لم يشهد التاريخ المصري الحديث حدثًا جدليًا كحركة الضباط الأحرار في يوليو/تموز 1952، تلك الحركة التي يصفها الإعلام المصري بالثورة وأطاحت بنظام الحكم الملكي ودشنت لمرحلة الجمهورية، فرغم مرور ثلاثة أرباع قرن عليها، لم تزل حاضرة في وجدان الشعب المصري وذاكرته كأنها حديثة العهد لم يمر عليها بضع سنوات معدودة.
وأسفرت تلك الحركة التي قادها بعض ضباط الجيش المصري عن وضع نظام سياسي جديد للدولة المصرية، تحول فيما بعد إلى الركيزة الأساسية التي قامت عليها كل الأنظمة منذ عام 1952 وحتى اليوم، حيث هيمنة الجنرالات على المشهد المصري بكل تفاصيله، سياسيًا واقتصاديًا.
وعلى صفحات الكتب وفي صدر المناهج الدراسية التي يتلقاها الأطفال في المدارس المصرية يعد هذا التاريخ وتلك الواقعة أحد الأضلاع الأساسية في التاريخ، حيث تصورها كأحد مصادر الإلهام التي قادت مصر إلى طريق الرخاء والنمو والنهضة بعد سنوات الخضوع للملكية بكل سلبياتها.
ولم تزل الأهداف التي رفعها الضباط في أثناء انقلابهم على النظام الملكي حاضرة بشكل كبير في أذهان الجميع، حيث يحفظها الصغار والكبار عن ظهر قلب، تلك المبادئ الأساسية الخمس الشهيرة: القضاء على الاستعمار، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال، القضاء على الإقطاع، إقامة جيش وطني، إقامة عدالة اجتماعية، إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
ظلت تلك المبادئ الشعار الأعلى صوتًا الذي يعزف عليه المزاج المصري أعذب الألحان بين الحين والآخر، وخريطة الطريق الأساسية لمعظم النظم السياسية في المنطقة العربية، في ضوء فوضوية التقييم والقراءة العشوائية لتفاصيلها ومدى ما تحقق منها ميدانيًا، وفي ظل القراءات المختلفة التي تخضع في الغالب للهوى والمزاج ظلت تلك المبادئ المغذي الأكبر للصورة المشرقة لهذا الحدث ونعته بالثورة رغم افتقاده لمعايير وشروط الثورات المعروفة في التاريخ.
اليوم وبعد مرور 71 عامًا على اندلاع هذا الحدث التاريخي، ما زال السؤال الأكثر حرجًا يفرض نفسه: ما الذي تحقق من مبادئ تلك الثورة رغم مرور كل تلك السنوات؟ فبعيدًا عن القضاء على الاستعمار وإقامة جيش وطني، فضلًا عن الشكوك بشأن إقامة عدالة اجتماعية.. هل بالفعل قضى الجنرالات على الإقطاع الرأسمالي؟ وهل أقاموا حياة ديمقراطية سليمة؟
الديمقراطية السليمة حقًا!
تعامل البعض مع ديمقراطية يوليو/تموز 1952 على أنها المادة الخام للديمقراطيات في العالم العربي، وأنها منتج قابل لإعادة الاستخدام والتدوير مع كل الأنظمة في المنطقة، بل إن البعض غالى في التمجيد لدرجة القول إنها أم الديمقراطيات وإن مصر لم تعرف ديمقراطية كتلك التي عرفتها في كنف الجنرالات.
قد تحقق تلك السردية أهدافها في السابق حين كان النظر إلى الإطاحة بالملكية إنجازًا يجب تحته أي إخفاق، ويحمل معه جواز سفر تصديق أي رواية بشأن أهمية الثورة ونجاحاتها منقطعة النظير، لكن مع مرور الوقت تبين الزبد مما يمكث في الأرض، وانكشف الوهم على أعتاب الحقيقة، وانهارت جبال التمجيد الرخوة أمام رياح المعايشة العاتية.
وبات جليًا كيف ألغت الثورة المزعومة التعددية الحزبية ومكنت للديكتاتورية الفردية ووضعت بذور السطوة الأمنية وحولت الدولة من كيان متعدد التوجهات إلى دولة بوليسية من الطراز الأول، وصولًا إلى الوضعية الحاليّة التي بات الحديث فيها عن الديمقراطية رفاهية ساخرة أكثر منها قراءة واقعية.
