في مايو/ أيار 2013، التقطت عدسات الإعلام صورة أيقونية لقائد الجيش المصري حينها، الجنرال عبد الفتاح السيسي، يصافح رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، في خضمّ زيارة رسمية استمرت لأيام في الأراضي التركية.
لم تكن زيارة السيسي، الذي سيصبح لاحقًا رئيسًا لمصر بعد انقلاب يوليو/ تموز 2013، زيارة عادية، إنما كانت حلقة بارزة في سلسلة من جهود التعاون العسكري التي ساعد مبارك ومرسي، على التوالي، في دفعها بين البلدَين الكبيرَين.
وتبلور ذلك في جدول تلك الزيارة، التي تضمّنت الاتفاق على دعم تركي مالي كبير لمصر بمبلغ 250 مليون دولار لأغراض عسكرية، ومعاينة السيسي، على أرض الواقع، لتطور الصناعات العسكرية التركية في معرض إسطنبول.
البناء على ما فات
في نهايات حقبة مبارك، ومع بشارات الثروات الغازية الكامنة في شرق المتوسط، اتخذ الجيش المصري قرارًا استراتيجيًّا بـ”الحفاظ على التوازن” في تلك المنطقة، فمع العلاقات المصرية الجيدة مع اليونان وقبرص، لم يكن غريبًا آنذاك أن يدشن الجيشان، المصري والتركي، مناورات بحرية مشتركة بدءًا من نوفمبر/ تشرين الثاني 2009.
لسنوات وعلى نقاط التماسّ الساخنة في المياة الدافئة بشرق المتوسط، تطورت تلك المناورات التي اختار لها الجانبان اسم “بحر الصداقة” كمًّا ونوعًا، حتى صارت البحرية التركية شريكًا مهمًّا لنظيرتها المصرية، لا على مستوى اللوجستيات والجوار البحري فقط، إنما على مستوى السيادة البحرية المشتركة أيضًا.
يدلّل أيضًا على وجود قرار استراتيجي من الجانب المصري بالحفاظ على التوازن في تلك المنطقة، عبر مدّ خطوط الاتصال العسكرية بحرًا إلى تركيا بسلاسة، توازيًا مع العلاقات المستقرة مع اليونان وقبرص.
نجاح البلدَين في تلك الحقبة، نهاية عهد مبارك، في إبرام صفقة بيع زوارق بحرية شبحية سريعة من طراز MRTP-20 إلى مصر، تتضمن نقل التكنولوجيا والتصنيع المشترَك، وهي الزوارق التي لا تزال تخدم في البحرية المصرية إلى الآن.
بوصول مرسي، المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، والتي كانت تربطها علاقات طيبة مع العدالة والتنمية، شهد هذا التأسيس السابق لقواعد التعاون العسكري بين الجانبَين، في ظلّ انفتاح نخبة ضباط الجيش المصري على هذا التوجه، دفعة هائلة إلى الأمام.
إذ حوّلت “بحر الصداقة” شرق المتوسط إلى مسيرة عسكرية متناغمة، من قوتَين بحريتَين معتبرتَين في نظر المنافسين الإقليميين والمراقبين الدوليين.
كما أسرع مرسي مستغلًّا نفوذه لدى الأتراك في تلبية حاجة الجيش المصري حينها إلى طائرات للاستطلاع ومكافحة التمرد، حيث اتفق الجانبان على أن تكون مصر أول زبون أجنبي لطائرات “أنكا (ANKA)” التركية بعدد مبدئي 10 وحدات.
فيما يبدو، كان لمرسي حينها استراتيجية حزبية خاصة، أسرع من خطط الجيش المصري الداخلية، في التطلُّع إلى صياغة تحالفات عسكرية جديدة للبلاد بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، أقرب إلى الشرق نسبيًّا، ومن الفاعلين الإقليميين بشكل خاصّ، وهو ما برز في نتائج زياراته المكوكية إلى الصين وباكستان وإيران، وهو ما ساعد أيضًا، إضافة إلى القواعد التي أرستها نهاية حقبة مبارك، في صقل زيارة السيسي إلى تركيا.
نسف القواعد
أدّت شبكة التحالفات والمصالح الدولية والإقليمية التي أسفرت عن مشهد 3 يوليو/ تموز 2013، حينما أطاح السيسي بمرسي، إلى جملة من “التناقضات” في صميم تحركات مصر في محيطها الحيوي.
