لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بالاستيطان في مدينة القدس المحتلة، وإبعاد أهلها والمؤثرين عنها، ومحاولة صبغ المدينة بالصبغة الإسرائيلية وحسب، بل يسعى لكسب معركة الوعي والعقول، من خلال الأنشطة المنهجية واللامنهجية التي تستهدف الأجيال الناشئة.
وخلال العام الأخير، سعى الاحتلال لكسب هذه المعركة عبر محاولة العبث بالمنهاج الدراسي لطلبة القدس المحتلة، ممثلًا بالمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، وهو ما يستهدف قرابة 100 ألف طالب وطالبة فلسطينية في عاصمة الفلسطينيين الأولى.
إلا أن هذه المحاولة ليست الأولى، إذ يعود تاريخ المحاولات إلى عام 1967، حين حاول الاحتلال فرض نظام التعليم الإسرائيلي على مدارس القدس، لكنه فشل أمام تكاتف المقدسيين لرفضه، لكنه اليوم يسير بخطوات تدريجية متسارعة، ضمن سياسة مدروسة وبعيدة المدى لأسرلة كل القطاعات في مدينة القدس.
ويتوجّه قرابة 50 ألف طالب وطالبة إلى 146 مدرسة تتبع لمظلة التعليم الفلسطينية، وتشمل مدارس الأوقاف والمدارس الخاصة ومدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، بينما يتوجه البقية إلى المدارس التابعة لإدارة وزارة المعارف الإسرائيلية وبلدية القدس وفق مركز الإحصاء الفلسطيني.
ويدرس الطلبة في بعضها المنهاج الفلسطيني المحرّف (الذي يحتوي على معلومات مغلوطة بشأن التاريخ الفلسطيني)، فيما تختص أخرى بتعليم المنهاج الإسرائيلي من الصف الأول حتى الثاني عشر، بينما يسعى الاحتلال لفرضه على البقية إلزاميًّا، إلا أنه ومنذ يوليو/ تموز من العام الماضي تشهد المدارس في القدس إجراءات عقابية بسبب رفض تدريس المنهاج الإسرائيلي.
وخصّص الاحتلال ميزانية تبلغ مليارَين و100 مليون شيكل لتهويد القطاعات المختلفة في المدينة خلال 5 سنوات (2018-2022)، ويأتي على رأس الاستهداف تهويد وأسرلة النظام التعليمي في القدس بشكل كامل.
إذ إنه وفي قراءة لواقع التعليم في القدس التي أعدّها المنتدى التربوي المقدسي، يتبيّن أن الميزانيات التي خصّصها الاحتلال للسيطرة على قطاع التعليم في القدس بهدف أسرلته مرتفعة.
فالمدارس العربية الفلسطينية، التي تبلغ 85 مدرسة و125 روضة أطفال، تموَّل بأكثر من 400 مليون دولار سنويًّا حسب بعض التقديرات، أما المدارس الأهلية والخاصة وحدها تموَّل بما يقارب 40 مليون دولار.
وتندرج المخيمات الصيفية التي تنظّمها شرطة الاحتلال الجماهيرية في المدينة ضمن الأنشطة اللامنهجية التي تركّز على الفتية والفتيات، وتحديدًا في منطقة بلدة سلوان وحي رأس العامود جنوبي المسجد الأقصى المبارك، عبر سلسلة من الأنشطة التي أُعدت مسبقًا.
ومن بين هذه الأنشطة محاضرات ضد العنف والمخدرات، بالإضافة إلى 4 رحلات سياحية إلى داخل الأراضي المحتلة عام 1948، إلى جانب الدورات التعليمية المجانية والاحتفالات والعروض الفنية والرحلات الترفيهية، تحت غطاء الخدمات الاجتماعية والثقافية.
أهداف وخطط.. ما الذي يريده الاحتلال؟
يتضح من خلال هذه الأنشطة التي تنظمها الشرطة الإسرائيلية في القدس المحتلة، السعي الحثيث وراء محاولة غزو عقول الأطفال واللعب بالقيم والثقافة الوطنية الفلسطينية، بالتزامن مع ملاحقات واعتقالات تتمّ في الوقت الطبيعي للفتية في المدينة المحتلة.