منذ أن عرفت مصر الممارسة السياسية الحزبية قبيل ثورة 1919 كان المزاج السياسي المصري يتسم بالتعددية الفكرية والأيديولوجية، مكونًا من مزيج مختلف في الرؤى والتوجهات، من طلبة الجامعات والمحامين والموظفين والمعلمين، مع النخبة السياسية والفكرية التي رسختها الملكية في ذات الوقت، التي كان على رأسها حزب الوفد الذي أسس بزعامة سعد زغلول ومصطفى النحاس.
وما إن بدأ الوفد في النكوص عن أهدافه، حتى بدأت الساحة المصرية في إفراز العديد من التيارات الأخرى كتنظيم الإخوان المسلمين وتنظيم مصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية المختلفة، بجانب مكونات شبابية وفكرية لاحقة، أسست لمرحلة جديدة من التعددية الفكرية في البلاد، تطورت فيما بعد إلى تعددية سياسية.
لفظت الساحة السياسية في مصر أنفاسها الأخيرة على أعتاب السلطوية المتعجرفة، فأطاحت بكل من يتجرأ على منافسة السيسي، حتى لو كان من داخل المؤسسة العسكرية
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية دخلت السياسة المصرية مرحلة جديدة من الصدام، لكنه صدام موحد، تيارات السياسة في مواجهة الاستعمار والحكومة الموالية له، ورغم الوحدة التي كانت تظلل الساحة المصرية في ذلك الوقت، فإن التباين الأيديولوجي كان سببًا في نشوب بعض المعارك السياسية بين مختلف التيارات، وتلك كانت سمة المظلة السياسية المصرية في ذلك الوقت.
وفي ظل هذا الصراع بين التيارات السياسية والحكومة الخديوية التي سعت للهيمنة على المشهد حينها، ومارست العديد من أوجه الفساد المدعوم بتوجهات الاستعمار، كان خيار الانقلاب عليها هو الحل، رغم ما كانت تتمتع به من مرونة وتعددية نسبية، ومن هنا جاءت حركة الضباط الأحرار مدعومة شعبيًا من الجماهير الراغبة في التخلص من الاستعمار وأعوانه، وهو ما دفع الجنرالات لنعت ما حدث بالثورة، توثيقًا لانضمام الشعب المصري لها لاحقًا.
أمل المصريون أنفسهم – آنذاك – بمرحلة جديدة من الثراء السياسي، بعد انهيار هيمنة الملك على المشهد، لكنهم فوجئوا بتطورات لم يتوقعوها مطلقًا، حيث سيطرة الصوت الواحد والحزب الواحد والتيار الواحد والهدف الواحد، فلا صوت يعلو على صوت الرئيس الذي تخضع كل السلطات بيديه، فتحول من مجرد حاكم إلى الآمر الناهي الوحيد دون عقاب أو محاسبة.
وانتقلت عدوى السلطوية من عبد الناصر إلى أنور السادات، الذي استبدل الاتحاد الاشتراكي بالحزب الوطني، الذي أبقى عليه حسني مبارك مع منح بعض الأحزاب المعارضة الأخرى متنفس ضئيل لإكمال الصورة والإيحاء بوجود معارضة داخلية في ظل الانتقادات التي كان يتعرض لها من الخارج، لكنها ظلت في إطارها الهش، معارضة مستأنسة وأحزاب كرتونية.
ثم تحول الوضع منذ 2013 وحتى اليوم إلى منحدر لم تشهده مصر في تاريخها كله، حيث أرخ نظام الثالث من يوليو/تموز 2013 للحقبة الأعنف والأشرس والأخطر لجمهورية ما بعد 23 يوليو/تموز 2013، حيث الحاكم الأوحد والرئيس الأوحد والعارف الأوحد والخبير الأوحد والمتحكم الأوحد والمتحدث الأوحد.
كما لفظت الساحة السياسية أنفاسها الأخيرة على أعتاب السلطوية المتعجرفة، فأطاحت بكل من يتجرأ على منافسة السيسي، حتى لو كان من داخل المؤسسة العسكرية كما حدث مع الفريق أحمد شفيق والفريق سامي عنان والعقيد أحمد قنصوة، ناهيك بالمدنيين ممن ساورهم خيالهم أن يكونوا في مواجهة الزعيم.
وأثبتت التجربة المعززة بالوقائع التاريخية أن كل تصريحات الجنرالات عن الزهد في الحكم ودعم التحول الديمقراطي لم تكن إلا شعارات لدغدغة المشاعر الوطنية وبناء جسر كبير من التبرير والثقة للعبور نحو الهيمنة المطلقة، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال بيانات حركة الضباط في يوليو/تموز 1952 وبيان المتحدث العسكري في 1 يوليو/تموز 2013.
