تعد جمهورية أفريقيا الوسطى مركز عمليات المرتزقة الروس في القارة السمراء، وقد وُشّح 20 من مقاتلي فاغنر الذين يتولون مهمة تدريب الجيش والشرطة والدرك بـ”وسام الصليب من أجل الشجاعة العسكرية” من قبل رئيس الوزراء فيليكس مولا، ورغم انسحاب أعداد كبيرة من المقاتلين، فإن ذلك لا يعني خروجًا نهائيًّا، بل هي عملية تناوب، البعض غادر وأتى آخرون.
كشفت خدمة فاغنر الإخبارية في أفريقيا الوسطى عن وصول مئات المقاتلين الأكثر خبرة إلى العاصمة بانغي، يوم 16 يوليو/ تموز الحالي، ليواصل المدرّبون الروس “مساعدة جنود القوات المسلحة وضباط إنفاذ القانون في الجمهورية في ضمان الأمن، قبل الاستفتاء الدستوري” المقرر إجراؤه في 30 يوليو/ تموز 2023.
يُعتقد أن مجموعة فاغنر بدأت العمل في جمهورية أفريقيا الوسطى في عام 2017، بعد أن وافق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على مهمة تدريب روسية هناك، ورفع حظر الأسلحة الذي فُرض عام 2013.
ومنذ ذلك الحين، تغلغل المرتزقة في هذا البلد تحت ذريعة محاربة الإرهاب والتمرد المسلح ضد السلطة المستبدة، بالتالي لم تخلُ ممارساتهم من ارتكاب جرائم شنيعة أودت بحياة مدنيين أبرياء، بينما في المقابل وضعوا أيديهم على الثروات النفيسة.
الألماس والذهب.. كلمتا السر
تزايدَ عدم الاستقرار في الدولة الأفريقية الغنية بالموارد، والتي أصبحت في السنوات الأخيرة واحدة من مراكز النفوذ الرئيسية لروسيا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
ألماس أفريقيا الوسطى هو من أكثر الألماس جمالًا وطلبًا في السوق الدولية، لكن الفقر والبؤس ينغّصان حياة السكان المحليين، ولو أنه في وقت سابق كانت تشكّل تجارة الأحجار الكريمة مصدر عيش خُمس السكان.
إلا أن الحكومة فرضت حصارًا على الألماس وأصبح محظورًا عام 2014، بهدف وضع حدّ للتجارة غير الشرعية التي تموّل الحروب، بعدما سيطرت الميليشيا المسلحة على مصادر إنتاجه من مناجمه في شرق البلاد إلى مراكز بيعه في بانغي، مرورًا بأنفير في هولندا.
فى أكتوبر/ تشرين الأول 2017، أي بعد عام من إعلان فرنسا أن مهمة حفظ السلام الخاصة بها قد انتهت وخرجت من البلاد، سافر رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى إلى سوتشي الروسية من أجل طلب المساعدة من روسيا، واشتكى علانية من الفجوة التى تركتها فرنسا، فرغم بقاء قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فى البلاد، كان جنود بلاده لا يزالون ممنوعين من امتلاك الأسلحة.
فى محاولة الحكومة السيطرة على تجارة الألماس اتجهت إلى شريك جديد، روسيا، وفي الوقت الذي أظهر بعض المراقبين الخوف من أن هذه الصفقة ستستبدل خطرًا بخطر آخر، رحّبت حكومة أفريقيا الوسطى بالروس، وراهنت على أن الاستقرار سيمكّنها من بيع المزيد من الألماس بشكل قانوني واستخدام الأموال لإعادة بناء الأمة.
وجود فاغنر في أفريقيا الوسطى مرتبط بشكل رئيسي بتحقيق الأرباح لا محالة، فقد أبرم الممثلون الروس صفقات مع الحكومة لاستخراج الألماس والتجارة به بطريقة قانونية، وكذلك هو الحال بالنسبة إلى الذهب.