وفي الوقت الذي يُغرق الاحتلال فيه الفتية والشبان بالمخدرات في القدس المحتلة، يروّج من خلال هذه المخيمات لرغبته في محاربة هذه الظاهرة، وهو ما يعكس تضاربًا واضحًا، إلى جانب السعي الحثيث منه لكسب الفتية والتلاعُب بقيمهم ومبادئهم الوطنية.
وإلى جانب الخطوات الخشنة التي يستخدمها الاحتلال بحقّ المقدسيين عمومًا والفتية خصوصًا، فإن للأدوات الناعمة حضورًا في السياسات والاستراتيجيات الإسرائيلية، من خلال هذه الأنشطة المنهجية واللامنهجية المتمثلة في المخيمات، والتي تستهدف تطويع الفتية ودمجهم في المجتمع الإسرائيلي.
وبمحاذاة هذا الأمر، تكمن خطورة نشاط شرطة الاحتلال الجماهيرية في “تحسين صورة الاحتلال إعلاميًّا، واختراق المجتمع المقدسي ومحاولة ترويضه وكيّ وعيه، ومحاولة تطبيع العلاقات بين المقدسيين والشرطة، وإيصال الرواية الصهيونية السياسية لطلبة المدارس، وإضفاء طابع مدني على جهاز الشرطة”.
وفي هذا الإطار، يقول رئيس لجنة أولياء أمور طلبة القدس، رمضان طه، إن هذه الأنشطة والمخيمات تركز بدرجة أساسية على الفتية في سنّ الـ 16 والـ 17 عامًا، تحت غطاء القيام بنشاطات ورحلات، إلى جانب محاربة المخدرات عبر أنشطة ثقافية تشرف عليها شرطة الاحتلال.
ووفق حديث طه لـ”نون بوست”، فإن هذا الفعل محاولة لتحسين صورة الاحتلال أمام الرأي العام المحلي والعالمي، ومحاولة جذب هذه الفئة من الشباب إلى الجانب الإسرائيلي، بالإضافة إلى أطماع أخرى قد تكون في عملية تشغيل هذه الفئة الشبابية، عبر السعي لإسقاطهم مخابراتيًّا.
ويشير إلى أن هذه المراكز الجماهيرية والشرطة يعملان يدًا بيد لإنجاح هذه المخططات، إذ إن هذه المراكز الجماهيرية تمّ إنشاؤها لتكون بديلة عن المؤسسات الوطنية الفلسطينية، بحيث تكون الواجهة لكل النشاطات المنهجية واللامنهجية داخل المدارس.
ويوضّح رئيس لجنة أولياء أمور طلبة القدس أن أي نشاطات يجب أن تتم في المدارس التي تتواجد فيها مراكز جماهيرية خاضعة لشرطة الاحتلال، يجب أن تتم عبر هذه المراكز وتحت إشرافها وسيطرتها، ما يندرج ضمن السعي لأسرلة كل الأنشطة.
كيف تحدث الأسرلة.. الابتزاز والتهديد
يلوّح الاحتلال الإسرائيلي بالقوة تارةً أو الابتزاز والإغراءات المالية تارةً أخرى، في سعيه لبسط ثقافته على القدس المحتلة، سواء كان ذلك في الأنشطة المنهجية واللامنهجية، وهو ما يؤكده رمضان طه، إذ يلوح الاحتلال بسحب تصاريح الأنشطة حال لم تكن خاضعة لرقابته أو لا تتوافق مع أفكاره.
ويلفت إلى أن المخيمات والأنشطة المنهجية واللامنهجية كانت تموّل في السابق من قبل بلدية القدس المحتلة التابعة للاحتلال، قبل أن تتحول الأمور لتصبح تحت سيطرة المراكز الجماهيرية التابعة للشرطة الإسرائيلية في المدينة، ضمن سلسلة من الإجراءات التي اتُّخذت لإجبار الأهالي والطلبة على التعامل مع هذه المراكز.
