لم يعد يفصلنا عن موعد انتهاء مدة سريان اتفاقية الصيد البحري التي تسمح للسفن الأوروبية بالصيد في المياه المغربية مقابل عوائد مالية مهمة إلا يومين فقط، ومع ذلك لم يبدأ طرفا الاتفاقية بعد في مفاوضات من أجل تجديدها.
عادة ما تستمر هذه المفاوضات أشهر كثيرة للوصول إلى بنود تخدم الطرفين، وكانت تبدأ في الغالب قبل انتهاء المدة بفترة طويلة لتجنب الفراغ الذي يمكن أن يحصل، لكن هذه المرة يتجنب طرفا الاتفاقية الخوض فيها، نتيجة قرار محكمة العدل الأوروبية القاضي بإلغاء الاتفاقية لضمها أراض متنازع عليها في الصحراء.
تفاصيل اتفاقية الصيد
وقعت الاتفاقية الحاليّة في يوليو/تموز 2018، بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي وذلك بعد خمس جولات من المفاوضات استمرت بضعة أشهر، وحملت الاتفاقية آنذاك في طياتها فوائد اقتصادية مهمة للمغرب وللأوروبيين.
يسمح هذا الاتفاق لـ128 سفينة صيد أوروبية (80% منها إسبانية) ترفع علم أكثر من عشر دول (إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وليتوانيا ولاتفيا وهولندا وإيرلندا وبولونيا) بالوصول إلى المياه الأطلسية للمغرب، حيث تمت تقوية المتطلبات التقنية، كما تضمن الاتفاق زيادة في عدد البحارة المغاربة على متن السفن.
في كل مرة يهدد المغرب بقطع العلاقات، إلا ويتم تجديد الاتفاقية بالصيغة التي تراها الرباط مناسبة
بمقتضى الاتفاقية يجني المغرب أموالًا كثيرةً سنويًا حددت كل سنة بنحو 42 مليون يورو، يُضاف إلى ذلك المبالغ التي يدفعها مالكو السفن على مدى تدريجي من 11.1 إلى 12.7 مليون يورو، ما ساهم في تنمية ميزانية المملكة.
فضلًا عن المزايا الاقتصادية، حقق المغرب من وراء هذه الاتفاقية نجاحًا سياسيًا مهمًا، ويعود هذا الانتصار السياسي إلى اعتبار الاتفاقية منطقة الصحراء المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو الانفصالية جزءًا من السيادة المغربية، ما خلف غضبًا لدى جبهة البوليساريو.
ويعطي الاتفاق للمملكة المغربية الأحقية في تدبير موارد الصحراء المتنازع عليها مع البوليساريو، باعتبارها الجهة المخولة حصرًا التفاوض باسم المنطقة، وفقًا لعدد من الخبراء المغاربة، الأمر الذي ترفضه الجبهة الانفصالية بشدة.
المحكمة الأوروبية تتدخل
يعتبر التوصل إلى تمديد الاتفاقية الحاليّة أو تجديدها بصيغة أخرى أولوية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وفق المفوض الأوروبي للبيئة والمحيطات ومصائد الأسماك، فيرجينوس سينكفيسوس، لكن الوضع صعب بسبب قرار المحكمة الأوروبية، وفق قوله.
وسبق أن أكد المسؤول الأوروبي على هامش اجتماع لوزراء البيئة والطاقة الأوروبيين في القمة الـ27 لوزراء البيئة الأوروبيين المنعقدة في بلد الوليد بإسبانيا، أن الاتفاق “لن يتم تمديده قبل أن تصدر محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي قرارها النهائي”.
وكانت محكمة العدل الأوروبية قد ألغت في سبتمبر/أيلول 2021، اتفاقيات تجارية بين بروكسل والرباط، تشمل منتجات زراعية وسمكية بداعي إبرامهما دون قبول سكان الصحراء، بناءً على دعوى رفعتها جبهة البوليساريو المطالبة بحق تقرير المصير في هذا الإقليم، غير أن القرار لم يدخل حيز التنفيذ في حينه.
#الصحراء_الغربية | الاتحاد الأوروبي يصف تمديد اتفاقية الصيد مع #المغرب بـ “الصعب” pic.twitter.com/RThcNG2lX2
— AL24news – قناة الجزائر الدولية (@AL24newschannel) July 11, 2023
نص الحكم على “إلغاء قرارات مجلس الاتحاد الأوروبي المتعلقة باتفاقيتين مبرمتين مع المغرب بشأن المنتجات المغربية من جهة، والصيد البحري من جهة ثانية”، على اعتبار أن الاتفاقيتين “لم تراعيا ضرورة الحصول على موافقة شعب الصحراء الغربية باعتباره طرفًا معنيًا بهما”، وأنهما “لا تمنحانه حقوقًا بل تفرضان عليه واجبات”.
من جهتها، استأنفت المفوضية الأوروبية حكم العدل الأوروبية، آنذاك، ووقعت بيانًا مشتركًا مع الرباط، أكدتا فيه التزامهما بمواصلة شراكتهما وضمان استمرار العلاقات التجارية الثنائية، لكنها الآن قرّرت انتظار قرار الحكم النهائي في القضية الذي لن يصدر إلا خلال العام المقبل.
