بالنظر إلى طبيعة المكانة التي يمثلها الإسلام السنّي في المنطقة العربية، تشكّل مصر وتركيا والسعودية (بمكانتها الروحية) محاور ارتكاز أساسية، لذا بمجرد حسم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للانتخابات العامة (14 و28 مايو/ أيار الماضي)، كان السؤال المطروح ما الدولة التي سيستهلّ بها زياراته الخارجية خلال الفترة الرئاسية الجديدة؟
ولأن موعد الزيارة التاريخية التي سيقوم بها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لتركيا قد حُسم في 27 من يوليو/ تموز الجاري، حيث يقوم فريقا البروتوكول الرئاسي (التركي والمصري) حاليًّا بوضع جدول أعمالها، فقد كانت السعودية الوجهة الأولى لأردوغان، ليس فقط لأبعاد اقتصادية كما تركز معظم التغطيات والتحليلات، لكن تتعدد الأهداف بحكم ما شهدته الـ 9 سنوات الماضية من علاقات شابها الشد والجذب بين البلدَين، قبل يوم 28 أبريل/ نيسان 2022 الذي زار فيه أردوغان السعودية.
وانحازت تركيا والسعودية لتعزيز العلاقات ومدّ الجسور على حساب استمرار الخلافات، بحكم الكثير من المشتركات بين الدولتَين، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة (العضوية في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”، العضوية في التحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب الذي أسّسته السعودية قبل 8 سنوات بمشاركة 41 دولة، وعضوية مجموعة الـ 20)، وكلها عوامل تزيد من مساحة التقارب بين أنقرة والرياض.
ومنذ حطّت طائرة أردوغان غرب المملكة، تحديدًا في محافظة جدة (المحطة الأولى للزيارة وحتى مغادرته للمملكة)، ظهر الاحتفاء السعودي بضيف المملكة الكبير، حيث تزيّنت شوارع في المدينة بأعلام البلدَين، تعبيرًا عن العلاقات القوية بين تركيا والمملكة، خاصة على المستوى الدبلوماسي منذ عام 1929 (تاريخ توقيع اتفاقية الصداقة والتعاون بين الدولتَين)، قبل أن تعمّق زيارة الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود (الملك الراحل) لتركيا، بعد التاريخ المذكور بـ 4 سنوات، ثم زيارته لها ملكًا عام 1966، ثم زيارة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز لتركيا صيف عام 2006.
وشهد عهد الملك سلمان بن عبد العزيز تقاربًا غير مسبوق في العلاقات السعودية التركية، تحديدًا خلال العامَين 2015 و2016 (5 قمم بين الرئيس أردوغان والملك سلمان، الذي زار تركيا في أبريل/ نيسان 2016، ومُنح وسام الجمهورية الأعلى في تركيا)، فضلًا عن حجم ما قامت به اللجان (العسكرية والأمنية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والصناعية والتجارية والإعلامية والثقافية، تحت مجلس التنسيق التركي السعودي منذ عام 2017) من جهود تكشف عن الجسور الممتدة بين البلدَين على كل الأصعدة.
لكن يبدو أن التقارب والتنسيق المشترَك بين تركيا والرياض تعرّضا (إذا صحّ التعبير) لـ”الحسد السياسي-الدبلوماسي”، إذ شهدت السنوات الخمس اللاحقة تطورات درامية بين البلدَين (تزامنت مع الخلافات القطرية مع الرباعي العربي: السعودية ومصر والإمارات والبحرين، التي حاول أردوغان التوسط فيها رغبة في حلحلتها)، قبل أن تعود المياه إلى مجاريها في 28 أبريل/ نيسان 2022، بعدما وجّه الملك سلمان بن عبد العزيز دعوة لأردوغان لزيارة السعودية.
وجاءت الإشارات الإيجابية على عودة العلاقات التركية السعودية بعد إجراء أردوغان اتصالًا هاتفيًّا مع الملك سلمان بن عبد العزيز، في إطار قمة مجموعة الـ 20 عام 2021، وكان ذلك الاتصال أول تواصل رفيع المستوى منذ تردي العلاقات بين البلدَين (2018- 2021).
هذا قبل أن تشكّل زيارة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، إلى تركيا، صيف عام 2021، منعطفًا كبيرًا في العلاقات بين البلدَين، وسط رغبة في الاستفادة من المكاسب المترتّبة على مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، والتنافس الاقتصادي الإقليمي.
الأمير والرئيس
ولفهم طبيعة التلاقي بين أردوغان والمملكة، ينبغي الوقوف أمام تعدد الأوامر والتوجيهات والتحركات (داخليًّا وخارجيًّا)، منذ اختيار الأمير محمد بن سلمان وليًّا للعهد (21 يونيو/ حزيران 2017) من قبل “هيئة البيعة” (أسّسها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2006، حفاظًا على عملية الانتقال السلس للحكم)، عبر الاعتماد على جيل جديد من التكنوقراط، مع دمج وزارات وإلغاء هيئات وأجهزة، وإطلاق مراحل خطة التحول الوطني، كجزء من “رؤية المملكة 2030”.
