توقع السودانيون منذ اندلاع حرب الجنرالات في 15 أبريل/نيسان الماضي أن يكون للمجتمع الدولي دور مؤثر وموقف حازم لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، والانتصار لمسار الانتقال الديمقراطي المدني للحكم في السودان إثر ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت بنظام الإنقاذ ورأسه عمر البشير.
إلا أن الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع تدخل حاليًا شهرها الرابع، وضحاياها في تزايد ما بين قتلى ومتضررين ومشردين، إذ نزح قرابة 1.7 مليون شخص من العاصمة الخرطوم وحدها، وتشرد نحو 3 ملايين شخص من بقية الولايات، بينهم نحو 700 ألف عبروا الحدود إلى دول مجاورة، إضافة إلى نزوح أكثر من 2.4 مليون سوداني من منازلهم إلى مناطق أخرى.
من المتوقع أن تزيد هذه الأعداد بين الساعة والأخرى في ظل استمرار القتال والمعارك الضارية التي توسعت رقعتها لتشمل معظم الولايات، دون أن تكون هناك حلول عاجلة لوقف هذا النزيف الذي يهدد بكارثة إنسانية محققة، ولا سيما في ظل احتمالية نشوب حرب أهلية تنهار معها الدولة والشعب معًا.
جاء موقف المجتمع الدولي المتخاذل إزاء حرب الجنرالات السودانية صادمًا للشعب السوداني، فشتان بين موقفه السابق في أثناء انطلاق الثورة والإطاحة بنظام البشير ودعم الحراك المدني الديمقراطي وما آل إليه الوضع حاليًّا، حيث تراجع الملف السوداني على أجندة اهتمامات المجتمع الدولي بشكل أثار الكثير من التساؤلات والشكوك لا سيما إذا قورن بالموقف ذاته إزاء أزمات وملفات أخرى ومنها الملف الأوكراني على سبيل المثال.
رئيس البعثة الأممية في #السودان: الصراع يمكن أن يتحول إلى حرب أهلية عرقية وقبلية.. والطرفان يواصلان تجنيد المقاتلين#العربية pic.twitter.com/6CdHPVz43Z
— العربية (@AlArabiya) July 12, 2023
تراجع الزخم
منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة السودانية قبل أربعة سنوات كان المجتمع الدولي حاضرًا بشكل ملحوظ في المشهد السوداني، محاولًا قدر الإمكان بناء أرضية مشتركة لامتصاص الصدمات المترتبة على إسقاط نظام الإنقاذ بعد 3 عقود من السلطة، وبالفعل استطاع أن يفرض نفسه كلاعب مؤثر في بناء مرحلة ما بعد البشير.
وما إن بدأ الصراع على السلطة بين الجنرالين، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو(حميدتي)، بدأت مرحلة النكوص والتراجع من المجتمع الدولي، إذ كانت الانتفاضة الوحيدة التي شهدها المسرح السوداني بعد اشتعال الحرب من القوى الدولية كانت تتعلق بالهرولة لإجلاء رعايا تلك الدول من السودان، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا.
وعندما اطمأنت تلك القوى لمغادرة رعاياها الأراضي السودانية بدأت مرحلة جديدة من الفتور في التعاطي مع تطورات المشهد المتصاعدة، ورغم التحذيرات الدولية والأممية من خطورة الوضع واحتمالية أن تنجر الدولة لمستنقع الحرب الأهلية الدموية، فإن الصمت كان لغة الخطاب الأكثر حضورًا.
مسؤولون أميركين: مسيرات أميركية ساعدت في حماية قوافل إجلاء الرعايا من السودان
#العربية pic.twitter.com/bAlIARkVMV
— العربية (@AlArabiya) April 30, 2023
كان المجتمع الدولي قبل حرب الجنرالات حاضرًا في الملف السوداني من خلال الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة “الإيغاد” التي كان منوط بها مساعدة السودانيين للانتقال إلى المسار الديمقراطي المدني، لكن تلك الآلية فقدت بريقها ورونقها وتأثيرها بعد 15 أبريل/نيسان 2023 لتحتل مكانها آلية أخرى، ذات أجندات مختلفة، مكونة من أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات.
