فجر الأحد، 16 يوليو/ تموز الجاري، استفاقت العاصمة دمشق على وقع حريق ضخم يلتهم سوق ساروجة، أحد أسواقها التاريخية الشهيرة، بالقرب من شارع الثورة، إذ بدأ الحريق المندلع عند حمام الخاندي في منطقة ساروجة باتجاه سوق الهال القديم، ممتدًّا إلى بعض المواقع التاريخية والتراثية في الحي، منها بيت خالد العظم الذي تعرّض جزء منه للحريق، ومن ضمنه مركز للوثائق ومتحف تاريخي لمدينة دمشق، وقصر عبد الرحمن باشا اليوسف، أمير محمل الحج الدمشقي المدرج على خارطة المواقع الأثرية لوزارة الثقافة، إضافة إلى عدة بيوت ومحال تجارية وورشات أحذية وحقائب.
وأعلنت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا“، نقلًا عن قائد فوج إطفاء دمشق داود عميري، أن 21 سيارة إطفاء و4 صهاريج مياه و3 سيارات دفاع مدني شاركت في إخماد الحريق، لافتًا أن التحقيقات مستمرة لمعرفة أسباب الحريق الذي اقتصرت أضراره على الماديات دون تسجيل أية إصابات، بخلاف إعلان الهلال الأحمر السوري الذي قال إنه “نقل مصابين إلى المستشفى، وقدّم الإسعافات لـ 6 حالات أخرى في المكان”.
فيما عزا عضو مجلس محافظة دمشق لقطاع الدفاع المدني، محمود كريّم، في حديثه لموقع “أثر برس” الموالي، سبب ازدياد النار إلى كون المنطقة عبارة عن بيوت عربية قديمة مبنية من الخشب والطين واللبن، إضافة إلى وجود ورشات لتصنيع الأحذية والحقائب التي تستعمل مواد قابلة للاشتعال.
وأشار إلى أنه يوجد في المنطقة موقع أثري يتم فيه تجميع وثائق تضرر بالحريق، إلا أنه منذ فترة نقلت جميع الوثائق الهامة، كون المنطقة تعرضت لحريق بسيط، وهذه الوثائق الآن في أمان.
قيمة المكان
أدرجت منظمة التراث العالمي “اليونسكو” دمشق القديمة بأحيائها السبعة: حي القنوات، العمارة، الأمين، ساروجة، باب توما، باب شرقي، والقيمرية؛ على لائحة التراث العالمي، ويحتل سوق ساروجة كحيّ قديم مكانة خاصة لدى السوريين، لا سيما الدمشقيين، لما فيه من خصوصية ثقافية واجتماعية وتاريخية.
كما أنه أول حي بُني خارج أسوار مدينة دمشق، بالقرب من باب الفراديس، ويُطلق عليه اسم “إسطنبول الصغرى”، نسبة إلى الأرستقراطية العثمانية التي سكنت الحي.
ويضمّ الحي عددًا من المدارس والجوامع والحمّامات المملوكية والمدرسة المرادية، والجامع الورد والحمام الورد ومسجد الوزير وغيرها، إضافة إلى عدد من البيوت أبرزها بيت عبد الرحمن باشا اليوسف أمير محمل الحج الشامي، إلى جانب بيت العظم الذي تعرض جزء منه للحريق.
وشُيّد بيت خالد العظم على مساحة تتجاوز 3 آلاف و100 متر مربع في الفترة العثمانية خلال القرن الـ 18 الميلادي، على طراز معماري يحوي الحجر واللبن والخشب، وتتوسّطه باحة سماوية وقاعة وإيوان ورواق، وعدد من الغرف الرئيسية المبنية على طراز العمارة الدمشقية.
أما مركز الوثائق التاريخية في دمشق فيُعتبر من أغنى المراكز التوثيقية والتاريخية في الوطن العربي، إذ يضمّ 5 ملايين وثيقة متعددة المواضيع أقدمها يعود لأكثر من 5 قرون، منها مخطوطات المحاكم الشرعية خلال 400 عام مدة الحكم العثماني.
وهذه الوثائق الهامة هي عن تاريخ سوريا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، وفيه الأوامر السلطانية المكتوبة باللغة التركية القديمة، وتتعلق بالجيش والمعارك وتعيين الولاة والحكام والقضاة وأئمة الجوامع، إضافة إلى وجود وثائق الدولة والمراسيم والقرارات الوزارية وقرارات فترة الانتداب الفرنسي، وذلك من عام 1916 إلى عام 1970.
وكذلك كل ما يخصّ قضية فلسطين، وأوراق ومذكرات خاصة بالشخصيات السورية والعربية تبحث في الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، فيما يزيد مجموع المخطوطات في هذا القسم على 3 آلاف مخطوط وصحف من أوائل هذا القرن، وهي نسخ نادرة صدرت في دمشق وبيروت.
