ثلاثة أشهر مرت على اندلاع حرب الجنرالات في السودان التي اشتعلت في 15 أبريل/نيسان 2023 بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائبه آنذاك محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، في صراع مرير على السلطة أسفر حتى اليوم عن سقوط 3 آلاف قتيل على الأقل، ونزوح نحو 3 ملايين آخرين.
حرب أفرغت البلد الغني بثرواته من مقومات الحياة كافة، فتحول إلى بلد طارد لسكانه، بيئة غير آمنة على أبنائها الذين آثروا الفرار بحياتهم من رصاص المعركة المتطاير ليل نهار بين أبناء المؤسسة العسكرية بحثًا عن نفوذ ومكاسب سياسية واقتصادية على حساب شعب بأكمله.
وبينما كان الجميع، في الداخل والخارج، يؤمل نفسه بإرهاصات نجاح أولية لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت بنظام الإنقاذ وحكم عمر البشير بعد 30 عامًا من التربع على عرش السلطة، إذ بالجنرالات يعيدون البلاد عشرات السنوات إلى الخلف، في انقلاب مكتمل الأركان على مكتسبات الثورة التي لم يتبق منها إلا ذكرياتها فقط.
اليوم يدخل طرفا الحرب، الجيش وقوات الدعم السريع، جولة مفاوضات جديدة في جدة السعودية، برعاية أمريكية بريطانية، لتبدأ حلقة أخرى من سلسلة الجهود الدبلوماسية التي فشلت حتى اليوم في احتواء الموقف، إثر تشبث كل طرف بمواقفه الصلبة، بينما القتال يدور على أشده في مختلف المدن السودانية.
فاتورة باهظة
فاتورة الأشهر الثلاث الأولى للحرب كانت باهظة للغاية، فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن تتزلزل جنبات الخرطوم وضواحيها وبعض الولايات الحدودية بالقذائف والصواريخ والمتفجرات المتبادلة بين الجيش وقوات الدعم، التي أفرغت تلك المناطق من سكانها وتحولت إلى أماكن شبه خالية تمامًا.
ومع دخول حرب الجنرالات شهرها الرابع بلغ عدد الفارين من منازلهم في العاصمة الخرطوم 1.7 مليون شخص، أما الذين فشلوا في الهروب فيتخذون من سكنهم مخابئ لهم، بعضهم تحت الأرض، على أمل أن تُسدل الحرب أستارها، فيما لا تبدو مؤشرات ميدانية على ذلك، على الأقل في الوقت الراهن.
وتسببت الحرب حتى الآن في تشريد نحو 3 ملايين شخص، بينهم نحو 700 ألف عبروا الحدود إلى دول مجاورة، بجانب نزوح أكثر من 2.4 مليون سوداني من منازلهم إلى مناطق أخرى، هربًا من الحرب وتدمير البنى التحتية وندرة المرافق العامة، وفق إحصاءات الأمم المتحدة، وهو ما أحدث حالة من الفوضى مع تفشي جرائم السرقة والسلب والنهب.
أما على المستوى الإنساني ففاقمت الحرب من الوضع المتدني بطبيعة الحال وهو ما دفع منظمات الإغاثة الدولية للمناشدة أكثر من مرة من أجل فتح ممرات آمنة لنقل المساعدات للعالقين في منازلهم، هذا بخلاف ما تسبب فيه انهيار المرافق العامة والمستشفيات والخدمات الصحة في تفشي الأمراض، حيث ظهرت حالات حصبة في 11 ولاية من إجمالي 18 ولاية سودانية، بجانب “إصابة 300 شخص بالكوليرا أو الإسهال الشديد، ووفاة 8 منهم”، وفق بيان صادر عن منظمة الإغاثة الإسلامية.
كما حذرت الأمم المتحدة من أن الوضع في صورته الحاليّة يضع السودان على شفا حرب أهلية واسعة النطاق، من الممكن أن تحدث زعزعة في استقرار المنطقة بأكملها، وذلك تعقيبًا على العمليات الأخيرة التي استهدفت مدنيين في مناطق عدة ذات بعد قبلي عشائري، وسط تبادل الاتهامات بين الجيش وقوات الدعم السريع بشأن المسؤولية عن تلك الجرائم.
فشل الجهود الدبلوماسية
منذ اندلاع الحرب بُذلت عشرات الوساطات والجهود الدبلوماسية من العديد من الدول والمنظمات لاحتواء الموقف المتصاعد يومًا تلو الآخر، إلا أنها منيت بالفشل جميعها في ظل إصرار طرفي الحرب والقوى المغذية لهما على المضي قدمًا في مسار استمرار الاقتتال ورفض العودة ولو خطوة للوراء وإبداء أي مرونة في التعاطي مع تلك الجهود.
