يعاني الطفل أحمد كابي ذو العامين ونصف من آلام شديدة رغم متابعته العلاج الدوري للمرض، فهو أحد المحظوظين الذين وجدوا فرصة لتلقي العلاج في المشفى الوطني في إدلب، كون مرضه بحسب ما أوضح الطبيب لوالده، مصعب كابي، لا يحتاج السفر إلى تركيا لتلقي العلاج، إنما يمكن معالجته في الشمال السوري، حيث تتوفر بعض الأدوية العلاجية المجانية، وأخرى غير مجانية يضطر إلى شرائها.
يخضع الطفل الذي ينحدر من قرية تلعادة بريف إدلب، للعلاج بالأدوية الكيمياوية في مشفى المحافظة، شمال غربي سوريا، منذ لحظة اكتشاف إصابة جسده الصغير بمرض سرطان الدم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
قال والد المريض أحمد، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “كان المرض في بدايته عندما أوضح لي الطبيب بأنه يمكن علاجه في الشمال السوري، لكن عندما تأزّمت حالته بدأ يحتاج إلى جرعات مضاعفة للعلاج وغير متوفرة في المشفى، ونحتاج إلى شرائها بمبالغ مادية باهظه لاستمرار العلاج، وباتت مرهقة لأن ظروفنا المادية لا تسمح”.
وأضاف أن ابنه يعاني من آلام حادة، وتعرّض لالتهاب في الرئة قبل أسابيع قليلة، ما دفعه لشراء الأدوية لتلافي المرض، وبلغ ثمن الحقنة الواحدة التي كررها حتى شفائه 45 دولارًا، كما يدفع بشكل دوري ثمن بعض أنواع الجرعات التي لا تتوفر في المشفى ويتراوح ثمنها بين 10 و50 دولارًا.
أوضح كذلك أن تكاليف السفر والتنقل بين المشفى الذي يعالج فيه والمنزل وتكاليف العلاج، تسبّبت في تراكم الديون عليه، بمقدار يتجاوز الـ 3 آلاف دولار، علمًا أنه لا يستطيع سداد الدين في ظلّ انشغاله بعلاج الطفل، ويتمنى الحصول على كفالة لابنه لتلقّي العلاج في تركيا.
يعاني مرضى السرطان في مناطق شمال غربي سوريا من آلام شديدة، في ظل غياب المراكز العلاجية لبعض الأمراض السرطانية، وعدم قدرتهم على تلقي العلاج في الأراضي التركية، بعدما أوقفت السلطات التركية استقبال الحالات الجديدة التي تم تشخيصها مؤخرًا.
أنقذوا مرضى السرطان
جدد ناشطون وعاملون في القطاع الصحي الحشد لتوفير العلاج لمرضى السرطان في مناطق شمال غربي سوريا، ضمن حملة “أنقذوا مرضى السرطان“، عقب كارثة زلزال 6 فبراير/ شباط الذي تسبّب في إيقاف دخول مرضى السرطان إلى الأراضي التركية، نتيجة تضرر البنية التحتية للمراكز الصحية والمرافق العامة في ولاية هاتاي.
سعود صياح، ناشط ومسؤول في الحملة، قال لـ”نون بوست”: “تهدف الحملة إلى إدخال الحالات التي شُخّصت إصابتها بأحد أنواع السرطان بعد الزلزال، ويبلغ عددها حاليًا أكثر من 608 إصابات تنتظر التحويل إلى تركيا، لكن السلطات التركية لم تسمح لهم بدخول أراضيها، حيث اقتصر الدخول على المصابين قبل فترة الزلزال”.
وأضاف: “إن مرضى السرطان بحاجة للعلاج لأنهم يحاربون الوقت، في ظل ارتفاع أعدادهم وتفاقم حالتهم المرضية نتيجة عدم تلقيهم العلاج بالوقت المناسب، ونحن أمام كارثة متفاقمة لأن حياة مئات الأشخاص على المحك، في ظل غياب الإمكانات الطبية اللازمة في مناطق شمالي غربي سوريا”.
استأنفت السلطات التركية مطلع يونيو/ حزيران استقبال مرضى السرطان الذين يحملون الكمليك (بطاقة الحماية المؤقتة المخصصة للاجئين في تركيا)، لمتابعة علاجهم في المشافي التركية، ويعتبَرون ممّن كانوا يتلقون العلاج قبل وقوع كارثة الزلزال، ولا تزال قيودهم وتحاليلهم الطبية في المشافي، بينما لم تسمح بدخول المرضى الجدد الذين لم يسبق لهم دخول الأراضي التركية ولا يحملون بطاقة الكمليك.