ويؤكد على أن الهدف من هذه الفعاليات والأنشطة السيطرة وإعطاء الطابع بأن جميع المؤسسات الموجودة في القدس تابعة للاحتلال، وإلغاء أي وجود لأي مؤسسات وطنية في المستقبل كجمعيات ومؤسسات، إلى جانب التحكم في المراكز المتعلقة بتحفيظ القرآن.
ووفق طه، فإن هذه المراكز الجماهيرية تقوم على كيّ الوعي الفلسطيني، ومحاولة القيام بغسيل دماغ للطلبة والفتية، في الوقت الذي يتم فيه التصدي من خلال تحذير الأهالي عبر التواصل الدائم معهم، وتحذيرهم من مخاطر هذه المراكز الجماهيرية والأنشطة.
وينوّه إلى أن الكثير من الأنشطة التي يتم الإعلان عنها لا ينتمي إليها إلا المنتفعون وبعض الناس الذين لهم مآرب شخصية في هذه النشاطات، أما أصحاب الهوية الثقافية الوطنية والعربية والإسلامية فهم يقومون بمقاطعة هذه الأنشطة والمراكز والتحذير منها.
ويشير إلى وجود حاجة فلسطينية لدعم المؤسسات المقدسية، ومحاولة تثبيت الأنشطة الوطنية واللامنهجية، سواء كانت الثقافية منها أو حتى الرياضية والاجتماعية، من خلال زيادة الدعم الرسمي وغير الرسمي، وتعزيز الدعم المالي لهذه المؤسسات الفلسطينية في القدس.
امتداد للتهويد.. مشروع استراتيجي
من جانبه، يؤكد رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد، ناصر الهدمي، على أن مشروع التهويد بالنسبة إلى الإسرائيليين هو أمر استراتيجي يشمل جميع المجالات، حيث يسلك الاحتلال جميع الحقول التي يمكن تهويدها، بما في ذلك المدارس والشوارع والأسواق والهوية وصقل الفكر المقدسي الوطني بعيدًا عن الهوية الوطنية.
ويوضّح الهدمي لـ”نون بوست” أن إحدى الأدوات التي تنتجها سلطات الاحتلال هي التهويد الفكري المرتكز على العملية التعليمية، إذ إن الاحتلال رأى أن العقيدة الفكرية التي يحملها أبناء القدس والهوية الوطنية تشكّل عقبة بالنسبة إلى الاحتلال، وعائقًا أمام تهويد بقية المدينة في بقية مناحي الحياة.
ويشير إلى أن التهويد اللامنهجي المتمثل في المدارس والأنشطة عبر المراكز الجماهيرية، التي تعتبَر ذراعًا تابعة لبلدية الاحتلال يشرف عليها ضباط مخابرات ومفكرون، يهدَف من خلالها إلى تغيير فكر الشاب المقدسي تجاه الاحتلال، وتغيير النظرة تجاه الإجراءات الإسرائيلية.
ووفق رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد، فإن هذه الأنشطة اللامنهجية تستهدف تطبيع علاقة ابن الشارع الفلسطيني بضابط الشرطة الإسرائيلي، بحيث يتقبّل التعامل معه بعيدًا عن الهوية الوطنية والصورة النمطية المعتادة عن المواجهة مع الاحتلال.
ويقرّ الهدمي بعدم وجود خطة وطنية رسمية تستهدف تثبيت الوجود الفلسطيني في القدس، إذ إن القيادة الفلسطينية في رام الله لا تهتم بهذا الأمر، فضلًا عن عدم وجود تفكير لدعم أهالي القدس ومواجهة هذه المخططات، ومختلف الحديث هو إعلامي فقط.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن الاحتلال يحارب جميع المخيمات الوطنية التي تعزز الهوية الوطنية وإبعاد القائمين عليها، مع وجود بعض المحاولات التي يقوم بها البعض بجهد فردي ذاتي، لا يستطيع في النهاية مواجهة النشاط الإسرائيلي المدعوم ماليًّا ورسميًّا.