وتضمّ المكتبة التاريخية كتب التاريخ والمعاهدات السياسية، ومذكرات رجال السياسة العربية والأجنبية، ومجلات الأرشيف باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وفي القسم البصري توجد 6 آلاف صورة شخصية لشخصيات هامة.
حرائق متكررة تثير الشكوك
أحصى “نون بوست” عدد الحرائق في دمشق القديمة منذ 2011، والتي يؤكد تكرارها وحالة اللامبالاة من حكومة النظام تجاه كل حريق على أن أيادي خبيثة تستهدف تراث دمشق:
– حريق أبريل/ نيسان 2016، أدّى إلى احتراق أكثر من 80 محلًّا في سوق العصرونية خلف المسجد قرب مقام السيدة رقية، وتحدثت الأضرار حينها عن مليارَي ليرة سورية، والسبب حينها سُجّل على أنه ماسّ كهربائي في أحد المحال.
– حريق أكتوبر/ تشرين الأول 2016، احتراق 3 منازل مقابلة لباب جامع الورد في سوق ساروجة بحارة المفتي، عند مدخل طريق عين الكرش.
– حريق هائل في ديسمبر/ كانون الأول 2016، في سوق مردم بيك بالحميدية طال 9 محال تجارية.
– حريق يوليو/ تموز 2017، في منطقة باب الجابية (سوق الصوف) بدمشق.
– حريقان في سبتمبر/ أيلول 2016، الأول حريق ضخم شبَّ في متاجر للأخشاب بسوق المناخلية ضمن سور دمشق الأثري، والثاني بعد الأول بيومَين طال محال ومنازل واقعة عند مدخل السوق العتيق أو سوق الهال القديم في حي العمارة، أدّى إلى وفاة 3 أشخاص وانهيار عشرات المحال والمنازل القديمة المسقوفة بأعمدة خشبية.
– حريق أكتوبر/ تشرين الأول 2017 شبَّ في سوق العصرونية، وجرى التعتيم عليه إعلاميًّا.
– حريق عام 2019 بمبنى المصري في حي العمارة (سوق الحدّادين – المناخلية)، وتوفي 7 أطفال أشقّاء حرقًا.
– حريق عام 2020 في سوق البزورية الشهير في الحميدية بدمشق القديمة، مسبّبًا دمارًا وخسائر مادية كبيرة.
أغلب هذه الحرائق المتكررة في أوقات متقاربة كانت حكومة النظام ترجع أسبابها لماسّ كهربائي، فيما يتم تجاهل أسباب بعضها، ما يثير الشك في كونها مدبّرة ضمن هذه المنطقة التي تنشط فيها أذرع إيران ووكلائها العقاريين، لإجبار الدمشقيين على بيع محالّهم وعقاراتهم.
فالمنطقة باتت مهمة لدى السفارة الإيرانية لقربها من مقام السيدة رقية، الواقع جنوبي الجامع الأموي في حي العمارة، والذي ترعى توسيعه المصطدم برفض أصحاب المحال والبيوت عن التخلي عن ممتلكاتهم، رغم الإغراءات المالية الضخمة.
من جهته، حمّل المجلس الإسلامي السوري النظام وإيران مسؤولية جريمة حريق ساروجة، معتبرًا أن ذلك يشكّل استمرارًا خطيرًا لعملية التغيير الديموغرافي في سوريا، ومحاولة سلخها عن تاريخها وهويتها وانتمائها.
ورغم عدم وجود دلائل ملموسة على ضلوع النظام أو جهات تعمل لصالح إيران، إلا أن ذلك لا يعفي حكومة النظام من تعمُّد الإهمال الذي أوصل الحي إلى هذه النتيجة، وتأخُّر فرق الإطفاء في الوصول بسبب عدم توفر مضخّات المياه، فضلًا عن جهل فرق الإطفاء في التعامل مع أبنية أثرية.
إذ أظهر مقطع مصوّر رجالًا عسكريين يصوّبون خراطيم المياه ذات الضغط العالي على الأبواب والأسقف الخشبية، وهو الأمر الذي استنكره خبراء، إذ لا يمكن أن تتعامل فرق الإطفاء مع أبنية أثرية عالمية مكوّنة من لبن وأخشاب وورق وتحوي مقتنيات سريعة الاشتعال، كما تتعامل مع مبنى بيتون مسلح.
هذا فضلًا عن غياب خطة تأمين وحماية للمقتنيات، من أجهزة إنذار ضد الحرائق للرصد أو الكشف الأوتوماتيكي عن النيران، أو الكشف عن وجود أدخنة، أو عن وجود حرارة، ووجود أجهزة إطفاء الحرائق بالنظام الغازي الأوتوماتيكي الذي لا يسبّب ما يسبّبه الماء من تلف.