وتفسيرًا لتوجهاته، يقول الأمير محمد بن سلمان وفق حديث لمجلة “تايم”: “الآن نحن في عهد الدولة السعودية الثالثة، ولم نستغل سوى 10% من قدراتنا، وخططنا ورؤيتنا تتمحور حول الـ 90% المفقودة (…) ولا بدَّ من إحداث تغيير جذري في الجهاز البيروقراطي الذي أحبط إصلاحات سابقة في المملكة”.
خطط السعودية تتصدى (كما هو واضح من التصريحات الرسمية) لـ”تحدي التيار المحافظ الذي كان يتمتع بنفوذ قوي”، يقول الأمير محمد بن سلمان: “الإسلام مُنفتح، وليس مثل ما يحاول المتطرفون إظهاره منذ عام 1979، بعدما اختطفوا الإسلام. لدينا في السعودية طائفتين، سنّية وشيعية، ولدينا 4 مدارس فكرية سنّية، كما أن لدينا مدراس فكرية شيعية كثيرة، نعيش جميعًا حياة طبيعية، وقوانيننا مشتقة من القرآن وممارسات النبي عليه السلام، ولدينا رغبة في البناء والتنمية”.
وكما أن السعودية لديها طموحاتها التنموية والسياسية، فإن الرئيس التركي وحكومته الجديدة لديهما طموحات واضحة خلال هذه الفترة التاريخية (نهاية القرن الأول من عمر الجمهورية التركية، وبداية القرن الجديد في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل)، التي تمثل تحديًا جديدًا في عدة ملفات (حسم صراع الهوية، وتعزيز ما يطلق عليه أردوغان “العلمانية المحايدة”، عبر الجمع بين القومية التركية والديمقراطية المحافظة والمشروع الإسلامي، ويمثل فيها الدين أحد مظاهر الحريات العامة، دون التحكم في إدارة سياسات الدولة).
وتتعدد القضايا والملفات التي تواجه دوائر صنع القرار في تركيا خلال الفترة المقبلة (إعادة التموضع الإقليمي في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والعالم العربي، وفق معطيات جديدة تعتمد على التقارب لا التنافر، والتعامل مع تداعيات كارثة الزلزال -تصدّرت السعودية قائمة المانحين- والحرب الروسية الأوكرانية، ومدّ الجسور مع حلفاء جدد لمواجهة الأزمة الاقتصادية)، و”الاستمرار في محاربة المنظمات الإرهابية داخل وخارج الحدود بشكل أكثر حزمًا”، وفق تأكيدات أردوغان خلال حفل تنصيبه رئيسًا للجمهورية.
وتطويرًا لمصطلح “الجمهورية الثانية” الذي يتبنّاه أردوغان خلال السنوات الماضية، فإن رؤيته للقرن المقبل (قرن تركيا): “المئوية الثانية من عمر الجمهورية ستكون للمستقبل. سنمضي قدمًا في تحقيق أهدافنا من خلال عدة عناوين، داخليًّا وخارجيًّا: الاستدامة، الهدوء، التنمية، القيم، القوة، النجاح، السلام، العلم، صاحب الحق، الفاعلية، الاستقرار، المحبة، الاتصال، الرقمية، الإنتاج، المستقبل).
وقد عبّر الأتراك عن مدى قناعاتهم وانحيازهم لهذه الخيارات، وحدّدوا طبيعة الطريق الذي ستسلكه البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة، بعدما خرج أردوغان منتصرًا (شعبيًّا وبرلمانيًّا ورئاسيًّا) من الانتخابات العامة في البلاد، تأكيدًا على أنه لا يزال يحظى بـ”الصلاحية السياسية”، فضلًا عن تجديد شرعيته الداخلية (وحزب العدالة والتنمية الحاكم)، وأنه رغم طول البقاء في السلطة (21 عامًا)، فإن الأتراك ينتظرون منه تعزيز ما تحقق من مكتسبات.
ولن تتحقق هذه الطموحات بالشكل الكامل، دون إعادة النظر في خريطة التحالفات الخارجية لتركيا، التي شهدت خلال السنوات الماضية محطات شدّ وجذب، انعكست على عدة قطاعات (خاصة الاستثمارات الأجنبية وأسواق التصدير)، وهي إشكالات حاولت عواصم غربية استغلالها خلال الانتخابات الأخيرة، عبر الرهان على المعارضة التركية.
لكن نتائج الاستحقاق دفعت معظم هذه العواصم إلى مراجعة حساباتها، والعودة مجددًا إلى الرهان على أردوغان، بقوته السياسية في الداخل وخبرته في إدارة التناقضات الجيوسياسية إقليميًّا، لا سيما دور تركيا كقناة اتصال بين أطراف الصراع الروسي الأوكراني، منذ بداية الأزمة في فبراير/ شباط 2022.