فمن ناحية، ما زال لدى مصر، وفقًا لرؤية السيسي الذي صار رئيسًا رسميًّا للبلاد عام 2014، رغبة جادة في تحديث الجيش تدريبًا وتسليحًا وتصنيعًا، وتنويع التحالفات العسكرية، ولكنَّ تلك الرغبة صارت مقيّدة بالاعتبارات الدولية التي فرضتها ترتيبات الانقلاب على النخبة العسكرية الحاكمة في البلاد.
ففي عام 2013، جفَّ “بحر الصداقة” الذي تطور خلال نصف عقد، وألغى الطرفان عقد توريد المسيّرات التركية المسلحة إلى مصر، التي صارت طرفًا شرسًا في معادلة الحرب على الإسلام الديمقراطي في المنطقة، الأمر الذي انعكس سلبًا على علاقاتها مع الجيران الإقليميين الفاعلين، مثل تركيا وإيران، لصالح الانخراط في شبكة تحالفات جذرية جديدة، تتضمن السعودية والإمارات، وترزح إلى شرق المتوسط، لتؤسّس واقعًا جديدًا مغايرًا في تلك المنطقة يقوم على “التكتل” ومحاصرة تركيا وطموحاتها في تلك البقعة.
بعد أسابيع قليلة من جلوسه على عرش مصر رسميًّا، شرع السيسي في تدشين عدة آليات وتحالفات إقليمية لخنق تركيا، بما يتلاءم مع لوازم ومقتضيات مشهد الانقلاب العسكري إقليميًّا، حيث أسّس “آلية التعاون الثلاثي” مع اليونان وقبرص في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014.
ثم تمَّ تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم أطرافًا دولية وإقليمية كثيرة، ليس من بينها تركيا، عام 2019، كما جازف بشراء كميات هائلة من الغاز الإسرائيلي في صفقة وصلت قيمتها 15 مليار دولار، لتسييله وبيعه لأوروبا وإحراز “غول” في مرمى تركيا بتعبير السيسي.
في المقابل، حاولت تركيا الحد من آثار هذا المسعى بتعزيز العلاقات الطاقوية والاستراتيجية مع الحكومة الليبية المنتخَبة، حينما أبرمت اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية يجهض مساعي القاهرة وأثينا في استبعادها من كعكة الغاز في شرق المتوسط عام 2019.
ثم نجحت في إجهاض هجوم حفتر العسكري المدعوم من فرنسا والإمارات ومصر على العاصمة طرابلس 2020، وهو ما أثار المخاوف وقتها من احتمال اندلاع مواجهة عسكرية حقيقية، بحريًّا وبريًّا، بين البلدَين، اللذين كان يجمع بينهما مستقبل تعاوني واعد في مجال الدفاعيات حتى صيف 2013.
اقتراب حذر
منذ نهاية العام الساخن 2020 ومع بداية مطلع العام التالي، تكتّلت جملة عوامل دولية وإقليمية أدّت إلى الدفع قدمًا في اتجاه إخماد نزاعات الإقليم واحتوائها، بما في ذلك الملفات المعقدة بين مصر وتركيا.
فقد صعدت إدارة أمريكية جديدة تستعلن بضرورة إعادة الاعتبار لجهود النظام الدولي في تقويض النفوذ الروسي والصيني عالميًّا، وهو ما يقتضي إعادة تموضع الجيوش الأمريكية شرقًا، وتعاون القوى الإقليمية الكبرى في تأمين ذلك التوجه بنزع فتيل الأزمات البينية، التي تستنزف انتباه وأموال واشنطن.
حفّز القلق من تداعيات الانسحاب الأمريكي من المنطقة دوافع إعادة النظر في إمكان التلاقي، وفتح صفحة جديدة لدى كل الدول البارزة في الإقليم، بعد حوالي 7 أعوام من التصعيد المستمر، أدّت إلى وفاقمت أوضاعًا إنسانية صعبة في اليمن وليبيا وسوريا ومنطقة الخليج.
محليًّا، بدأت الإدارة المصرية في مراجعة تبعيتها غير المشروطة لحلفاء 3 يوليو/ تموز في الإقليم، وعلى رأسها الإمارات واليونان، بعد تضرر المصالح المصرية من سلوك تلك الدول في مناطق حسّاسة بالنسبة إلى الأمن القومي المصري، شرق أفريقيا وشرق المتوسط.
كما بدأ، في الوقت نفسه، يتعالى صوت الاقتصاد في تركيا، وضرورة الانخراط في معادلات إقليمية جديدة أقل توترًا مع مصر والدول الخليجية البارزة، لضمان استقرار الأوضاع قبل الانتخابات المفصلية المرتقبة عام 2023، وتفكيك التكتل الدولي المعادي الذي ترأسه مصر في المتوسط.