وهكذا بدا واضحًا أن الملف السوداني تراجع تصنيفه في ترتيب قائمة أولويات المجتمع الدولي المتخمة بالملفات والأزمات المتعددة، التي يبدو أنها ما عادت قادرة على استيعاب أزمات جديدة خاصة إن كانت بعيدة بشكل أو بآخر عن دائرة الاهتمام الدولي، مثلها مثل العديد من الملفات الأخرى كالملف السوري واليمني والليبي واللبناني، فضلًا عن إقليم شرق إفريقيا الممزق نتيجة الإهمال الإقليمي والدولي.
تعدد المنابر في غيبة أممية
في أقل من 3 أشهر شهدت الساحة السودانية قرابة 5 مبادرات وساطة لإنهاء القتال بين الجنرالات، مثل القمة العربية في جدة، ومباحثات جدة، وقمة الإيغاد، وقمة دول الجوار بالقاهرة، والمبادرة الإثيوبية، هذا بخلاف مبادرات أخرى كالتي عرضتها جنوب السودان ومصر.
لكن العامل المشترك في تلك المبادرات أنها جميعها خلت تمامًا من الحضور الأممي الدولي، إذ كانت مبادرات أقرب للوساطة الشخصية المقدمة من بعض الأنظمة، بخلاف أخرى إقليمية لا تتمتع بالثقل الكافي، فضلًا عن افتقادها للقوة والتأثير القادرين على فرض مخرجاتها على طرفي الحرب، كما هو الحال في الجامعة العربية ومنظمة الإيغاد.
هذا بخلاف أن جميعها يعاني من الاستقطاب والانقسامات، فالجيش السوداني يرفض رئاسة كينيا للإيغاد، وبالتالي يرفض مخرجاتها المقدمة التي يعتبرها تدخلًا في الشأن السوداني وتنفيذًا لأجندات إقليمية تستهدف الاستقرار والسيادة السودانية، الأمر كذلك في المبادرة الإثيوبية المحفوفة هي الأخرى بسهام الشكوك في النوايا.
منذ إنشاء البعثة الأممية “يونيتامس” بناءً على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2545 الصادر في يونيو/حزيران 2020 للمساعدة على انتقال السودان للحكم الديمقراطي المدني وهي تواجه الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام بشأن مهمتها المعلنة وما تمارسه على أرض الواقع
حتى مباحثات جدة، التي يعتبرها البعض الأكثر قوةً وتأثيرًا، بحكم العلاقات القوية التي تربط السعودية بالقوتين المتقاتلين في السودان، بجانب الرعاية الأمريكية البريطانية لها، لم تسفر عن شيء، فبينما كان الاتفاق على هدنة إنسانية لوقف القتال في جدة كانت سماء الخرطوم ودارفور مغطاة بالصواريخ والرصاص، الأمر الذي أجهض تلك المباحثات التي عاد الجميع إلى منصتها بالأمس، لكن دون أي إرهاصات تفاؤلية رغم التصريحات الإيجابية المتبادلة.
وبينما تتعدد تلك المنابر التي تفتقد للقوة والتأثير، تزامنًا مع استمرار القتال المتصاعد يومًا بعد الآخر، وتعميق حجم النزيف والخسائر المقدمة، ماديًا وبشريًا، يقف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي، دون أن يحرك ساكنًا، ليترك الدولة السودانية وحيدة في مواجهة مخطط تفرقة الدماء.
شكوك وتساؤلات
منذ إنشاء البعثة الأممية “يونيتامس” بناءً على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2545 الصادر في يونيو/حزيران 2020 للمساعدة على انتقال السودان للحكم الديمقراطي المدني ودعم التحول السلس للسلطة من العسكر إلى المدنيين وتعزيز حقوق الإنسان والسلام المستدام، وهي تواجه الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام بشأن مهمتها المعلنة وما تمارسه على أرض الواقع.