بوادر أزمة جديدة
مع انتهاء مدة سريان الاتفاقية ستغادر السفن الأوروبية المياه المغربية، ويعني ذلك خسائر كبرى للأوروبيين وخاصة قطاع الصيد البحري، ذلك أن هذا القطاع يؤمن فرص شغل كثيرة للأوروبيين ويمنحهم الأموال الطائلة.
وتعتبر إسبانيا، الخاسر الأكبر من تعليق الاتفاقية، فهي المستفيد الأبرز منها، فالنسبة الكبرى من السفن والصيادين إسبان وليس من السهل تعويض السمك المغربي في وقت وجيز، خاصة أن المغرب كان لا يراقب نشاط السفن الأوروبية، ما يعني تجاوز هذه السفن للكميات المنصوص عليها في الاتفاقية.
مع ذلك، لا يبدو الاتحاد الأوروبي في هذا الوقت مستعدًا للتفاوض أو تجديد الاتفاقية قبل صدور قرار المحكمة، أو يمكن تجديدها واستثناء المناطق الصحراوية المتنازع عليها، وفي حال طرح هذا الأمر ستكون هناك عواقب كبيرة على مستقبل العلاقات المغربية الأوروبية.
كثيرًا ما يستخدم المغرب ورقة الهجرة للضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل مصالحه الاقتصادية والسياسية
سبق أن هدد المغرب بقطع العلاقات مع الأوروبيين سنة 2016، على خلفية قرار قضائي أوروبي باستثناء منطقة الصحراء الغربية من اتفاق التجارة الحرة للمنتجات الزراعية بين المغرب والاتحاد الأوروبي، قبل أن يتوصل الطرفان إلى تجاوز هذا القرار، وتجديد اتفاقية التجارة الحرة للمنتجات الزراعية، وحصل نفس الأمر سنة 2015.
في كل مرة يهدد المغرب بقطع العلاقات، إلا ويتم تجديد الاتفاقية بالصيغة التي تراها الرباط مناسبة، لكن هذه المرة لا يبدو أن الأوروبيين سيجددون الاتفاقية دون صدور قرار من محكمة العدل، ما يعني أن المسألة ستتطلب أشهر أكثر.
ويعتبر المغرب الصحراء الغربية جزءًا لا يتجزأ من أراضيه، فيما تقول جبهة البوليساريو إن المنتجات البحرية والزراعية القادمة من الصحراء والمتوجهة نحو الأسواق الأوروبية، تابعة لها وليس للمغرب باعتبار أن الصحراء تحت سيطرتها وتعود إليها، حسب قولهم.
كيف سيردّ المغرب؟
عدم تجديد اتفاقية الصيد البحري بالصيغة الحاليّة، يعني أن الاتحاد الأوروبي لا يعترف رسميًا بالسيادة المغربية على أراضي الصحراء الغربية ومياهها الإقليمية، وهو أمر يرفضه المغرب ويرفض مجرد الحديث فيه.
في حال أصر الأوروبيون على موقفهم، لن يبقى المغرب مكتوف الأيدي، إذ سيحرك أوراقه للضغط على الأوروبيين، وهي عادة الرباط منذ سنوات للحصول على ما تريد من دول الاتحاد الأوروبي، وأبرز هذه النقاط ملف الهجرة وأمن الحدود.
وكثيرًا ما يستخدم المغرب ورقة الهجرة للضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل مصالحه الاقتصادية والسياسية، وإجباره على العدول عن بعض قراراته، إذ تعمد السلطات المغربية إلى تسهيل عبور المهاجرين من أراضيها نحو إسبانيا.
تصريح وزير خارجية المملكة المغربية الشريفة 🇲🇦، السيد ناصر بوريطة ، بخصوص مستقبل
“اتفاقية الصيد البحري بين المغرب و الاتحاد الأوروبي”
🛑المغرب سيقرر بشأن مستقبل التعاون مع الاتحاد الأوروبي في مجال الصيد البحري على ضوء التقييم الذي ستقوم به الحكومة و بتشاور مع الشركاء الأوروبيين… pic.twitter.com/ATIRdHp2ag
— هشام السنوسي (@Pirana_dusahara) July 12, 2023
سيزيد هذا الأمر من متاعب الأوروبيين الذي يواجهون موجة هجرة غير مسبوقة قادمة من سواحل المتوسط الجنوبية، ولم يتمكن الأوروبيون إلى الآن من التصدي لهذه الموجة، فالأعداد كثيرة ودول الجنوب لم تتجاوب معها بعد.
إلى جانب ملف الهجرة، يمتلك المغرب ورقة ضغط أخرى وهي ملف مكافحة الإرهاب، إذ يمكن للرباط تعليق تعاونها الأمني مع العواصم الأوروبية، ما سيشكل ضغطًا قويًا على دول الاتحاد التي تستعين كثيرًا بالمعلومات التي يقدمها المغرب في هذا الصدد.
يرفض المغرب إبرام أي اتفاق لا تتم مراعاة ثوابته الوطنية فيه، إذ يصر أن تكون أقاليم الصحراء ضمن كل الاتفاقيات الموقعة مع الأوروبيين، لكن هذه المرة الأمر يختلف، ما يعني أن العلاقات بين الطرفين ستتوتر أكثر.