وأوضح مدير التنسيق الطبّي في معبر باب الهوى الحدودي، الطبيب بشير الإسماعيل، لـ”نون بوست”، أن الزلزال تسبّب في تضرر القطاع الصحي في ولاية هاتاي والجنوب التركي، وسياسة التعامل النظام الإداري الجديد لتركيا غير واضح، ما تسبّب في تعثر دخول المرضى، وقال كذلك إن “مكتب التنسيق الطبي سجّل نحو 900 مريض منذ مايو/ أيار الماضي، بينهم 300 حالة من المرضى القدامى، دخل 250 مريضًا منهم الأراضي التركية، بينما 600 حالة إضافية تحتاج التحويل إلى تركيا، وننتظر الجانب التركي لإدخالهم”.
المرضى يصارعون الموت
يزيد عدد مرضى السرطان في مناطق شمالي غربي سوريا عن 3 آلاف مريض مسجّل لدى الجهات الطبية، وتشكّل نسبة الأطفال والنساء 65% منهم، ويعيشون في ظروف المرض الصعبة دون قدرتهم على تلقّي العلاج.
من بينهم خالدية الدرويش (63 عامًا)، التي فقدت الأمل في متابعة علاجها في تلقي الجرعات المناعية بالمشافي التركية، بعد عودتها إلى سوريا جراء كارثة الزلزال التي ضربت شمالي سوريا وجنوب تركيا في فبراير/ شباط الماضي.
تعاني السيدة من إصابتها بمرض السرطان في الأمعاء الغليظة، وتواجه آلامًا شديدة في ظل مضاعفات المرض المستمرة وحاجتها الضرورية للمتابعة الصحية، إذ تحتاج كل 15 يومًا جرعة مناعية يبلغ سعرها 700 دولار.
رغم امتلاكها بطاقة الحماية المؤقتة (الكمليك)، فإنها غير قادرة على الذهاب إلى تركيا لمتابعة العلاج، لأن السلطات التركية ترفض وجود مرافق يعينها خلال رحلتها العلاجية، حسب ما أوضح ابنها سائر مراد من قرية كفر شلايا في منطقة جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي.
قال مراد خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن السلطات التركية تمنع وجود مرافقين مع المريض، ولا يمكن إرسال والدتي المريضة لوحدها بعدما غادر أقاربنا من ولاية هاتاي بعد كارثة الزلزال، لذلك هي بحاجة إلى شخص يرافقها ويعينها في رحلة العلاج، لأنها لا تستطيع الحركة لمدة 48 ساعة بعد تلقي الجرعة”.
وأضاف: “لا تقتصر المشكلة على دخول الأراضي التركية، لأن المريض لا يبقى في المشفى ويحتاج إلى الإقامة في منزل قريب لمتابعة العلاج بشكل دوري، وهذا صعب بعد ارتفاع كلفة الإيجارات والمواصلات في تركيا، وصعوبة توفير عمل لتغطية كل ذلك، كون قدرته المادية ضعيفة”.
وأوضح أن الجرعة المناعية التي تحتاجها والدته غير متوفرة في سوريا، ويحصل عليها من تركيا، وتحتاجها كل 15 يومًا، ويحاول تأمينها بكل إمكاناته لأنها تصارع الموت في كل دقيقة من شدة الآلام، وهو غير قادر على فعل شيء.
“بدعي لربي يشفيني أو يموتني“.. سيدة سورية مصابة بمرض السرطان تروي حكاية وجعها في ظل انعدام وجود أي مركز متخصص بعلاج مرضى السرطان في الشمال السوري.#انقذوا_مرضى_السرطان pic.twitter.com/m5OOIRUgMe
— نون بوست (@NoonPost) July 18, 2023
لا يختلف حال هؤلاء المرضى عن باقي المصابين بمرض السرطان، الذين يعيشون بين الحياة والموت في ظل اشتداد الآلام وغياب سبل العلاج، حسب ما أوضح والد أحد المرضى عندما تواصل معه “نون بوست” عبر تطبيق “واتساب”، معتذرًا عن الرد كون ابنه المريض تعرّض لبتر في قدمه، نتيجة إيقاف استقبال المرضى من قبل السلطات التركية.
بدوره، قال الإخصائي في أمراض الدم والأورام الطبيب جميل الدبل لـ”نون بوست”: “إن تحديد كلفة الأدوية العلاجية لمرضى السرطان صعبة، لأنها ترتبط بتشخيص الحالة والاحتياج، فالأورام البسيطة بين 50 و100 دولار، بينما الأورام التي تحتاج إلى جرعات باهظة الثمن يصل سعرها إلى حدود 5 آلاف دولار”.
