استهل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جولته الخليجية بزيارة المملكة العربية السعودية، الإثنين 17 يوليو/تموز 2023، كمحطة أولى له، التقى خلالها ولي العهد محمد بن سلمان في قصر السلام بمدينة جدة، وتناقشا معًا في لقاء غابت عنه عدسات المصورين سبل تعزيز العلاقات المشتركة بين البلدين.
تأتي زيارة الرئيس التركي للمملكة ضمن جولة تشمل قطر والإمارات، تليها زيارة لجمهورية شمال قبرص التركية في الفترة بين 17 و20 يوليو/تموز 2023، حيث رافقته عقيلته أمينة أردوغان، على رأس وفد رفيع المستوى ضم وزراء: الخارجية هاكان فيدان، والطاقة والموارد الطبيعية ألب أرسلان بيرقدار، والدفاع يشار غولار، والصناعة والتكنولوجيا محمد فاتح كاجر، والتجارة عمر بولات، إلى جانب نواب ووزراء سابقين ومسؤولين في الرئاسة وحزبي العدالة والتنمية، والحركة القومية.
الزيارة هي الأولى لدولة عربية لأردوغان في ولايته الجديدة عقب فوزه في الانتخابات التي جرت مايو/أيار الماضي، وتعكس الكثير من التوجهات الخاصة بالسياسة التركية خلال المرحلة المقبلة، والقائمة في الأساس على تعزيز التعاون الاقتصادي مع القوى الاقتصادية الإقليمية وفتح صفحات جديدة مع البلدان التي كانت تعاني علاقاتها مع تركيا من توتر، في محاولة لتصفير الأزمات كأحد المرتكزات الرئيسية لأردوغان في ولايته الرئاسية الجديدة.
يذكر أن الزيارة الحاليّة للرئيس التركي تأتي بعد 15 شهرًا على زيارة سابقة قام بها للمملكة، أعقبتها زيارة مماثلة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان لأنقرة في يونيو/حزيران 2022، في إعلان واضح من الدولتين على تبني رؤية مغايرة تمامًا في سياستهما الخارجية الإقليمية والدولية بعد سنوات من الصدام والخصومة.
#فيديو| سمو #ولي_العهد يصطحب فخامة رئيس جمهورية تركيا لدى مغادرته قصر السلام بجدة إلى مقر إقامته، فيما قدّم فخامته سيارتين كهربائية تركية الصنع هدية لخادم الحرمين الشريفين ولسمو ولي العهد.https://t.co/QPwgDxBhwe#الرئيس_التركي_في_المملكة#واس pic.twitter.com/ZBXLw9YLaQ
— واس الأخبار الملكية (@spagov) July 18, 2023
الاقتصاد على رأس الأولويات
تناقلت كاميرات المصورين صورة ولي العهد السعودي وهو يستقل سيارة بيضاء من نوع “توغ” التركي، إذ أوصل بها ضيفه أردوغان إلى مقر الفندق الذي يقيم به في جدة، وتشير التقارير إلى أنها هدية أهداها الرئيس التركي لابن سلمان.
إهداء أردوغان ولي العهد السعودي هذا النوع من السيارة التركية محلية الصنع التي تسمى “باموق قلعة” (قلعة القطن)، نسبة إلى منطقة سياحية مهمة في ولاية دنيزلي غرب تركيا مكونه من صخور كلسية تشبه القطن، ويقصدها آلاف السياح لأغراض علاجية وسياحية سنويًا، يحمل بشكل واضح رسالة اقتصادية وسياسية معًا إلى الجانب السعودي الذي يبدو أنه قرأها جيدًا.
تأتي تلك الجولة الخليجية تحت عنوان “تعزيز الاقتصاد التركي” في ظل ما يعانيه من أزمات طاحنة طيلة السنوات الثلاثة الأخيرة، حيث وصلت معدلات التضخم والبطالة وقيمة العملة المحلية إلى مستويات انهيار غير مسبوقة، وقد أظهرت أحدث البيانات أن عجز الميزانية التركية خلال يونيو/حزيران المنصرم ارتفع إلى 219.6 مليار ليرة (8.37 مليار دولار) بزيادة قدرها 700% عما كان عليه قبل عام، فيما قفز التضخم السنوي إلى حاجز الـ40% خلال الشهر الماضي، بينما تراجعت الليرة نحو 29% من قيمتها هذا العام فقط.