توافق مستقبلي
خلال لقائهما، اتفق أردوغان ومحمد بن سلمان على فرص تطوير العلاقات في جميع المجالات، لكن المؤكد أن الفترة المقبلة ستشهد إعادة الزخم لمجلس التنسيق التركي-السعودي الذي تأسس عام 2017، ومنتدى الأعمال والاستثمار التركي-السعودي، ومجلس رجال الأعمال السعودي-التركي الذي أنشئ عام 2003، واللجنة السعودية التركية المشتركة؛ كترجمة لاتفاقية التعاون التجاري والاقتصادي والفني بين البلدَين الموقّعة عام 1973، فضلًا عن تنشيط دور الصندوق السعودي للتنمية (يوفر التمويل الميسّر لمشاريع وبرامج تنموية في تركيا).
ويستهدف الدعم التنموي السعودي في تركيا مشاريع نقل الطاقة الكهربائية، وتوفير المياه، وتجديد وكهربة الخطوط الحديدية، وإنشاء وصلات طرق وجسور، ومطارات ودعم مشاريع مستشفيات تعليمية وتطبيقية في جامعات تركية، ومساعدات مالية لقطاعات التعليم، والطاقة، والنقل والتخزين، والصحة، والمياه والإصحاح البيئي، ومواجهة الزلازل والكوارث الطبيعية، والإسكان، والزراعة، والكيماويات، خاصة في ولايات أنقرة وإسطنبول وأنطاليا وكوجالي وسكاريا.
في ختام جولة الرئيس #أردوغان الخليجية.. العلاقات من التطبيع إلى الشراكة الاستراتيجيةhttps://t.co/92fq2EI0A5 pic.twitter.com/iXZLzzGu33
— Anadolu العربية (@aa_arabic) July 20, 2023
هذه التطورات من شأنها تسريع وتيرة التعاون التركي-السعودي، خاصة أن المملكة ضمن أهم 8 شركاء تجاريين لتركيا عالميًّا، حيث تبلغ صادرات السعودية لتركيا 52.280 مليار ريال خلال الـ 3 سنوات الأخيرة، مقابل واردات بقيمة 16.787 مليار ريال خلال المدة نفسها.
وهذا أمر مرشح للزيادة، مع الارتفاع الواضح لأنشطة الشركات التركية (حوالي 400 كيان متعدد الأنشطة) العاملة في المملكة، خاصة في مجالات المقاولات، والصناعة التحويلية، وتجارة الجملة والتجزئة، مقابل أكثر من 1100 شركة مموّلة من السعودية (18 مليار دولار) تعمل في تركيا.
التمدُّد المدروس
سفارة تركيا لدى السعودية (التي يقودها السفير فاتح أولو صوي) واحدة من 253 بعثة أجنبية في جميع أنحاء العالم (بينها 144 سفارة و13 ممثلية دائمة و94 قنصلية عامة ووكالة قنصلية واحدة ومكتب تجاري واحد)، جميعها تشارك أردوغان الطموحات نفسها، عبر هندسة سياسية تحافظ على مصالح تركيا، مع تبنّي سياسة خارجية جديدة وفعّالة.
تعتمد هذه السياسة على الدبلوماسية الوقائية (منع نشوء منازعات بين الأطراف، ومنع تصاعد المنازعات القائمة وتحولها إلى صراعات، ووقف انتشار هذه الصراعات عند وقوعها)، مع القناعة بأن الحد من الخلافات والنزاعات سيسهم بشكل مباشر في تطور تركيا.
وعلى عكس وزير الخارجية السابق، مولود تشاووش أوغلو (الذي كان من صقور السياسية الخارجية)، تعرف الدائرة الضيقة لصنع القرار في تركيا أن وزير الخارجية الجديد، هاكان فيدان، يتوافق مع أردوغان على ضرورة إحداث نقلة نوعية، خصوصًا مع الدول التي تصنَّف في خانة الخصوم والأعداء، مدعومًا برؤية بشبكة علاقاته الإقليمية-الدولية، وحصيلة معلومات وافية عن كل الملفات الشائكة، وأسلوبه قبل تقلده المنصب (إطفاء الحرائق عبر دور دبلوماسي موازٍ، والوساطة الإقليمية المعززة لمصالح تركيا).
بالأرقام.. تعاون اقتصادي ضخم بين #تركيا ودول #الخليج. pic.twitter.com/OR0LOTimgN
— نون بوست (@NoonPost) July 19, 2023
ويتبدّى دور هاكان فيدان في مبادرة تركيا بمدّ الجسور مع السعودية ومصر والإمارات، كون تطوير علاقات الشراكة سيخفض التوتر، ويحلّ الخلافات العالقة، ويصنع حالة يمكنها تحريك المشهد الإقليمي، وبالتالي تتعدد مكاسب كل الأطراف (استراتيجيًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا واقتصاديًّا) التي تنعكس على شعوب دول المنطقة، خاصة وسط صراعات القوى الدولية.
وعند الحديث عن التقارب، فإن العلاقات التركية-السعودية تمثل نقطة ارتكاز في العالم الإسلامي، وهو ما يفسّر اختيار أردوغان للمملكة وجهة أولى لزيارته الخارجية، بعد الانتخابات التاريخية في البلاد.