الهدف الحقيقي للحريق
المحامي السوري عبد الناصر الحوشان، أشار في حديثه لـ”نون بوست” أنه لفهم أبعاد هذا الحريق الذي يهدف تدمير الوجه الحضاري لمدينة دمشق بدافع الحقد الطائفي، لا بدَّ من وضع خريطة مدينة دمشق ومعرفة أماكن تمركز نشاطات الشركات الإيرانية في دمشق، ومعرفة المناطق المستهدَفة بعمليات التغيير الديموغرافي في دمشق وريفها.
مضيفًا أن حي ساروجة يشكّل عقبة أمام تمدد المشروع الفارسي في دمشق، الممتد من منطقة المزة 86 ذات الأغلبية العلوية غربًا، عبر كفرسوسة التي تضمّ مقام شيخ العلويين الحسن المكزون، وداريا التي تضمّ مقام السيدة سكينة ابنة علي، وخلف بساتين الرازي القريبة من السفارة الإيرانية، ومخيم اليرموك والتضامن جنوبًا التي توصل السيدة زينب، أكبر مركز للشيعة في سوريا، بحيّ الميدان وجوبر والغوطة شرقًا، وحي القابون وحي تشرين وحي برزة الذي يصل بعشّ الورور ذات الأغلبية العلوية.
وحسب حوشان، فإن هذه المنطقة أُخضعت لقوانين التطوير العقاري والمرسوم 66 لعام 2012، والقانون رقم 10 لعام 2018 التي بموجبها جُرّد أصحاب العقارات في هذه المناطق من حقّ الملكية، ومنح شركات التطوير العقاري والشركات العقارية الإيرانية حق تملُّك أكثر من 50% من مشاريع التطوير العقاري أو مشاريع الترميم، واستثمار المشاريع الاقتصادية المتعثرة بعقود طويلة الأجل.
ونوّه حوشان لمسألة مهمة، وهي أن الحريق الذي يأتي على الآثار والممتلكات الثقافية المحمية ينزع عنها الحماية، وبالتالي شطب تسجيل منطقة أو بناء أثري عبر قرار من وزير الثقافة بناءً على اقتراح مجلس الآثار، وينشَر القرار في الجريدة الرسمية، ويثبّت في سجل الآثار وفقًا للمادة 17 من قانون الآثار رقم 222 لعام 1963 والمعدل بالقانون رقم 1 لعام 1999، أو استملاك العقارات المجاورة لها وفقًا للمادة 20، وتحويلها إلى مشاريع استثمار عقاري سواء لأغراض تجارية أو سكنية، وهو الهدف الحقيقي وراء الحريق.
مشروع شارع الملك فيصل
يعدّ شارع الملك فيصل أقدم شوارع دمشق خارج السور، ويضمّ عشرات المحلات التجارية القديمة والأوابد الأثرية، فيما يعود إنشاء الشارع نتيجة امتداد العمران في حي العمارة نحو الشرق واتساع باب توما خارج السور ثم التقائهما معًا، وهذا قبل الحرب العالمية الأولى عام 1914 بفترة وجيزة.
وسُمّي باسم الملك فيصل بن الحسين ملك سوريا في عهد الحكومة العربية (1918-1920)، ولم يكن منظّمًا في عشرينيات القرن الماضي، بل كان سلسلة متواصلة من الأسواق والأحياء والجادات والأزقة، عُرفت على التتابع من ساحة المرجة وسوق التبن وخان الباشا وجادة القبارين وجادة الحواصل وجادة مسجد الأقصاب وجادة بستان الباشا الأول، وتمَّ ربط الشارع وساحة المرجة بخطّ الترام عام 1921.
اعتمد المشروع على مخطط المهندس المعماري الفرنسي إيكوشار عام 1968 الذي وضع مخططًا لمدينة دمشق، إذ رأى فيه أن ما يستحق الحماية من المدينة القديمة هو فقط المساحة الممتدة داخل السور الروماني، مع تجاهل المعالم التاريخية للمدينة خارج السور، والتي توسّعت في عهود المماليك والسلاجقة والأيوبيين والعثمانيين.
وقد ذهب هذا المخطط التنظيمي رقم 440 المعلن بتاريخ 25 فبراير/ شباط 2007 إلى إزالة سوق ساروجة الذي يعتبر امتدادًا للمدينة القديمة خارج السور، واستبداله بمنطقة تجارية متعددة الطوابق، إضافة إلى إخلاء وهدم منطقة سوق الهال القديم، وحتى جامع المعلق قبل سوق النحاسين، وجزء من الطريق الذي يستمر من منطقة جامع المعلق حتى ساحة باب توما، وبتر أقدم أسواق دمشق (سوق المناخلية والحدادين وسوق العمارة)، وجميعها تتصل روحيًّا مع أبواب دمشق (باب الفرج والفراديس والسلام).