بدأ الجيش المصري في الوجود كلاعب أساسي في الملعب الاقتصادي المحلي منذ عام 1978 حين تأسس جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة بعد اتفاقية السلام التي أبرمتها مصر مع دولة الاحتلال
ففي الأول من يوليو/تموز خرج المتحدث العسكري المصري ببيان جاء فيه “في ضوء ما يتردد على لسان بعض الشخصيات على وسائل الإعلام المختلفة، التي تحاول توصيف بيان القيادة العامة للقوات المسلحة على أنه انقلاب عسكري، تؤكد المؤسسة العسكرية على أنها لن تكون طرفًا في دائرة السياسة أو الحكم، ولا ترضى أن تخرج عن دورها المرسوم لها في الفكر الديمقراطي الأصيل النابع من إرادة الشعب”.. وهو التصريح الذي لا يحتاج لتقييم بعد مرور أقل من عام حيث هيمن الجنرال ورفاقه على الحكم.
ومنذ حركة 1952 والديمقراطية في مصر تسير في منحدرات كبيرة عامًا تلو الآخر، فبعد 71 عامًا من شعار بناء حياة ديمقراطية سليمة “ارتفع عدد أعضاء مجلس النواب المصري، الموقعين على استمارة ترشيح السيسي بانتخابات الرئاسة، إلى 516 نائبًا، من أصل 596 وهكذا، تخلص الضباط من صراع برلمانات الملكية الفاسدة على السلطة، أما الصراع الوحيد الذي سمحوا به فهو الصراع على مبايعة الرئيس”، كما يقول الباحث في الاجتماع السياسي، أحمد تايلور، في مقاله المنشور على موقع الجزيرة تحت عنوان “هيا بنا نبني حياة ديمقراطية سليمة “أوي”.
من الإقطاع الرأسمالي إلى العسكري
أما فيما يتعلق بالقضاء على الإقطاع واحتكار رأس المال، فالواقع يقول إن ما تشهده الساحة المصرية اليوم يناقض شكلًا ومضمونًا الشعارات التي رفعها الضباط الأحرار قبل سبعين عامًا، حيث انتقل الاقتصاد الوطني المصري من الاشتراكية في حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حيث هيمنة الدولة على الاقتصاد في مجمله، إلى التمازج بين الاقتصاد الخاص والحكومي مع منح المؤسسة العسكرية متنفسًا للوجود في السوق الاقتصادي، إبان حكم مبارك، وصولًا إلى المرحلة الحاليّة حيث عسكرة الاقتصاد بالكلية، وهيمنة الجيش على مفاصل الاقتصاد.
وبعيدًا عن تصريحات السيسي التي يقول فيها إن النشاط الاقتصادي للجيش لا يشكل إلا 2-3% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، فإن التقديرات غير الرسمية، المحلية والدولية، تشير إلى أن الاقتصاد يشكل ما بين 40-60% من الناتج المحلي في ظل هيمنة المؤسسة العسكرية بشركاتها على المجالات كافة دون رقابة أو محاسبة.
وبدأ الجيش المصري في الوجود كلاعب أساسي في الملعب الاقتصادي المحلي منذ عام 1978 حين تأسس جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة بعد اتفاقية السلام التي أبرمتها مصر مع دولة الاحتلال، وبعدها تأسس جهاز الخدمات العامة ومشروعات الأراضي الذي هيمن على مجال الألبان واللحوم.
لكن رغم كل ذلك ظل الجيش يلعب في مساحة ضيقة نسبيًا في الاقتصاد المصري، حتى عام 2013 الذي كان نقطة مفصلية في هيمنة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد، إذ تأسست عشرات الشركات التابعة للجيش، 35 شركة تابعة لجهاز مشروعات الخدمة المدنية، وقرابة 20 شركة تتبع وزارة الإنتاج الحربي، وقرابة 12 شركة ومصنعًا تتبع الهيئة العربية للتصنيع.
إن جنرالات يوليو/تموز 1952 وأبناءهم من جنرالات اليوم، وإن نجحوا في القضاء على الإقطاع واحتكار رأس المال، لكنهم في المقابل دشنوا لمرحلة جديدة عنوانها الإقطاع العسكري وهيمنة رأس مال الجيش على الاقتصاد
وبدلًا من مشاركة الجيش للقطاع الخاص في مجال الألبان واللحوم باتت شركات المؤسسة العسكرية بكياناتها المختلفة هي المتحكم الأساسي في مجالات الأغذية والدواء والأسماك والطرق والكباري، فضلًا عن قطاع المحاجر والتعدين الخاضع تمامًا لسيطرة الجيش، وتحولت شركات القطاع الخاص إلى متعامل من الباطن مع الشركات المملوكة للجنرالات.
