جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السعودية وقطر والإمارات، كأول زيارة رسمية له لمنطقة الخليج بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية، واللافت في هذه الزيارة قيام الرئيس أردوغان بتقديم سيارة “Togg” تركية الصنع، كهدية لزعماء هذه الدول، في بادرة جديدة تحاول من خلالها تركيا الترويج لصناعاتها الثقيلة في منطقة الخليج، بعد أن نجحت في مناسبات سابقة في احتلال موقع مهم في سوق الصناعات الدفاعية، وتحديدًا على مستوى صنع الطائرات المسيرة، التي أثبتت نجاحًا لافتًا في العديد من ميادين القتال، مثل أذربيجان وليبيا وأوكرانيا.
أعلنت تركيا تصنيع أول سيارة لها بمكونات محلية بنسبة 100% تحت اسم Togg، واختارت أن تكون أول سيارة لها من الفئة الرياضية ذات الاستخدامات العائلية، وتسعى إلى جعلها ماركة عالمية في سوق السيارات الحديثة.
وفيما يتعلق بالزيارة الأخيرة للرئيس أردوغان، فقد حظيت سيارة “Togg” التركية باهتمام بالغ خلال الزيارات التي قام بها إلى الدول الخليجية هذا الأسبوع، بل يمكن القول إنها كانت العنوان الأبرز، في رسالة واضحة من الرئيس أردوغان بشأن الطابع الاقتصادي لهذه الزيارة، خصوصًا مع الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، فما زالت الليرة التركية تواجه انخفاضًا حادًا أمام الدولار، كما أن حجم التضخم آخذ بالازدياد.
فالرئيس أردوغان يدرك جيدًا أن الواقع الداخلي التركي بحاجة إلى حلول اقتصادية عاجلة، وتحديدًا على مستوى رفع حجم التجارة الخارجية وزيادة نسبة الاستثمارات في السوق التركية.
يأمل الرئيس أردوغان بتوسيع العلاقات الاقتصادية مع السعودية والإمارات وقطر، إذ تستحوذ السعودية والإمارات على نسبة كبيرة من قطاع السياحة والمواد الغذائية، في حين تستثمر قطر مئات المليارات في قطاع الصناعات الدفاعية.
فضلًا عن ذلك تشير زيارة الرئيس أروغان إلى إعادة تموضع تركيا على الساحة الإقليمية، خصوصًا بعد التحولات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، سواء على مستوى العلاقات العربية الإيرانية أم على مستوى القضايا الإقليمية، فنجاح الرئيس أردوغان في ترسيخ مكانة تركيا في الإدراك الإستراتيجي الخليجي، سيجعل تركيا تستعيد زخمها الإستراتيجي على مستوى مثلث التوازن بالمنطقة، وتحديدًا مع إيران و”إسرائيل”، نظرًا للخبرة التركية في هذا السياق.
علاقات معقدة وأجندة متعددة
يمكن القول إن العلاقات التركية الخليجية لم تكن على وفاق دائم، إذ تتسم علاقة أنقرة بدول الخليج بالكثير من التعقيد، فقد انتقلت من التنافس إلى الانفراج، ومن الشقاق إلى العودة إلى علاقات أكثر ودية مرة أخرى، وفيما يتعلق بالدول الثلاثة، فهي علاقات مصالح متبادلة مع قطر، وصداقة مالية مع الإمارات، ومتقلبة مع السعودية، وبين هذه المفاهيم الثلاث يرى الرئيس أردوغان أن الوصول لنهايات واضحة مع هذه الدول سيعود بالفائدة الكبيرة على تركيا، التي بحاجة اليوم للأصدقاء أكثر من الأعداء.
فإلى جانب الطابع الاقتصادي الذي طغى على زيارة الرئيس أردوغان لمنطقة الخليج، هناك العديد من القضايا الإقليمية والدولية التي كانت حاضرة على جدول أعماله مع زعماء السعودية والإمارات وقطر، مثل الحرب في أوكرانيا والانفتاح على النظام السوري، والقضايا الأخرى المتعلقة بالشأن اليمني والليبي، إلى جانب الوضع في الأراضي الفلسطينية، وهو ما يؤشر إلى محاولة الرئيس أردوغان إعطاء دفعة قوية للدور التركي، وتحديدًا على مستوى توحيد المواقف الخليجية، فما زالت الدول الخليجية الثلاثة تتبنى مواقف متضاربة من بعض هذه القضايا.
مؤخرًا، فتحت عودة العلاقات التركية الخليجية، وخصوصًا السعودية والإمارات، الباب أمام زيادة الاستثمارات في الاقتصاد التركي، ففي مارس/آذار الماضي، وقّعت الإمارات وتركيا إتفاقية شراكة اقتصادية شاملة تهدف إلى زيادة قيمة التجارة غير النفطية إلى 40 مليار دولار سنويًا في غضون 5 أعوام، وفي عام 2021، جرى تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا، وبلغ إجمالي التجارة غير النفطية بين الإمارات وتركيا ما يقارب 19 مليار دولار عام 2022، بزيادة قدرها 40% عن عام 2021، و112% عن عام 2020، لتصبح تركيا بين أكبر 10 شركاء تجاريين لدولة الإمارات، وفق بيانات إماراتية رسمية.
يدرك الرئيس أردوغان حاجة الدول الخليجية لدور تركيا الإقليمي، بنفس القدر من الأهمية التي ينظر بها للاستثمارات الخليجية، ولذلك يحاول عبر هذه الزيارة خلق حالة من التوازن ما بين الحاجات التركية والرغبات الخليجية، فدول الخليج وعلى الرغم من انفتاحها الأخير على إيران، ما زالت بحاجة لمزيد من التوافق مع الأطراف الأخرى، وتحديدًا تركيا، من أجل تعزيز وتشكيل جبهة إقليمية موحدة ضد إيران، إذ إنه بالوقت الذي نجحت فيه السعودية بتهدئة العلاقات مع إيران، سرعان ما تفجرت أزمة حقل الدرة الغازي بينها وبين إيران فضلًا عن الكويت، إلى جانب ذلك لا زال الصراع الإقليمي على أشده في سوريا، إذ تطمح تركيا لتعضيد دورها في الشأن السوري، عبر مزيد من الدعم الخليجي لموقفها، وتحديدًا في موضوع الحل السياسي وإعادة اللاجئين.
إجمالًا.. يحاول الرئيس أردوغان صياغة نهج جديد في المنطقة، مع الحفاظ على أولويات تركيا السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، كما يسعى لرسم خارطة طريق جديدة، بذات الشكل الذي كان يمارسه في السابق، مع إعطاء الواقعية السياسية هامش واضح في نهجه، لأن الظروف السياسية في المنطقة اليوم، وحتى في الداخل التركي أصبحت معقدة جدًا، فالأولوية للمصالح الوطنية التركية، وهو ما يجعله أمام تحديات كبيرة لإمكانية نجاحه خلال الفترة المقبلة، وعليه فإن أي جديد قد يقدمه الرئيس أردوغان، ستكون له نتائج حاسمة على مستقبل الدور التركي في الشرق الأوسط.