تُظهر صور الأقمار الصناعية لموقع التعدين الرئيسي في منجم الذهب نداسيما من فبراير/ شباط 2022 و2023، التي حلّلها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أنه خلال عام واحد قام العملاء المرتبطون بفاغنر بتوسيع المنجم ومرافق المعالجة، بالإضافة إلى إحداث منجم جديد مفتوح جنوب شرق البلاد، وبالموازاة مع ذلك لم يطرأ أي تغيير يُذكر على القرى المحيطة بالمنجم، والذي يشتغل به سكانها.
من خلال الحصول على تصريح تعدين طويل الأجل، سيتمكّن أولئك الذين يتحكمون في فاغنر من تطوير واستغلال هذه المواقع الواعدة في السنوات القادمة، بالإضافة إلى الأنشطة الاستكشافية المستمرة في مواقع أخرى، حيث تُظهر القدرة على تطوير العديد من المواقع المختلفة داخل نداسيما، ناهيك عن المناطق الأخرى التي تمتلك فاغنر حقوق التعدين فيها في البلاد.
هكذا سوف ترتفع الأرباح المحتملة للمرتزقة على مدار ربع القرن المقبل، إذا تمكّنت فاغنر من الحفاظ على نفوذها في هذا البلد.
جرائم إنسانية وتطهير
أثار واقع قيام المرتزقة الروس بتدريب قوات أفريقيا الوسطى القلق، حيث إن انتهاكات حقوق الإنسان فى البلاد منتشرة إلى درجة أن الأمم المتحدة فرضت حظرًا على الأسلحة فى أفريقيا الوسطى، إلى جانب توجيه الاتهامات إلى المدرّبين الروس بقبضهم على الأبرياء في حملات جماعية.
يُشاع أن مرتزقة فاغنر ارتكبوا انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، بما في ذلك التعذيب وإعدام المدنيين، حسب ما كشفه تقرير استقصائي، حيث كان جنود الجيش على مدى السنوات الخمس الماضية يخضعون لتدريب فاغنر، الذي اشتمل على تقنيات “فوق عنيفة” للتعذيب والقتل، بما في ذلك كيفية قطع الأصابع والساقين وإزالة الأظافر والخنق وسكب البنزين وحرق الناس أحياء.
التقرير، الذي أعدّته منظمة “ذا سانتري” لمكافحة الفساد ومقرها واشنطن، وجد أيضًا أن جزءًا من تدريب فاغنر تضمّن “التطهير” الذي قالت مصادر في جيش أفريقيا الوسطى إنه يعني قتل الجميع، بمن فيهم النساء والأطفال.
كما واصل المرتزقة أمر جنود أفريقيا الوسطى بتنفيذ حملات مذابح لمجتمعات بأكملها قد تعيق عمليات استخراج الذهب والألماس التي تقوم بها المجموعة، كما يقول مصدر عسكري: “نحن نقتل القرويين فقط، ندفنهم أو نرميهم في الأدغال”.
إحكام القبضة على السلطة
بالتعاون الوثيق مع رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى فوستان آرشانج تواديرا، تتمتع مجموعة فاغنر بسيطرة كبيرة على القيادة السياسية والعسكرية للبلاد، فضلًا عن نفوذها الهائل على اقتصادها.
في شوارع المدن وخاصة العاصمة، ينتشر رجال ملثمون ينتمون إلى فاغنر، يستفردون بصلاحية ضبط الأمن وتفتيش السكان المحليين واعتقالهم والتحقيق معهم، وفي مرات متكررة اختفى عدد من المدنيين في ظروف غامضة.
حتى في القصر الرئاسي، المسؤولون عن الأمن هناك هم من الروس المرتزقة، أما الأمنيون الأفارقة مجبرون على العمل تحت إمرة الروس.
كانت فاغنر تقود الهجمات الروسية في أجزاء من أوكرانيا قبل أن تظهر وكأنها تنقلب على الكرملين، بعد خلاف مع الجيش الروسي بشأن إدارة الحرب، فكان هذا الحدث مصدرًا للشكوك حول مستقبل المرتزقة الروس في أفريقيا، والحقيقة أن روسيا أصبحت وكأنها تتبنّى رسميًّا هندسة الإرهاب في أفريقيا، بعدما كانت تتبرّأ من جرائم فاغنر.