تتواصل المعارك الضارية في أنحاء متفرقة من السودان، خاصة العاصمة الخرطوم للشهر الثالث على التوالي، بين الجيش السوداني الذي يقوده عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع – شبه العسكرية – التي يتزعمها محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي”.
قتال شرس الهدف منه السيطرة على الحكم بعد نجاح كلا الطرفين في استبعاد المكون المدني من حكم البلاد عقب انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، رغم أن الخريطة السياسية كانت تقتضي أن تكون الأحزاب على رأس السلطة في السودان الآن.
في الأثناء، أدت هذه المعارك المتواصلة إلى وضع إنساني صعب، تحذر المنظمات الدولية من تدهوره أكثر إذا لم يتم التوصل إلى صيغة للحل تنهي المعارك، ورغم غياب الأرقام الرسمية فإن عدد القتلى يقدر بأكثر من 3 آلاف قتيل.
فيما ذكرت منظمة الهجرة الدولية في آخر تقرير لها أن عدد النازحين في السودان بسبب الحرب ارتفع إلى 2.6 مليون شخص بينهم 200 ألف نزحوا خلال الأسبوع الماضي، فيما بلغ عدد اللاجئين إلى دول الجوار نحو 730 ألف شخص، كما سجلت العديد من المنظمات انهيار الخدمات الأساسية والبنية التحتية في المناطق التي تشهد معارك واشتباكات.
تتواصل هذه الحرب مع إصرار قوات الدعم السريع على عدم تقديم تنازلات جديّة للوصول إلى حل يقي الشعب السوداني ويلات هذا الصراع، وفي ظل عدم تمكن هذه القوات من الحسم العسكري للمعركة وارتفاع الخسائر في صفوفها وفي صفوف الشعب ومؤسسات الدولة، نتساءل لم لا يشكل حميدتي كيانًا سياسيًا للوصول إلى السلطة في السودان ويتجنب خسائر الحرب؟
تراجع الدعم السريع عسكريًا
تواصل طائرات الجيش السوداني قصف مواقع الدعم السريع في منطقة متفرقة من العاصمة وفي أم درمان، ما كبد قوات حميدتي خسائر كبرى، رغم أنها تحتمي بالمباني السكنية، وتستعمل قوات الدعم السريع المضادات الأرضية للتصدي لقصف الجيش.
فضلًا عن ذلك، قصفت طائرات الجيش أهدافًا لقوات الدعم السريع في مدينة الأبيّض بولاية شمال كردفان غربي السودان، وتتمتع مدينة الأبيض بموقع إستراتيجي، حيث تُعد ملتقى طرق مهمة وسط السودان، كما يمر عبرها خط أنابيب النفط الممتد من الجنوب نحو الشرق إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر.
يمكن أن يستغل حميدتي علاقته المتقدمة مع الإمارات والمملكة العربية السعودية للحصول على الدعم الكافي لتشكيل هذا الكيان السياسي
في ظل القصف العنيف الذي يستهدف قواته، قرر حميدتي التراجع قليلًا وإخلاء بعض المراكز التي كان يسيطر عليها في العاصمة والتوجه إلى مدن الشمال والشرق، ما دفع الجيش لتعزيز تمركزه في تلك المناطق بتجنب تصعيد منتظر من الدعم السريع.
وبدا واضحًا بعد أشهر من القتال تفوق الجيش على قوات الدعم السريع، وهو أمر منطقي ذلك أن الجيش يمتلك ترسانة عسكرية متطورة نوعًا ما مقارنة بالآليات العسكرية التي تمتلكها قوات الدعم السريع، كما أن سلاح الجو كان الفارق الأبرز في هذه الحرب.
وتتحدث بعض التقارير عن وجود مساعي لقادة الدعم السريع لوقف الحرب في أقرب وقت ممكن لتجنب الخسائر وضمان مكان لهم في الخريطة السياسية المقبلة للبلاد، وقبل أيام أكد قادة المجموعة شبه العسكرية قبولهم مواصلة التفاوض في جدة.
في نفس السياق، قال مبارك الفاضل – رئيس حزب الأمة – قبل يومين إن قوات حميدتي تفاوض على شروط الاستسلام وفقًا لمعلومات مؤكدة، وأشار الفاضل إلى أن عبد الرحيم دقلو القائد الثاني للدعم السريع التقى في مدينة أم جرس التشادية مندوبًا أمريكيًا وآخر كينيًا وثالثًا خليجيًا، كل واحد منهم على حدة، ونقل إليهم رغبة الدعم السريع في خروج آمن مع دور عسكري سياسي.