خلال الربع الأول من عام 2021، وقعت أول بادرة حقيقية على حسن النية بين القاهرة وأنقرة، فقد طرحت الأولى مناقصة علنية للتنقيب عن الهيدروكربون في سواحلها الشمالية على البحر المتوسط، مع هندسة الأحياز الخاصة ببعض تلك النقاط المطروحة أمام الشركات الدولية على نحو يحترم، لأول مرة، التصورات التركية لنفوذها في المياة الاقتصادية، أو ما يعرَف بالجرف القارّي التركي.
ودقّ ذلك ناقوس الخطر في أثينا ونيقوسيا، لدرجة انتقاد الصحافة اليونانية علنًا ذلك القرار المصري، وهو ما ردّت عليه أنقرة بخطوة إيجابية مماثلة تعالج الشاغل المصري الرسمي الأهم، وهو التوجيه الجاد لإعلام المعارضة المصرية الكائن على أراضيها بخفض التصعيد ضد النظام المصري.
فرص واعدة
بدءًا من عام 2022، بدا أنّ هناك تهافتًا واضحًا من الدول الخليجية الكبرى، التي انخرطت في مشاريع العداء الخشن لتركيا سابقًا، على شراء المنتجات العسكرية البارزة لأنقرة، مع رصد ميزانيات ضخمة تخديمًا على هذا المسعى واستفادة من الصفحة الجديدة المفتوحة في الإقليم.
حيث أبدت أبوظبي استعدادًا لدفع 2 مليار دولار مقابل اقتناء عدد كبير من مسيّرات “بيرقدار تي بي 2” ذائعة الصيت، كما تفيد التقارير الواردة عن تغطية زيارة أردوغان الثانية إلى السعودية، أنّ الرياض ستكون صاحبة أكبر عقد شراء منتجات عسكرية في تاريخ تركيا، سيذهب معظمه لتمويل شراء مسيّرات “أقنجي تيها” التي تنتجها “بايكار”.
من جانبها، تحاول مصر، بالتوازي مع مساعي إعادة بناء جيشها وإبرام صفقات عملاقة مع القوى الدولية الكبرى في هذا الصدد، ما أدّى إلى دخول مصر قائمة الدول الأكثر استيرادًا للسلاح في العالم بحسب التقارير السنوية الأخيرة لمعهد ستوكهولم لبحوث السلام؛ أن تبني قاعدةً صناعية عسكرية بالداخل، تعاونًا مع بعض الدول المنتقاة، والتي تتقاطع مع تركيا في كثير من الظروف، مثل كوريا الجنوبية وباكستان وجنوب أفريقيا وروسيا.
يشار هنا إلى أن الصراعات الدولية الخشنة في السنوات الأخيرة، في أوكرانيا والخليج العربي وأذربيجان وليبيا، قد برهنت على ضرورة حيازة ترسانة معتبرة من المسيّرات الحديثة، لإنجاز المهام العسكرية بأقل قدر من المخاطرة البشرية.
قبل ساعات من كتابة هذه السطور، التقى وزير الإنتاج الحربي المصري محمد صلاح، بالقائم بأعمال السفير التركي في القاهرة صالح موطلو، في لقاء كبير بالعاصمة الإدارية الجديدة، تضمّن الاتفاق على استئناف التعاون العسكري، تصنيعًا، بين البلدَين، ودعوة الشركات التركية للمشاركة في معرض “إيدكس 2023” الذي سيعقَد في مصر نهاية العام.
كما ينتظَر، في الوقت نفسه، أن تشهد زيارة السيسي المرتقبة إلى تركيا اتخاذ خطوات إيجابية مشتركة، تتناسب مع رمزيات الزيارة الأولى بعد عقد من الخصام.
على الضفة الجنوبية من المتوسط، شمال أفريقيا، نجحت تركيا في نشر طائراتها بدون طيار المختلفة، من طرازات “بيرقدار” ومسيّرات “العنقاء”، تصديرًا وبيعًا إلى المغرب والجزائر وليبيا، وهو ما تفتقده مصر التي تعتمد حصرًا تقريبًا على بعض الطرازات الصينية الأقل تطورًا من نظيرتها الغربية، أو تلك المملوكة لدى الفاعلين الكبار في الإقليم، ما أدّى إلى خلل عملياتي في بعض مهام الجيش المصري الوعرة، لا سيما في الحرب على التمرد في سيناء.
فهل تكون المسيّرات التركية مدخلًا لدفع العلاقات بين الجانبَين؟