بعد دقائق معدودة من انطلاق العرض الأول لفيلم “أوبنهايمر” Oppenheimer لكريستوفر نولان، منتصف ليل الخميس 13 يوليو/تموز 2023، فوجئ الجميع بمغادرة أبطال العمل، مات ديمون وإميلي بلانت وسيليان ميرفي وآخرين، ساحة العرض دون إبداء أسباب.
لكن سرعان ما اتضح الأمر، إذ التزم الممثلون بالإضراب الذي أعلنته نقابة الممثلين الأمريكيين لمؤازرة نقابة الكتاب التي دخلت هي الأخرى في إضراب قبل أيام بعد انهيار المفاوضات بين النقابتين من جانب والاستوديوهات الكبرى، في مقدمتها ديزني ونتفليكس من جانب آخر، وفشل تأمين عقود جديدة بأجور مختلفة تتناسب وحجم التضخم المرتفع الذي تشهده البلاد.
وبذلك يبلغ عدد المشاركين في هذا الإضراب المزدوج قرابة 171 ألف شخص (160 ألف أعضاء نقابة الممثلين و11 ألف أعضاء نقابة الكتاب والسيناريو) لتكون بذلك هي المرة الأولى التي يشترك فيها الممثلون والكتاب في إضراب واحد منذ أكثر من 60 عامًا (آخر إضراب للممثلين كان عام 1980 وآخر إضراب لكتاب السيناريو كان 2007/2008 واستمر مئة يوم وتسبب في خسائر قدرت بنحو ملياري دولار).
إضراب من شأنه – حال استمراره – أن يجعل الساحة السينمائية العالمية خالية تمامًا من إبداعات هوليوود التي تواجه أزمة وجودية ربما هي الأخطر منذ أن أصبحت تلك المنطقة (المعروفة باسم “تينسل تاون” (Tinseltown) وتقع في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا) مركز صناعة السينما الأمريكية عام 1915.
ضحايا كيان جشع
كان أعضاء نقابة الكتاب الأمريكية قد خرجوا في إضراب في شهر مايو/أيار الماضي، احتجاجًا على تعثر المفاوضات مع الاستوديوهات التي رفضت تعديل عقودهم بما يتناسب مع معدلات الأسعار المرتفعة خلال الأعوام الثلاث الماضية في أعقاب جائحة كورونا (كوفيد 19) في 2019 ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية فبراير/شباط 2022.
ولجأ كتاب السيناريو إلى العديد من أوراق الضغط من أجل رفع أجورهم لكنها قوبلت بالرفض التام من ملاك الاستوديوهات الذين وصفوا المطالب المرفوعة بالغير منطقية ولا يمكن الموافقة عليها، كما جاء على لسان رئيس “ديزني” بوب آيغر عبر محطة “سي إن بي سي”، وبعد قرابة شهرين على تلك الاحتجاجات دخل الممثلون على الخط لدعم زملائهم في المهنة، فالجميع في قارب واحد كما يقولون.
“لم يكن لدينا خيار. نحن الضحايا. نحن ضحايا كيان جشع جدًا”.. هكذا علقت رئيسة نقابة الممثلين الأمريكيين النقابة، فران دريشر، على إعلان نقابتها الإضراب ومشاركة الكتاب مطالبهم المشروعة، مضيفة في كلمة لها ردًا على ما وصفته “ادعاءات الفقر” من ملاك الاستوديوهات: “لا أستطيع أن أصدق إلى أي مدى نحن بعيدون عنهم في كثير من الأشياء، كيف يدعون الفقر ويقولون إنهم يخسرون الأموال يسارًا ويمينيًا في الوقت الذي يمنحون فيه مئات الملايين من الدولار لرؤسائهم التنفيذين”.
ووصفت دريشر، النجمة السابقة لمسلسل “ذي ناني”، قرار الإضراب بأنه “لحظة تاريخية”، وتابعت “إذا لم نقف الآن.. فإننا جميعًا معرضون لأن نُستَبدَل بالآلات والشركات الكبيرة، التي تهمها وول ستريت أكثر منك ومن عائلتك”، في إشارة إلى عدم تأمين الممثلين في مواجهة غول الذكاء الاصطناعي وتداعياته الكارثية على الكثير من الحرف والمهن ومنها التمثيل.
كتاب السيناريو يقولون إن أجورهم جامدة منذ سنوات، رغم زيادة نسبتها مؤخرًا وليست قيمتها، وفي المقابل تحقق الاستوديوهات أرباحًا طائلة من وراء منصات البث التدفقي عبر الإنترنت، إلا أن الكتاب والفنانيين لا يحصلون منها على شيء، بينما تقسم تلك الأرباح على الرؤساء التنفيذيين والإداريين، ومن أكثر الأمثلة على ما تحققه تلك الأعمال من مكاسب طائلة ما حققه مسلسلا “بريدجرتن” و”سترينجر ثينغز” اللذين حصدا مئات ملايين المشاهدات في مختلف أنحاء العالم.
شلل في الإنتاج
أسفر هذا الإضراب، خاصة بعد انخراط الممثلين فيه، عن إصابة صناعة السينماء في هوليوود بحالة من الشلل شبه الكامل، فتوقف كتاب السيناريو عن العمل منذ أكثر من شهرين، بجانب أن امتناع الممثلين عن أداء الأعمال الموكلة إليهم، سيحدث هزة كبيرة في القطاع بأكمله لم يتعرض لها طيلة أكثر من ستة عقود، وستسفر عن خسائر هائلة.