ويأمل أردوغان وفريق الرحلة أن تسفر تلك الجولة عن طفرة اقتصادية تنعش السوق المحلي نتيجة ضخ استثمارات خليجية تعيد التوازن المفقود، وهو ما بدا إرهاصاته تلوح في الأفق، حيث وقع مجلس الأعمال السعودي – التركي الذي عقد في إسطنبول الأسبوع الماضي على 16 اتفاق تعاون بين الجانبين.
من جانبه قال رئيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي نائل أولباك: “هناك اهتمام بين رجال الأعمال بأنشطة المنتديات المزمع إنشاؤها في دول الخليج، لا سيما أن هذه المنتديات تخلق فرصًا قيمةً للتعاون بين رجال الأعمال الأتراك والخليجيين”، متوقعًا أن تتضمن تلك الجولة عقد حزم من اللقاءات الثنائية لتعزيز التعاون.
ولي العهد يقود سيارة كهربائية تركية الصنع “توغ” أهداها له “أردوغان”#الرئيس_التركي_في_المملكة#معكم_باللحظةhttps://t.co/xJnbc8z30G pic.twitter.com/9uaQ6VqHcL
— أخبار 24 (@Akhbaar24) July 18, 2023
ويتوقع أولباك أن تسفر تلك الزيارة عن إبرام العديد من الصفقات الاقتصادية المتبادلة في العديد من المجالات، قائلًا “نتوقع أن يتم التفاوض أيضًا على اتفاقات تعاون بمليارات الدولارات في قطاعات مثل المقاولات والإسكان والتقنيات الرقمية والطاقة والسياحة والصحة والغذاء والزراعة والنقل والتمويل”.
وكشف الرئيس التركي أن حجم التبادل التجاري الثنائي بين تركيا ودول الخليج خلال الـ20 عامًا الأخيرة ارتفع من 1.6 مليار دولار إلى نحو 22 مليار دولار، معربًا عن أمله أن توفر العلاقات الدبلوماسية بين بلاده والسعودية مساحة للتعاون الاقتصادي الواسع، وأضاف “الأزمات في العالم الإسلامي تحتم التشاور والتعاون الوثيق بين تركيا والدول الخليجية”.
وتستهدف أنقرة تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الرياض تحديدًا، التي بلغ حجم التبادل التجاري معها 4 مليارات دولار في النصف الأول من العام الحاليّ، وفق وزير التجارة التركي عمر بولاط، فيما تشير البيانات الرسمية إلى ارتفاع حجم تلك التعاملات من 3.7 مليار دولار في 2021 إلى 6.5 مليار دولار خلال 2022، بحسب معهد الإحصاء التركي.
الأمر ذاته مع أبو ظبي التي وقعت مع أنقرة اتفاقية شراكة في 3 مارس/آذار 2023، وصفها رئيس الإمارات محمد بن زايد بأنها “نقلة نوعية في مسيرة علاقات البلدين”، فيما بلغ حجم التجارة غير النفطية بين البلدين نحو 19 مليار دولار في 2022، مع توقع زيادتها إلى 40 مليار دولار في غضون 5 سنوات.
ووفق ما هو معلن في جدول الزيارة فإن مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي سيعقد 3 منتديات أعمال في الدول الخليجية الثلاثة (السعودية وقطر والإمارات) وذلك بمشاركة أردوغان بصفة شخصية، فيما ذكرت وكالة “رويترز” أن أنقرة تتوقع أن تسفر تلك الجولة عن ضخ الدول الثلاثة استثمارات تقدر بنحو 30 مليار دولار في قطاعات الطاقة والبنية التحتية والدفاع، هذا بخلاف 10 مليارات دولار كانت قد أعلنت تلك الدول ضخها في السوق التركي قبل فترة.
إستراتيجية جديدة ومقاربات مغايرة
رغم ما يمثله الاقتصاد من أهمية محورية، وركيزة ربما تكون الأهم في تلك الجولة، إلا أنه لم يكن الهدف الوحيد لها، فالتحديات التي واجهها الرئيس التركي وحزبه خلال السنوات الماضية جراء التوجهات الخارجية التركية وعلاقاتها المتوترة مع العديد من دول الجوار وإقليم الشرق الأوسط كانت نقطة ضعف قوية كادت أن تؤثر عليه في الانتخابات الرئاسية التي جرت قبل شهرين، لو أحسن توظيفها من المعارضة.