وكانت الوساطة السعودية ومباحثات جدة هي الأكثر حضورًا خلال الأشهر الثلاث الأخيرة، ورغم حضور ممثلي الجيش والدعم السريع، والتصريحات الإيجابية الصادرة عن ممثليهما، فإن أحدًا لم يلتزم بما تم الاتفاق عليه، وتم اختراق الهدن المعلن عنها، ما دفع الرياض وواشنطن لرفع يديهما عن الموضوع برمته حتى قبل أيام بسيطة حين أبدى البرهان وحميدتي استعدادهما لخوض جولة جديدة من تلك المباحثات.
المتابع لمسار الحرب بين الجنرالات منذ اندلاعها في أبريل/نيسان الماضي يجد أنها تتسع دائرتها بسرعة كبيرة، فكرة النار المتدحرجة انتقلت من قلب الخرطوم إلى ضواحيها ثم الانتقال إلى المناطق الحدودية، لتشمل معظم ولايات الدولة
الأمر كذلك مع وساطة منظمة الإيغاد التي عقدت قمة لها قبل أيام إلا أن الخلافات البينية كانت الحائل الأبرز أمام تحقيقها أي نجاحات تذكر، حيث تحفظ الجيش السوداني على رئاسة كينيا لتلك القمة بسبب خلافات بين الطرفين، هذا بخلاف الشكوك المتزايدة بشأن الاستقطابات والحسابات الخاصة التي تهيمن على تلك الجهود، وهو ما دفع الجيش لرفض المقترحات المقدمة بشأن حظر الطيران في الداخل السوداني والسماح بدخول قوات إفريقية بجانب تشكيل قيادة سياسية جديدة يتم التعامل معها، حيث اعتبره تدخلًا في شؤون البلاد وتهديدًا لسيادتها.
القاهرة هي الأخرى دخلت على خط الوساطة من خلال قمة دول الجوار التي احتضنتها قبل ساعات، بحضور ممثلي عن ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإريتريا، بجانب إثيوبيا، ورغم المخرجات الدبلوماسية التي أسفرت عنها تلك القمة، فلم تكن على المستوى المأمول في ظل غياب الضمانات وأوراق الضغط التي تجبر الطرفين على الانصياع لما يتم الاتفاق عليه.
إصرار على القتال
أمام كل تلك الجهود المبذولة للدفع بالأزمة نحو الحل السياسي ووقف القتال الدائر الذي تتسع رقعته يومًا بعد الآخر، يصر البرهان وحميدتي على مواصلة المعركة بكل شراسة، بعد أن حولا البلاد إلى ساحة حرب واسعة، لا مجال فيها للحياة المدنية بالمرة.
ورغم حضور ممثلين عن كل طرف في شتى المنابر الدبلوماسية، فإن ذلك لا يحول دون توقف القتال أو إبداء أي مرونة في التجاوب مع تلك الجهود، فبينما الجميع على طاولة واحدة في جدة أو القاهرة أو أديس أبابا، تكون آلة الحرب مستعرة داخل الخرطوم وفي دارفور وغيرها من المناطق الملتهبة، في رسالة واضحة للجميع على الاستمرار في القتال، ما أثار الكثير من الشكوك بشأن نوايا الطرفين من وراء قبولهما لتلك المبادرات.
كثير من الأصوات ترجع ذلك إلى أن الحرب في السودان لم تعد شأنًا داخليًا كما يظن البعض، فالأجندات الخارجية كثيرة، في ظل صراع النفوذ، ومن ثم يجب التعامل معها في إطار أوسع من ذلك، يراعي في الاعتبار البعدين الإقليمي والدولي، كونهما الأكثر تأثيرًا في المشهد، وعليه فإن السير في طريق الحل الدبلوماسي بعيدًا عنهما حرث في الماء لا جدوى منه.
في ظل تلك الأجواء الملبدة بالغيوم الجنرالية غاب التيار المدني – أو تم تغييبه – بصورة شبه كاملة عن الساحة، فضلًا عن ترهل الأحزاب والكيانات الرسمية، لتُترك البلاد “وليمة” بين فكي العسكر
المتابع لمسار الحرب بين الجنرالات منذ اندلاعها في أبريل/نيسان الماضي يجد أنها تتسع دائرتها بسرعة كبيرة، فكرة النار المتدحرجة انتقلت من قلب الخرطوم إلى ضواحيها ثم الانتقال إلى المناطق الحدودية، لتشمل معظم ولايات الدولة، وهو المؤشر الذي يحذر منه الخبراء بشأن نشوب حرب أهلية شاملة تقضي على الأخضر واليابس.
وفي ظل تلك الأجواء الملبدة بالغيوم الجنرالية غاب التيار المدني – أو تم تغييبه – بصورة شبه كاملة عن الساحة، فضلًا عن ترهل الأحزاب والكيانات الرسمية، لتُترك البلاد “وليمة” بين فكي العسكر، وفريسة سهلة ينقضون عليها بمخالبهم الشرسة ليجردونها من مواردها وثرواتها بل وسكانها، خدمة لطموحات السلطة وأطماع الكرسي فيما ينتظر الشعب في مقاعد المتفرجين ترقبًا لما ستسفر عنه معركة الذئاب.