وبجانب ذلك منحت تلك الشركات العسكرية حزم من الامتيازات والإعفاءات الضريبية والتسهيلات (منها الحق القانوني في استعمال الأراضي المصنفة عسكرية كحصة في المشاريع التجارية المشتركة، وصلاحية إصدار التراخيص لاستخدام أراضي الدولة، والأولوية في التعاقد مع الوزارات والمؤسسات الحكومية لبيع منتجاتها أو تنفيذ المشاريع، والتقاضي في النزاعات مع الشركات المدنية ورجال الأعمال أمام القضاء العسكري فقط، والاستئثار بمجالات معينة في الاستيراد والتصدير، وعدم وجود تدقيق خارجي من أي مؤسسة مدنية رقابية في الدولة) أهلتها للنجاح واحتكار الساحة بأكملها، وذلك على حساب القطاع الخاص.
كما كان الجيش هو المستفيد الأبرز من الديون الخارجية التي تحصل عليها مصر خلال السنوات الأخيرة، بحسب ما ذكر الباحث يشير ستيفان رول، رئيس قسم إفريقيا والشرق الأوسط في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، في دراسة نشرها في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022 بعنوان “الديون الخارجية وتعزيز سلطة النظام في مصر“.
الدراسة كشفت أن استفادة الجيش من تلك القروض خلال تلك السنوات تمثل 3 مكتسبات رئيسية، أولها: تفادي الجيش لجوء الحكومة إلى أصول القوات المسلحة لتمويل العجز في الميزانية، ثانيها: استفادت شركات الجيش من تنفيذها عقود مشاريع البنية التحتية المعتمدة على القروض، مثل مشروع بناء العاصمة الإدارية الجديدة الذي تقدر تكلفته بنحو 58 مليار دولار، وبناء الكباري والطرق تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة (علمًا بأن أرباح شركات الجيش لا تُنقل إلى وزارة المالية، إنما يحتفظ بها في صناديقه الخاصة).
ثالثًا: ساهمت القروض في عملية إعادة تسليح الجيش، حيث احتلت مصر المرتبة الثالثة بين أكبر مستوردي الأسلحة في العالم خلال عام 2016 مقارنة بالمرتبة الحادية عشر خلال عام 2012، وفق بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ومن أكثر صفقات التسليح التي أرهقت الدولة المصرية بالديون الخارجية، صفقة طائرات رافال فرنسية في عام 2021 عبر قرض من بنوك فرنسية بقيمة 3.95 مليار يورو تسدد على 10 سنوات.
هذا التغول الواضح في مفاصل الاقتصاد من المؤسسة العسكرية أثار حفيظة المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية التي اشترطت التخارج النسبي للمؤسسة العسكرية من الاقتصاد الوطني كشرط أولي لحصول الحكومة المصرية على قروض جديدة، كما حدث مع صندوق النقد الدولي الذي نشر حيثيات القرض الجديد الذي تسعى له القاهرة في يناير/كانون الثاني 2023 حيث أشار في تقريره الصادر في 107 صفحات أن شركات الجيش تهيمن على المشهد ولا بد من إلغاء التسهيلات الممنوحة لها على حساب شركات القطاع الخاص.
وبعد مرور 71 عامًا على حركة الضباط الأحرار يمكن القول إن جنرالات يوليو/تموز 1952 وأبناءهم من جنرالات اليوم، وإن نجحوا في القضاء على الإقطاع واحتكار رأس المال، لكنهم في المقابل دشنوا لمرحلة جديدة عنوانها الإقطاع العسكري وهيمنة رأس مال الجيش على الاقتصاد الذي أصبح فريسة للكيانات التابعة للمؤسسة العسكرية بشكل مباشر أو من الباطن.
وعلى نفس المنوال، نجحوا في التخلص من ربقة الديمقراطية الملكية التي كانت تعاني من تعددية فاسدة أو شبه فاسدة إلى مرحلة جديدة من السلطوية المطلقة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الحاكم، ولا مجال لمتنفس لأي تيار معارض، فيما ألقت الأحزاب الكرتونية رايتها البيضاء كـ”محلل” لا قيمة له في مشهد لا يقبل القسمة على اثنين.