ومن ثم تبنى أردوغان وحكومته وحزب العدالة والتنمية إستراتيجية جديدة بمقاربات مغايرة، تضع في الاعتبار تصفير الأزمات وتبريد الأجواء مع الجميع، حتى مع العواصم التي كان التقارب معها أمرًا مستحيلًا – سياسيًا – في السابق، كالقاهرة وأبو ظبي، كذلك الرياض التي وضعت أنقرة في مستوى الخصم جراء تداعيات حادثة مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
فيديو:
ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ورئيس جمهورية تركيا يشهدان مراسم توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية بين البلدين.#الرئيس_التركي_في_المملكة
–
— أخبار السعودية (@SaudiNews50) July 17, 2023
التحديات التي فرضت نفسها على المنطقة مؤخرًا جراء المستجدات التي شهدتها الخريطة الدولية خلال الأعوام الماضية وعلى رأسها جائحة كورونا (كوفيد 19) ثم الحرب الروسية الأوكرانية التي أشعلت معها حرب موازية هي حرب الاستقطابات العالمية، وما خلفته من أزمات كبرى على رأسها أزمات الطاقة، هذا بخلاف معدلات التضخم الجنونية التي ضربت كل اقتصاديات العالم بلا استثناء، بجانب تغير موازين القوى في لعبة الكراسي الموسيقية جراء انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط تدريجيًا ومنح موسكو وبكين قبلة الحياة لتعزيز نفوذهما على الخريطة الدولية، كل ذلك أجبر أنقرة وغيرها من عواصم المنطقة على إعادة النظر في توجهاتها الخارجية والتراجع نسبيًا عن بعض المواقف السابقة من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب وتقليل حجم الخسائر المحتملة قدر الإمكان.
وتستهدف تركيا من وراء تلك المقاربات الجديدة تعميق نفوذها الإقليمي، توازيًا مع طموحاتها الاقتصادية، وذلك من خلال تعزيز التعاون مع بعض القوى السياسية والاقتصادية في المنطقة، وعلى رأسها الرياض والقاهرة، بجانب الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع حليفها الأقرب خليجيًا، الدوحة، مع فتح الباب تدريجيًا مع الحكومات الأخرى كالإيرانية والإسرائيلية، فضلًا عن استهداف أبو ظبي اقتصاديًا لما تمثله من ثقل اقتصادي كبير في الشرق الأوسط.
لم يكن اختيار السعودية كمحطة عربية أولى لأردوغان في ولايته الجديدة اختيارًا اعتباطيًا، فالرسالة واضحة، والهدف معروف للجميع، والرسالة استقبلتها الرياض بشكل إيجابي وفق التصريحات المتبادلة والاتفاقيات المبرمة بين الطرفين، الأمر كذلك مع أبو ظبي التي عمقت علاقاتها مع أنقرة مؤخرًا بشكل كبير.
كما أن الثقل التركي الإقليمي ربما يكون مغريًا للعواصم الخليجية في تعزيز حضورها الإقليمي في حرب الاستقطابات العالمية وإعادة تشكيل خريطة التوازنات، فالمصالح هنا هي لغة الحوار الرئيسية وقبلة التحركات والتوجهات بعيدًا عن أي خلافات أيديولوجية أدت في السابق إلى تعميق الفجوة بين بلدان المنطقة.
وتشير كل التوقعات إلى أن الجولة الخليجية التي يجريها أردوغان حاليًّا ستسهم بشكل كبير في إعطاء دفعة قوية لنمو العلاقات التركية الخليجية بشكل واضح، علاقات ترتكز على إستراتيجية جديدة وتحول ملحوظ في التوجهات، تقوم في البداية على أسس اقتصادية بحتة، مع تنحية البعد السياسي مرحليًا، أو على الأقل تجميد النقاط الخلافية، بما يمهد الطريق نحو مرحلة جديدة من الازدهار الاقتصادي تعوض به أنقرة السنوات الماضية وتسد الطريق أمام المعارضة والمتربصين بالدولة التركية ممن يتخذون الاقتصاد سلاحهم الأقوى في معركة الحصول على السلطة.