استأنف الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، اللذان يتقاتلان دون هوادة منذ 15 أبريل/ نيسان الفائت، التفاوض غير المباشر بوساطة من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية التي تستضيف المباحثات في مدينة جدة الساحلية.
ويأتي استئناف التفاوض بعد تحركات قوى سياسية ودول إقليمية وضغوط دولية في اتجاه إنهاء النزاع الشرس سلميًّا، ما دفع الجيش والدعم السريع إلى إبداء رغبتهما في ابتدار عملية سياسية توقف الحرب وتفضي إلى حكومة مدنية، لكن السؤال: هل هذه الرغبة عن قناعة أم محاولة لشراء الوقت بغرض التقاط الأنفاس؟
الانتقال من الحرب إلى التفاوض
توقّع مستشار قائد قوات الدعم السريع، مصطفى محمد إبراهيم، التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار وبدء العملية السياسية الشاملة قبل نهاية يوليو/ تموز الحالي، مشيرًا إلى أن الجيش أبدى استعداده للمفاوضات المباشرة مع الدعم السريع.
وقال نائب قائد الجيش، الجنرال شمس الدين كباشي، إن القوات المسلحة منفتحة على كل المبادرات الرامية لوقف الحرب، بشرط المحافظة على السيادة الوطنية ومؤسسات الدولة، مشددًا على أنهم يدعمون الحوار السياسي الموسّع والشامل، المفضي إلى حكومة مدنية تقود البلاد خلال فترة انتقال يعقبها إجراء انتخابات حرة.
الحل السياسي لإنهاء الحرب ليس نزهة ولن يكون ميسورًا، بعد أن زادت الحرب من تعقيد القضايا التي تواجه السودان.
وكان الجيش متشددًا في ضرورة القضاء على قوات الدعم السريع عسكريًّا، لكن وبعد أن دخل النزاع شهره الرابع، اتّضح أن هذا غير ممكن على الأقل في وقت وجيز، وهذا الأمر بجانب الضغوط الرامية لوقف الحرب دفعت الجيش إلى تغيير موقفه الرافض للحوار.
وتتمثّل الضغوط في تحركات خارجية قادتها قوى سياسية مؤيدة للديمقراطية في أوغندا وإثيوبيا وتشاد والمملكة العربية السعودية، إضافة إلى قمة دول جوار السودان التي انعقدت في مصر، علاوة على تحركات الهيئة الحكومية المعنية بالتنمية “إيقاد”، وهي منظمة شبه إقليمية طرحت خارطة طريق لإنهاء الحرب.
وتتفق جميع هذه الضغوط على ضرورة وقف النزاع قبل أن يخرج عن السيطرة، بعد الانقسام الأهلي الحاد في السودان والمتمثل في تسابق قادة القبائل لدعم الجيش أو الدعم السريع، وبدء القوات المسلحة عمليات تجنيد واسعة للمدنيين في الولايات بصورة طوعية.
ويرافق الانقسام الأهلي حالة من الغبن الاجتماعي، جراء فقدان ملايين الأشخاص أعمالهم ووظائفهم وممتلكاتهم، كما دفع القتال 3.3 ملايين شخص إلى الفرار من منازلهم بحثًا عن الأمان، كثير منهم يعيش في ظل أوضاع إنسانية سيّئة للغاية.
أجندة التفاوض
تحدّث الجيش عن دعمه لعملية حوار سياسي شامل يفضي إلى حكومة مدنية، وهو الأمر ذاته الذي تتمسّك به قوات الدعم السريع، دون أن يوضّحا أطراف العملية السياسية والقضايا التي ستناقش.
ويعدّ قبول الجيش والدعم السريع بالحل السياسي خطوة ضرورية، لكنها غير كافية لإحداث تحول حقيقي حيال إنهاء الحرب، في ظل استمرار المعارك وتعقُّد الأوضاع في السودان، حيث يتطلب الأمر تحديد ممرات آمنة لتقديم المساعدات الإنسانية، يتبعها إبعاد القوات عن المنازل والأحياء السكنية والأعيان المدنية، قبل بدء التفاوض الذي يُمكن أن يمتدّ إلى سنة على الأقل.
يؤكد تاريخ قادة الجيش والدعم السريع على أنهم يتلاعبون بالوقت لتحقيق طموح الانفراد بالحكم، بدليل حشدهم للحرب بالتزامن مع وصول عملية سياسية خاصة بتسليم السلطة للمدنيين إلى نهايتها.
ولا يمكن لأيّ متابع توقع مدى زمني يستطيع فيه طرفا الحرب توقيع اتفاق مبادئ يتضمّن وقف إطلاق نار دائم، ناهيك عن التحاور في ترتيبات الشؤون العسكرية وكيفية تشكيل حكومة مدنية، نظرًا إلى توسع نطاق الاستقطاب الأهلي وانتشار خطاب الكراهية، ما يهدّد بتقويض الجهود السلمية حال تطاول أمدها.
ومن يتفحّص تاريخ المفاوضات التي أجرتها الحكومات السودانية المتعاقبة مع الحركات المتمردة، يجد أنها تستغرق زمنًا طويلًا قبل توقيع اتفاق سلام، وهذه المرة لن يكون تفاوضًا بين حكومة وتمرد إنما بين قوتَين عسكريتَين معترف بهما قانونيًّا وسياسيًّا، ومع التعقيدات الجديدة المصاحبة للحرب الحالية يتوقع أن يطول المدى الزمني قبل إبرام اتفاق ينهي الحرب نهائيًّا.