وبدأ تنفيذ المشروع عام 2006، عبر هدم السوق العتيق وميتم سيد قريش العائد للعهد المملوكي، قبل أن يتوقف.
وبعثت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والتقانة كتابًا حمل الرقم 31/1/313/74 إلى وزارة الثقافة عام 2007، تقول فيه: “إن حماية مواقع التراث العالمي بدمشق لا تقتصر على المدينة داخل السور، وإنما تمتدّ إلى مجموع المنطقة المجاورة، وسواء أكان مشروع الطريق (في شارع الملك فيصل) خارج الأسوار أو داخلها، فلا يمكن إطلاقًا تجنُّب تأثيره الكبير على المدينة القديمة، ما يؤثر على قيمتها كتراث”.
في حديثه لـ”نون بوست”، توقّع الكاتب والباحث الأثري، سعد فنصة، أنه بعد حريق ساروجة ستتوجّه الأنظار الإيرانية -برعاية ذراعها الأبرز أسماء الأسد، جامعة الأموال لهذه المشاريع بعد إزاحة رجل الأعمال المقرّب من النظام رامي مخلوف- إلى شارع الملك فيصل ذي الأهمية الكبيرة لدى إيران.
إذ يفصل الشارع بين حي العمارة البرانية والجوانية، وبين شارع الثورة والعمارة وصولًا إلى القصاع، مضيفًا أن مشروعَي تدمير ساروجة وشارع الملك فيصل وغيرهما يهدف إلى بناء سياج معماري وبشري حول المراقد والمزارات، كما حصل في السيدة زينب جنوب دمشق.
ولفت فنصة الذي عمل لفترة تقارب 30 عامًا في المجال الأثري، إضافة إلى عمله مديرًا لقسم التصوير العلمي للآثار السورية بالمديرية العامة الآثار والمتاحف، إلى أن مشروع شارع الملك فيصل مشروع قديم، كانت إيران تخطط له قبل اندلاع الثورة السورية برعاية سفارتها في دمشق، لتدمير الشارع ومعالمه القديمة وإحلال مشاريع اقتصادية حديثة ربحية يشرف عليها حيتان البلدَين.
أما الآن، وبعد اندلاع الثورة، فإن إيران صار هدفها في دمشق القديمة وما حولها هو تغيير معالم دمشق القديمة، وتحويلها إلى مجموعة مراقد ومزارات لتكريس السردية الدينية الطائفية لديها.
وقدم فنصة لـ”نون بوست” محضر اجتماع لمجلس الآثار والاستشاريين التابع لنظام الأسد، يشير إلى موافقة المجلس الأعلى للآثار بجلسته بتاريخ 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006 على هدم السوق العتيق في منطقة تنظيم غرب الهال وشرق المرجة، لعدم وجود قيمة أثرية ذات أهمية فيه، إضافة إلى هدم ميتم سيد قريش في المنطقة المذكورة، كونه لا يملك قيمة تاريخية، مقابل تعهُّد محافظة دمشق بتقديم أرض لبناء قصر ثقافي ومتحف لمدينة دمشق.
ودعا فنصة في ختام حديثه إلى تفعيل اتفاقية لاهاي لجرائم تغيير معالم المدن والهوية الثقافية للدول الواقعة تحت الاحتلال، فـ”سوريا واقعة تحت عدة احتلالات، أخطرها الاحتلال الإيراني الذي يدمّر هويتها الوطنية وفي مقدمتها العاصمة دمشق”، حسب فنصة.
ويبدو أن التغيير الديموغرافي الذي تنتهج إيران في دمشق خصوصًا يأخذ منحيين، الأول في التخلُّص من الأهالي الأصليين، والثاني عبر تبديل النمط المعماري، وبذلك يتمّ طمس معالم المدينة كليًّا، وسط صمّ المجتمع الدولي أذنَيه عن سماع المناشدات الحثيثة بضرورة الحفاظ على التراث السوري والإرث الحضاري الدمشقي خصوصًا.
إذ تقع مسؤولية حمايته في الحالة السورية المعقّدة على عاتق منظمة اليونسكو، التي يظهر واضحًا أنها تغضّ الطرف عن ممارسات نظام الأسد وإيران بتغيير ملامح دمشق، في الوقت الذي لا يُسمع صوتها بضرورة الحفاظ على التراث الحضاري والهوية الوطنية إلا في المناطق الخارجة عن سيطرة حكومة النظام.