورة لم يكن هدف أردوغان وحكومته إخراج العسكريين من السلطة، بل تقليل نفوذهم السياسي عبر الترسيخ للحكم الديمقراطي المنتخب والعمل على تحويل القوات المسلحة إلى مؤسسة تكنوقراط (مهنية) تؤمن بالأدوات الدستورية والحكم الديمقراطي.
شكلت محاولة الانقلاب الفاشلة فرصة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم لهيكلة الجيش التركي، ليس فقط فيما يتعلق بالتسليح وخلافه، لكن عبر تصويب مساره وضبط أفكاره وتصحيح عقيدته القتالية وعلاقته بالمؤسسات الأخرى، حتى يظل الجميع تحت سقف الدستور والقيادة السياسية للبلاد.
وحرص أردوغان على تحميل الجيش التركي لمسؤولياته في مواجهة الإرهاب الحدودي (مع العراق وسوريا) وهي ملفات من شأنها تعزيز قوة المؤسسة العسكرية، بعد تطهيرها من عوامل الضعف، بسبب الانشغال السياسي على حساب المهام الميدانية التقليدية المتعلقة بحماية الحدود وتعزيز الأمن القومي.
في المقابل، عمل أردوغان على تقوية المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية وتقوية المؤسسات الديمقراطية وحكم القانون وحماية الحريات والحقوق، كحائط صد أمام أي محاولات أو مغامرات غير محسوبة، تتعارض مع الإرادة الشعبية والمؤسسات المنتخبة ديمقراطيًا.
دعم شعبي
كانت موافقة الناخبين الأتراك على استفتاء التعديلات الدستورية، 16 أبريل/نيسان 2017، بمثابة تجديد للدعم الشعبي لأردوغان وإصلاحاته المقترحة، حيث لم تغب المحاولة الانقلابية الفاشلة عن أذهان المتوجهين إلى صناديق الاستفتاء على التعديلات، حتى إن من رفضها، آنذاك، كان أشبه بحليف لـ”الانقلابيين”.
وخلال التعديلات الدستورية المذكورة، تم إلغاء منصب رئيس الحكومة واعتماد نظام الرئاسة التنفيذية (الجمع بين رئاسة الجمهورية والحكومة دون حرمان البرلمان من المسؤولية التشريعية والرقابية، كما يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تعيين الوزراء ونواب الرئيس) وبلغت الثقة الشعبية مداها، بفوز أردوغان بانتخابات الرئاسة في يونيو/حزيران عام 2018.
وللثقة ما يدعمها بعدما تحولت تركيا من دولة فاشلة اقتصاديًا في مطلع الألفية الجديدة إلى “نمر اقتصادي” وواحدة من أقوى الاقتصادات الـ20 عالميًا عام 2011، بعدما وصلت معدلات نموها الاقتصادي إلى 10%، قبل أن تتعرض لموجة من المؤامرات والهجمات الإرهابية، انتهت بمحاولة انقلاب 15 يوليو/تموز الفاشلة.
عسكريًا ودبلوماسيًا، صارت تركيا رقمًا فاعلًا في كل الملفات الإقليمية والدولية، ليس فقط من خلال عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) لكن من خلال جملة التفاعلات غير المسبوقة، خاصة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يتبدى من واقع الصراع الغربى بين الولايات المتحدة وأوروبا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى.
في المقابل، يواصل أردوغان قطع الطريق على الانقلابات العسكرية بأساليب أخرى تعزز رصيده الشعبي قبل الاحتفال بنهاية القرن الأول من عُمر الجمهورية التركية، وبدء القرن جديد في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، حيث يعمل أردوغان على حسم الاستحقاقات الداخلية والخارجية وفق رؤية إستراتيجية تعتمد على “تصفير المشكلات”.
وكتطوير لمصطلح “الجمهورية الثانية” الذي يتبناه الحزب الحاكم طوال السنوات السابقة، أعلن أردوغان رؤيته للقرن المقبل تحت شعار “قرن تركيا”، وأن “المئوية الأولى كانت للاستقلال، أما المئوية الثانية فستكون للمستقبل.. سنمضي قدمًا في تحقيق أهداف الجمهورية التركية”.
ويؤكد أردوغان أن “تركيا تعمل على بناء رؤيتها الخاصة، مع تطبيق برامجها من أجل: قرن تركيا: الاستدامة، الهدوء، التنمية، القيم، القوة، النجاح، السلام، العلم، صاحب الحق، الفاعلية، الاستقرار، المحبة، الاتصال، الرقمية، الإنتاج، المستقبل، وإنجاز المزيد من مشروعات البنية التحتية الكبرى”.
علاج دستوري
تشدد مقدمة الدستور الحاليّ على مبادئ الديمقراطية والفصل بين السلطات ومواجهة أي نزعة انفصالية أو “نشاط يتعارض مع المصالح القومية التركية”، حيث “لا تمارس أي من الحقوق والحريات الدستورية بهدف انتهاك وحدة الدولة بأراضيها وأمتها غير القابلة للتجزؤ أو يهدد النظام الديمقراطي العلماني”.
لكن هذه النصوص لم تمنع العناصر المتورطة في انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 (ضباط جيش وطيارين ومدنيين يتقاطعون مع زعيم الكيان الموازي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، فتح الله غولن) من تنفيذ مخططهم الذي أفشله الشعب، ويحتاج إلى آلية محددة تمنع تكراره.
وعرفت تركيا الحياة الدستورية منذ القرن الـ19، لكن المتغير الأهم كان خلال القرن العشرين، بداية من دستور عام 1921، ودساتير ما بعد تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي أصدر دستور عام 1924، وبعد الانقلاب على حكومة عدنان مندريس، صدر دستور عام 1961، وأخيرًا دستور عام 1982.
وتعمل تركيا بالدستور الحاليّ المعتمد منذ عام 1982 الذي شهد نحو 19 تعديلًا سابقًا، يحد من صلاحيات الجيش التركي لصالح المؤسسات المدنية، وقد حدثت معظم هذه التعديلات في عهد حزب العدالة والتنمية الذي تصدر المشهد السياسي التركي منذ اكتساحه للانتخابات التركية في 2 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002.
وكانت المعارضة التركية – التي اصطفت خلف مرشحها في انتخابات رئاسة الجمهورية كمال كليجدار أوغلو – تطمح في العودة لنظام الحكم البرلماني بدلًا من نظام الرئاسة التنفيذية (الجمع بين رئاسة الجمهورية والحكومة) الذي يعتمده أردوغان، منذ التعديلات الدستورية عام 2017.
الآن أصبحت الكرة في ملعب تحالف أردوغان في ملف التعديلات الدستورية التي ستقطع الطريق على أي محاولات مستقبلية للانقلاب، وها هو وزير العدل الجديد يلماز تونتش، يقول: “شعبنا يستحق دستورًا جديدًا ديمقراطيًا ومدنيًا يتوافق مع المئوية الثانية من عمر الجمهورية التركية”.
لا تتوقف المطالب الحاليّة عند تعزيز دستور عام 1982، بحيث يمنح مساحة أوسع للحقوق والحريات (التعبير والرأي والإقامة والتنقل والدين والتجمع والاتصال والخصوصية والملكية) فهي منصوص عليها في المواد الحاليّة، لكن الاتجاه العام في التعديلات سيركز على قضايا ومحاور أكبر تخدم مصالح تركيا وشعبها.