ويؤكد القيادي في الحرية والتغيير، خالد عمر يوسف، على أن الحل السياسي لإنهاء الحرب ليس نزهة ولن يكون ميسورًا، بعد أن زادت الحرب من تعقيد القضايا التي تواجه السودان، ويتطلب أن يجاوَب على هذه الأسئلة:
– كيف يمكن إنهاء وضعية تعدد الجيوش والوصول لجيش واحد مهني وقومي ينأى كليًّا عن السياسة، ولا يسمح فيه بأي تواجد حزبي لجهة، ويعبّر عن تعدد وتنوع السودان، ويحتكر العنف الشرعي ولا يسمح ولا يقوم بإنشاء أو تسليح أي جهات أخرى خارجة على أي أساس من الأسُس، ويخضع للسلطة المدنية وحكم القانون وحقوق الإنسان؟
– كيف يمكن تأسيس نموذج شامل للعدالة ينصف ضحايا الجرائم التي اُرتكبت ضد مواطني ومواطنات هذه البلاد في عقود متعددة، وآخرها حرب 15 أبريل/ نيسان؟ وكيف يمكن محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا وجبر الضرر عن كل ما أصاب الناس من مكروه مادي أو معنوي؟
– كيف يمكن التوافق حول قواعد للتداول السلمي للسلطة دون هيمنة أو إقصاء؟ والتراضي على قواعد دستورية تؤسّس لحكم مدني ديمقراطي مستدام؟
– كيف يمكن إدارة العلاقة بين المركز والأقاليم بصورة عادلة، تنهي كافة أشكال التهميش التي ضرّت ببلادنا وضاعفت من المظالم وراكمتها منذ الاستقلال وحتى الآن؟
– كيف يمكن إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، واتّباع سياسات اقتصادية تشجّع الإنتاج وتوفر الرعاية والحماية للناس بصورة منصفة وعادلة؟
– كيف يمكن إعادة بناء مؤسسات الدولة بطريقة تضمن تحريرها من قبضة أي حزب أو جهة، وتجعل منها فعّالة ومنصفة وتعبّر عن تنوع البلاد وتعددها؟
هل الطرفان على قناعة بالحل السياسي؟
يتوقع أن تشكّل الأسئلة التي آثارها خالد عمر يوسف أجندة التفاوض والعملية السياسية، لأنها تشمل الترتيبات الأمنية وقواعد انتقال السلطة وتزيل الغبن الاجتماعي، شريطة أن ينفَّذ ما جرى التوافق عليه.
ويرجّح أن تصرَّ قوات الدعم السريع في العملية السياسية على تأمين مستقبل قادتها العسكري والسياسي، ما يمكن أن يثير خلافات بين أطراف العملية لعدم امتلاكها شرعية العفو عن الجرائم التي ارتكبتها بحقّ المدنيين، والتي من بينها القتل والإخفاء القسري والعنف الجنسي المتصل بالنزاع واحتلال المنازل.
ويؤكد تاريخ قادة الجيش والدعم السريع أنهم يتلاعبون بالوقت لتحقيق طموح الانفراد بالحكم، بدليل حشدهم للحرب بالتزامن مع وصول عملية سياسية خاصة بتسليم السلطة للمدنيين إلى نهايتها، لتؤدي خلافات تتعلق بالمدى الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش إلى نزاع بدأ يقوّض قدرة الدولة على البقاء.
وعادة، يتنصّل الطرفان من تعهداتهما، بما ذلك الالتزام بحماية الانتقال، لكنهما نفّذا سويًّا انقلابًا عسكريًّا على حكومته في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وقمعا بعنف احتجاجات سلمية رافضة سيطرتهما على حكم البلاد، لذا إن التزامهما الحالي بوقف الحرب لا يمكن النظر إليه دون ريبة.
وعلى الأرجح، يستغل الجيش وقوات الدعم السريع الزخم الداعي إلى إنهاء النزاع لتوقيع اتفاق سلام، يمكّنهما من حشد مزيد من القوات والعتاد الحربي، لشنّ قتال جديد حال لم تمضِ صفقة السلام على هواهما.
أيضًا، تظلّ مسألة الحكم نقطة خلاف رئيسية، فهما يقولان إن رغبتهما في العملية السياسية تشكيل حكومة مدنية، لكن الحركة الاحتجاجية والقوى السياسية المطالبة بالديمقراطية تنادي بسلطة مدنية يخضع إليها العسكر بصورة كاملة، مع ابتعادهم عن الشأن السياسي والاقتصاد.
ويمتلك الجيش وقوات الدعم السريع شركات ضخمة تعمل في مجالات مدنية حيوية، مثل التنقيب عن الذهب وتصنيع الأدوات الكهربائية وطحن القمح وتصدير الماشية واللحوم والمحاصيل الزراعية، دون أن يمتلكا أدنى استعداد للتخلي عنها، نظرًا إلى أنها توفر أموالًا كافية لشراء أدوات العنف.
كل هذه الأمور تصعّب من جدّية الطرفَين في إنهاء الحرب سلميًّا، خاصة أن السلاح بات يتيح لحامله تقاسم السلطة مع الآخرين، وعبره يخلق مصالح اقتصادية وأهلية مترابطة، تمنحه مع الاحتفاظ بالسلاح فرصة للبقاء أطول فترة ممكنة.
والأهم من ذلك، لا توجد قوة تدفع الجيش والدعم السريع لوقف الحرب، إذ إن الحرب أنهت نشاط الحركة الاحتجاجية التي كانت أكبر وسيلة ضغط على الطرفَين، ما يعني أن إنهاء النزاع في السودان يتطلب معجزة.
في نهاية المطاف، من الصعب الوثوق في جدّية قبول طرفَين بالحل السلمي بعد أن كان أمامهما، ففضّلا حلّ خلافاتهما بالقوة العسكرية.