يرى الكاتب الصحفي السوداني العبيد أحمد مروح أن البعثة الأممية بدلًا من أن تفتح الباب أمام جميع الفاعلين السياسيين في السودان انحازت إلى فئة قليلة، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على معدلات أدائها وعدم قدرتها على إدارة المشهد الذي بات أكثر تعقيدًا بسبب تلك السياسة الإقصائية.
واتهم الكاتب في مقال له الأمم المتحدة ممثلة في بعثتها الدائمة في السودان بأنها تحاول تنفيذ الأجندة الغربية الرامية إلى تقسيم البلاد، وأنها تخطط لإطالة أمد وجودها فوق التراب السوداني لفترات طويلة وليس مرحلة مؤقتة كما يفترض، واصفًا المنهج الذي اتبعته بأنه “إقصائي” يقسم السودانيين على أساس اللون السياسي والعرق المذهبي.
ما يحدث في السودان وتركه وحيدًا جثة هامدة وفريسة سهلة بين فكي الجنرالات، وفوق فوهة بركان الفوضى والحرب الأهلية، وعلى مشارف كارثة إنسانية محققة، ليس بالأمر المستغرب، فيوم تلو الآخر، وأزمة بعد الأخرى، يسقط القناع عن ازدواجية المجتمع الدولي الفجة
وألمح مروح أن الهدف المعلن للبعثة “هو الانتقال من الوضع السياسي الذي كان قائمًا قبل 11 أبريل/نيسان 2019، والموصوف بأنه مأزوم اقتصاديًا ومحاصر دبلوماسيًا ويتحكم فيه حزب واحد، إلى وضع جديد منفرج اقتصاديًا ومنفتح دبلوماسيًا ومتعدد سياسيًا، يسوده السلام الشامل ويهيئ البلاد إلى انتخابات حرة ونزيهة يختار فيها السودانيون مَن يتولى حكمهم”، وبعد أن يتحقق ذلك الهدف سينتهي دور البعثة بطبيعة الحال وتغادر البلاد.
غير أن المؤشرات التي كشفتها السنوات الثلاثة الماضية تشير إلى أن القوى التي تقف خلف البعثة قد قررت أنها “ستبقى إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وأن مهامها الحقيقية لا علاقة لها بانتقال طبيعي إلى وضع ديمقراطي في وقت معلوم، وإنما بانتقال يتم تخليقه وزرعه في رحم التربة السودانية، والتحكم مستقبلًا في جيناته الوراثية”، على حد قوله.
اختتم الكاتب السوداني مقاله بأن الأمم المتحدة ومن خلال بعثتها حادت عن المهمة والهدف المنشود لها إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث زرع الفتنة في الشارع السوداني، سواء بين مكونات الجسد العسكري بشقيه، الجيش وقوات الدعم، أم بين القوى السياسية المدنية، وهو الأمر الذي أوصل البلاد إلى حالة الفوضى التي تحياها اليوم، التي لا يتوقع أحد متى ستنتهي، مضيفًا “المجتمع الدولي والإقليمي اليوم ثمار غرسه، وعليه – إن كان يريد أن يستعيد دوره وقدرته على التأثير – أن يعيد جرد حساباته ويصحح مساره ويثبت حياده”.
ما يحدث في السودان وتركه وحيدًا جثة هامدة وفريسة سهلة بين فكي الجنرالات، وفوق فوهة بركان الفوضى والحرب الأهلية، وعلى مشارف كارثة إنسانية محققة، ليس بالأمر المستغرب، فيوم تلو الآخر، وأزمة بعد الأخرى، يسقط القناع عن ازدواجية المجتمع الدولي الفجة.
فما يعانيه السودان اليوم عانى منه في السابق – ولا يزال – كل من سوريا واليمن والعراق وليبيا وفلسطين، فيما انتفض الكبار لأجل دعم أوكرانيا في مواجهة الانتهاكات الروسية، في تمييز واضح يؤكد أن استقرار السودان لن يصب في صالح الأجندات الكبرى التي تسعى لحلب البلد الإفريقي من ثرواته وموارده المعدنية والنفطية الكبرى، التي لا يمكن لها أن تتحقق إلا في حالة الفوضى والصراع الغارقة فيها الآن.