ومن الأفلام المتوقع أن تتأثر بهذا الإضراب وأن يتوقف العمل بها رغم تصوير أجزاء منها فيلمي أفاتار وغلادياتر، بجانب بعض الأحداث الدعائية الأخرى التي تشكل عصب الترويج لصناعة السينماء في العالم كالعروض الأولى على السجادة الحمراء، مثل فيلم هونتد مانشن من إنتاج ديزني، الذي كان مقرر الانتهاء منه هذا الشهر.
ومن الأحداث التي قد يعاد النظر في موعدها ويرجح تأجيلها وربما تجميدها حتى إشعار آخر بسبب غياب النجوم، جوائز “كوميك-كون”، الذي يعد أحد أكبر الملتقيات لمحبي شخصيات الثقافة الشعبية في العالم، الذي كان مقررًا إقامته في سان دييغو بداية من 20 يوليو/تموز الحاليّ.
الأمر ذاته مع احتفال توزيع جوائز “إيمي” التليفزيونية (جائزة أمريكية تمنح للمسلسلات والبرامج التليفزيونية المختلفة وهي بمثابة أوسكار لكن للدراما التليفزيونية) الذي كان مقررًا أن يقام في 18 سبتمبر/أيلول القادم، حيث ذكرت وسائل إعلام أمريكية أنه قد يتأجل إلى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل أو ربما يتأخر حتى العام القادم.
كذلك هناك نصوص لبعض الأعمال لم تكتمل بسبب إضراب كتاب السيناريو منذ مايو/أيار الماضي وهو ما يعني توقف تصويرها مثل الجزء الجديد من سلسلة “سيد الخواتم” (“ذي لورد اوف ذي رينغز”) الممول من “أمازون”، إضافة إلى عدد من البرامج التي تحتاج إلى سيناريوهات وممثلين، وفي المقابل فإن ما يمكن أن يستمر به هو بعض البرامج الحوارية وبرامج تليفزيون الواقع، لكنها لن تحقق نسب المشاهدة ولا العوائد الكافية.
ويشير الناقد السينمائي إلياس دمر إلى أن الإضراب الحاليّ قد يقود إلى خسائر فادحة، لافتًا إلى أن الإضراب الذي حدث قبل 15 عامًا خسر اقتصاد كاليفورنيا وحدة ملياري دولار في 100 يوم فقط، أما اليوم فالأمر متوقع لتجاوز هذا الرقم بعدما تجاوز إضراب الكتاب فقط 70 يومًا ومع انضمام الممثلين فإن الأمر مرشح للتفاقم.
وأضاف في تصريحات متلفزة له أن إضراب الكتاب قد يستمر إلى خريف هذا العام، وهو ما يعني حالة من الشلل لتلك الصناعة التي كان يأمل روادها أن تعود لعافيتها بعد جائحة كورونا التي تسببت في خسائر بالجملة، لكن يبدو أن الأمور مرشحة للتصعيد في ظل انسداد أفق الاتفاق بين النقابتين وملاك الاستوديوهات الكبرى.
الذكاء الاصطناعي.. أزمة وجودية لهوليوود
أطل الذكاء الاصطناعي وتطوراته الهائلة كشبح يقلق مضاجع الجميع، فالتحديثات التي يشهدها يومًا بعد الآخر أهلته للقيام بالعديد من الوظائف والمهام التي كان يقوم بها البشر، ما قد يتسبب في إزاحة عشرات الآلاف من وظائفهم، ومع مرور الوقت ووتيرة التطورات التي يشهدها قد يسحب البساط من تحت أقدام الأيادي البشرية في كثير من الصناعات.
وليست صناعة السينما بمعزل عن تلك الثورة، فتقنيات الذكاء الاصطناعي استطاعت بالفعل تنحية الإنسان من بعض الوظائف فنجحت في إنشاء صور ومقاطع مزيفة تخدم العملية السينمائية، كما نجحت وبشكل كبير في القيام بمهام مزج الصوت والتلوين والدوبلاج وتحرير الفيديو، هذا بخلاف إمكانية إنشاء تأثيرات خاصة عبر استخدام الخوارزميات.
ورغم ما يدعيه البعض من أن صناعة السينما عملية إبداعية تعتمد على الخيال والأفكار والتصورات البشرية التي من الصعب أن تصل إليها التقنيات التكنولوجية، فإن الطفرة ومعدلات السرعة الكبيرة التي يسير بها الذكاء الاصطناعي أقلقت الجميع ومنهم صناع هذا القطاع في الولايات المتحدة.
ومن هنا كان من بين المطالب التي رفعها كتاب السيناريو والممثلون خلال إضرابهم الحاليّ “الحصول على ضمانات تحول دون استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في كتابة نصوص السيناريو للأعمال، أو لاستنساخ أصواتهم وصورهم”، حيث باتت تلك التقنية البعبع الذي يهدد صناعة السينما في العالم.
وعليه يرى البعض هوليوود، كمركز لصناعة السينما في العالم، تواجه في الوقت الحاليّ أزمة وجودية، وأنه إن لم يتم تدارك تلك الأمور وحلحلة الأزمة قبل تفاقمها، مع وضع سيناريوهات إبداعية تحفظ لأعضاء تلك الصناعة حضورهم وتأثيرهم وطمأنتهم في مواجهة غول الذكاء الاصطناعي فإن ريادة هوليوود السينمائية ستكون محل شك خلال السنوات القادمة.