وحذّر الطبيب من استمرار إغلاق المعبر، كون الحالات الحرجة بحاجة ماسّة لتلقي العلاج، كونها تصارع الموت، ويسبّب تأخر مواعيد العلاج الدورية التي يفترض حصول المرضى عليها، في فقدان الكثير من الأشخاص لحياتهم، نتيجة عدم قدرتهم على الالتزام بالفترات العلاجية التي لا بدَّ من متابعتها للقضاء على المرض.
غياب مراكز علاج مرضى السرطان
يفتقر الشمال السوري لمراكز علاج أمراض السرطان، في وقت تعلم بعض المراكز بإمكاناتها المتاحة، ما يضطر المرضى إلى طرق باب المعابر التركية للسماح لهم في الدخول لتلقي العلاج، لكن فترة الانتظار تطول لأشهر، ما يفاقم الحالة الصحية للمريض التي قد تنتهي إلى الوفاة.
يوجد في مناطق شمالي غربي سوريا مركزان رئيسيان لعلاج مرضى السرطان، بينهما مشفى المحافظة في إدلب أنشأته منظمة Sams عام 2018، ويقدم العلاج الكيمياوي والجراحي، لكنه لا يقدم العلاج الإشعاعي، وكان يعالج سرطان الثدي والقولون فقط.
وتوسّع لاحقًا ليشمل 6 أنواع من الأورام السرطانية، مثل سرطان الثدي وسرطان القولون وسرطان الخصية وسرطان المبيض، وHodgkin’s lymphoma وNon-Hodgkin Lymphoma، ويعالج باقي الأنواع في حال توفر الأدوية، سواء من التبرعات أو التي يؤمنها المريض، مثل سرطانات الرئة والبروستات والمعدة والمستقيم.
كما يوجد مركز في المشفى الوطني بإدلب يتبع لمديرية الصحة في إدلب، إضافة إلى مركز في مشفى باب الهوى وفي مدينة الباب بريف حلب الشرقي، يتبعان لمنظمة Sams.
أوضح الطبيب أن مراكز علاج مرضى السرطان في شمال غربي سوريا لا تستطيع معالجة بعض الأمراض السرطانية التي تحتاج إلى علاج إشعاعي، ووسائل تشخيصية مثل جهاز Flow cytometry المخصص لتشخيص سرطانات الدم الحادة، ويكون المصابون ضمن الحالات الحرجة.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن أعداد المرضى في تزايد مضطرد، حيث يسجّل يوميًّا في مشفى المحافظة تشخيص 3 حالات مصابة بمرض السرطان، ويعتبر العدد طبيعي في ظل التعداد السكاني الهائل”. مشيرًا إلى انتشار بعض الأورام غير الشائعة، مثل أورام الغدة الدرقية وكيمياء الدم الحادة والرئة، وأسبابها الحرب والطعام غير الصحي والمواد الحافظة.
أضاف أيضًا أن الشمال الغربي من سوريا يحتاج إلى مركز لعلاج كافة الأمراض السرطانية، لا سيما أجهزة العلاج الإشعاعي وأجهزة التشخيص، ومعدّات لوجستية وأدوية وحاجات مادية، إضافة إلى كوادر طبية متخصصة في هذا المجال لعلاج مرضى السرطان.
يتفق مسؤول الإعلام في صحة إدلب مع الطبيب في قوله، حيث عملَ مشفى المحافظة والمشفى الوطني على تقديم العلاج الكيمياوي بالإمكانات المتوفرة لبعض الأنواع من الأمراض، لكن الحالات الحرجة تحتاج إلى تجاوب السلطات التركية لإدخال المرضى لتلقي العلاج في المشافي التركية، لأنه لا بديل آخر يمكنه إسعاف الحالات الحرجة، ولا بدَّ من إيجاد حلول أخرى من خلال تجهيز مراكز لعلاج كافة الأمراض السرطانية.
يبقى دخول الأراضي التركية لتلقي العلاج الأمل الوحيد أمام مرضى السرطان في مناطق شمالي غربي سوريا، رغم مشاق الفترة العلاجية التي تفوق طاقة المرضى وذويهم، وفي ظلّ التقاعس الدولي عن إيجاد الحلول الحقيقية وتهيئة المراكز العلاجية لاستقبال كافة الأمراض السرطانية، التي تهدد حياة المئات من السوريين الذين ذاقوا ويلات الحرب وتداعياتها.