وقال الفاضل – الذي عمل مساعدًا لرئيس الجمهورية السابق -: “لهذا السبب اتصل الرئيس الكيني وليام روتو برئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان رغم رفض السودان أن ينقل روتو طلب عبد الرحيم دقلو شقيق قائد الدعم السريع”.
وأضاف الفاضل أنه للسبب نفسه اتصل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بالبرهان وأطلعه على الأمر، وعلى هذا الأساس وافق البرهان – كما يضيف الفاضل – على عودة وفد الجيش إلى طاولة التفاوض في مدينة جدة السعودية.
تشكيل حميدتي لحزب سياسي للمنافسة على السلطة؟
فشله في الوصول إلى السلطة عبر السلاح وانفتاحه على المفاوضات، يطرح فرضية تشكيل حميدتي لحزب سياسي ينافس من خلاله على السلطة التي يأمل في الوصول إليها وإحكام السيطرة عليها، بعد أن كان مجرد راعي إبل.
من غير المستغرب أن يتجه حميدتي إلى العمل السياسي وتشكيل كيان سياسي يعمل من خلاله على الوصول إلى السلطة وإدارة الدولة وشؤون الحكم، في ظل يقينه بصعوبة تحقيق أهدافه المرسومة من أطراف خارجية، بقوة السلاح.
وسبق أن تلقى دقلو دعمًا إماراتيًا كبيرًا لتشكيل حزب سياسي في البلاد والظهور كرجل سياسي، وليس قائدًا عسكريًا ارتبطت صورته بقمع السودانيين واستهداف الناشطين، إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
حاول حميدتي في أكثر من مرة التقرب إلى الأحزاب السياسية واستعمال بعضها واجهة له، إلا أنه فشل في ذلك وغلب عليه الطابع العسكري
حتى إن لم يستطع تأسيس حزب سياسي بنفسه، له أن يختار الانضمام لحزب سياسي من الأحزاب التاريخية يستطيع من خلاله أن يرشح نفسه وعددًا كبيرًا من المقربين له في انتخابات حرة قادمة، تضمن القطع مع الانقلابات.
ويمكن أن يستغل حميدتي علاقته المتقدمة مع الإمارات والمملكة العربية السعودية للحصول على الدعم الكافي لتشكيل هذا الكيان السياسي، الذي يمكن أن يتكون أساسًا من رجالات الإدارة الأهلية والطرق الصوفية.
تشكيل حزب سياسي أو الانخراط في حزب قديم، له أن يمثل حماية كبيرة لحميدتي ويجنبه المحاسبة على الجرائم الكثيرة التي ارتكبتها قواته في حق المدنيين السودانيين في العاصمة ودارفور ومناطق أخرى، وفي حق الدولة أيضًا.
صعوبة التخلي عن السلاح
الحصول على دور سياسي وعسكري في السودان بعد نهاية الحرب، مسألة مهمة جدًا لقيادة الدعم السريع، لكن بالنظر إلى بعض المعطيات فإن تشكيل حزب سياسي أو الانخراط في حزب آخر تقليدي تبدو فرضية مستبعدة.
لا يؤمن حميدتي بالعمل السياسي، وإن كان كذلك عندما انقلب على المكون المدني صحبة البرهان قبل نحو سنتين من الآن، فهو يرى أن السلاح وحده له القدرة في إيصاله إلى الحكم واستكمال حلمه، بعد أن كان مجرد راع للإبل وتاجر للسلاح.
حاول حميدتي في أكثر من مرة التقرب إلى الأحزاب السياسية واستعمال بعضها واجهة له، إلا أنه فشل في ذلك وغلب عليه الطابع العسكري، فطيلة مسيرته لم يعرف عنه أي نشاط سياسي وكان دائمًا يستقوي بالسلاح.
من المستبعد أن يتخلى حميدتي وقادة الدعم السريع عن أسلحتهم بسهولة والاستسلام للأمر الواقع، فحتى إن تأكدت خسارتهم في الحرب ضد الجيش – وهو ما ستؤكده الأيام القادمة – فسيلجأ حميدتي إلى دارفور أو دول الجوار والاعتماد على حرب العصابات التي يمتهنها منذ 20 سنة.
يعني هذا أن الحرب في السودان لن تنتهي بسهولة، فرغم تراجع قوات الدعم السريع أمام ضربات الجيش، فإن هذا لا يعني حتمًا استسلام حميدتي وتخليه عن فكرة الوصول إلى السلطة، فأي تراجع سيؤدي إلى انتهائه.