في مطلع العام الحاليّ اتصل بي بعض الأصدقاء من دول الخليج راغبين أن أرشح لهم بعض المعالم والمواقع المناسبة للزيارة في مدينة البصرة أقصى جنوب العراق خلال وجودهم لحضور مباريات كأس الخليج العربي لكرة القدم المقامة فيها.
كان من بين الترشيحات المناسبة للزيارة جامع السراجي الذي يقع في المحلة التي تحمل اسمه في قضاء أبو الخصيب، هذا المسجد التراثي المبني سنة 1727م تحمل مئذنته نموذجًا معماريًا فريدًا عرفت به العمارة العراقية التراثية، لذلك يعد موقعًا فريدًا في أقصى الجنوب العراقي، يمكن أن يطلع فيه السياح والزوار على الهوية المعمارية العراقية.
في وقت متأخر من ليلة الجمعة، جرفت الحكومة المحلية في البصرة المئذنة التاريخية ومعها الجامع، ليتحول إلى كومة تراب بحجة توسعة الطريق الموجود في المنطقة، لتختفي بذلك ثاني أقدم مئذنة شامخة في سماء البصرة.
أثارت جريمة التجريف تلك، ردود فعل متعددة من وزارة الثقافة ومفتشية البصرة وعدد من وجهاء وعلماء العراق، مستنكرين هذه الطريقة في التعامل معالم المدينة، مع وجود بدائل كتغيير الطريق أو نقل المئذنة إلى مكان مناسب، لكن القرار كان التجريف والهدم!
كل هذه الردود المتأخرة لا تغني عن حقيقة ذهاب هذا المعلم البصري العراقي دون عودة، لكنها تفتح الباب للحديث عن مصير عشرات المساجد في عموم العراق.
في زيارتي الأخيرة للعاصمة العراقية بغداد (أكثر مدن العراق ثراءً في معالمها الإسلامية) استوقفتني كثيرًا حال المساجد فيها.
عند مرورك اليوم في شارع الرشيد أشهر وأقدم شوارع العاصمة الواقع في جانب الرصافة، ينتابك الحزن على المآذن التاريخية المتناثرة على جانبي الشارع وهي تشكو الإهمال المتعمد، كما هو حال جامع حسين باشا الذي شيده حسين باشا السلحدار عام 1673م، لأجد أمام بوابته مكبًا للنفايات وباحته الداخلية أصبحت موطنًا لتربية أفراخ الدجاج!
ليس ببعيد عنه، يقع أحد أهم مساجد العراق التي بناها الخليفة المكتفي بالله العباسي، لكي يكون المسجد الجامع لصلاة الجمعة في شرقي القصر الحسني، وكان يعرف بجامع القصر، ثم أطلق عليه اسم جامع الخليفة، وسمي بجامع الخلفاء في الفترة الأخيرة.
هذا المسجد الجامع الواقع حاليًّا عند سوق الغزل يحمل رقعةً باليةً قديمةً على جداره الخارجي مكتوب عليها “مغلق لغرض الصيانة”!
في الجهة المقابلة له وعلى بعد دقائق سيرًا على الأقدام يقع جامع بديع الجمال، محكم البناء، مهمل ومغلق في وسط منطقة الشورجة على يمين الداخل إلى سوق العطارين ببغداد، جامع مرجان الذي شيده أمين الدين مرجان السلطاني الأولجايتي من موالي السلطان أويس بن حسن الإليخاني أحد أمراء الجلائريون عام 1356م.
حكاية المساجد والجوامع المهملة لا تنتهي في العراق، وإذا أردنا سردها جميعًا سيطول بنا المقام في هذا المقال، لكن الإهمال لم يطرق باب المساجد التاريخية والقديمة فقط، بل تعداها وصولًا للمساجد الحديثة والرئيسية، فجامع الموصل الكبير أضخم جوامع المدينة المشرع في بنائه قبل 2003 لم يكتمل إلى اليوم، رغم الوعود المتكررة والتصريحات الكثيرة من سياسيين ومسؤولين في الوقف السني، لكنه ما زال على حاله، فلا تقدم حقيقي في بنائه منذ عقدين من الزمان.
حال جامع الموصل الكبير أفضل بكثير من جامع الرحمن، أكبر المساجد العراقية الذي شرع ببنائه عام 1999م في بغداد ولم يكتمل إلى اليوم، بل تتنازع على أرضه الأحزاب الحاكمة في العراق، إذ تبلغ مساحته 200 ألف متر مربع، ولا وجود لبصيص أمل لبصر هذا المسجد النور ولو بعد حين.
في الحقيقة، إن الحديث عن مساجد العراق لا يمكن دون التطرق لأحد أهم أسباب الإهمال وهو الصراع على العائدية بين الوقفين الشيعي والسني، إذ تتعرض العديد من المساجد في العراق للإغلاق نتيجة دخولها في دوامة الصراع حول العائدية، ولأن الموضوع لا يخضع لقانون واضح المعالم وينفذ بطريقة حيادية من الدولة، تبقى المساجد في دوامة وضع اليد والسيطرة لمن يمتلك القوة على الأرض وتتعرض نتيجة لذلك لإهمال وتخريب.
على طول رقعة العراق من الفاو وحتى زاخو يتوزع إرث الأجداد من مساجد بنيت منذ قرون كثيرة، بداية من مسجد البصرة القديم (أول مساجد المسلمين خارج الجزيرة العربية المبني سنة 14 هجريًا) وصولًا للجامع المصفي بالموصل المبني سنة 16 هجرية، وتُنثر خريطة من اللؤلؤ المهمل وغير المصان في يد حكومات متعاقبة لا تقّدر قيمة هذه المساجد أو ربما تحمل العداء لها لأسباب طائفية وتاريخية، ولحين وصول من يقدر قيمة هذا الإرث العراقي الإسلامي الكبير لن تكون قصة جامع السراج أول القصص الحزينة ولا آخرها.
وقد صدق المتنبي الأخير وشاعر العراق الراحل عبر الرزاق عبد الواحد في وصفه واقعنا الحاليّ بهذا البيت الشعري المؤلم:
وا ضيعة الأرض إن ظلت شوامخها … تهوي، ويعلو عليها الدون والسفل!