ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ توقيع اتفاقية أوسلو الأولى في سنة 1993، أنفق المانحون الدوليون أكثر من 50 مليار دولار في شكل مساعدات خارجية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد وُجّه هذا التمويل من خلال نموذج التنمية الغربي الذي تم تصميمه – على الأقل ظاهريًا – لتعزيز التنمية الاقتصادية والمؤسسية الفلسطينية.
كان المصممّون الغربيون لهذا النموذج يأملون أن يجعلوا “الفلسطينيين يُواكبون” تنمويًا “إسرائيل“، وبذلك يمكن ترسيخ السلام بمجرد قيام دولتين ديمقراطيتين – واحدة إسرائيلية وأخرى فلسطينية – بجانب بعضهما البعض في بلاد الشام.
لكن هذا النموذج تجاهل صراحة الطبيعة الاستعمارية للحكم الإسرائيلي – الدمّار المتأصل الناجم عن الهياكل الاستعمارية الجشعة للسيطرة – ووضع عبء إحلال السلام على كاهل الفلسطينيين ومطالبتهم بالتغيير للوفاء بمعايير التنمية الغامضة التي حددها أقرب حلفاء “إسرائيل” الغربيين قبل إرساء السلام.
مع ذلك، تم قبول هذا التمويل بحسن نية من قبل الفلسطينيين الذين وضعوا ثقتهم في عملية أوسلو للسلام لقيادتهم إلى الحرية مع استخدام تمويل المانحين كفرصة لإنشاء مؤسساتهم الخاصة بعد عقود من الحكم الإسرائيلي المباشر. وكان الهدف النهائي للفلسطينيين هو إقامة دولتهم الخاصة والتحرّر بمجرد انتهاء عملية أوسلو برعاية الولايات المتحدة خلال “فترة انتقالية” لا تتجاوز الخمس سنوات، كان من المقرر أن تنتهي في سنة 1999.
كانت تلك المساعدة أساسية للمنطق (الاستعماري) للنموذج الغربي، حيث استخدمت كأداة لإصلاح الفلسطينيين ودعمهم خلال فترة انتقالية من الحكم الإسرائيلي للوصول إلى نقطة يمكنهم فيها إعالة أنفسهم بشكل مستقل والعيش في سلام بجوار “إسرائيل”.
حرية بعيدة المنال
رغم استخدام التمويل لإنشاء سلطة فلسطينية شبه مستقلة ومؤسسات فلسطينية محدودة الصلاحيات للحكم الذاتي، كما هو الحال في الصحة والتعليم، إلا أن مساعدات أوسلو وعملية أوسلو لا تساعد الفلسطينيين على تحقيق الحرية وتقرير المصير.
لم يُسمح لهم أبدًا ببناء اقتصاد يدعم كفاحهم ضدّ القوة المحتلة التي تستعمرهم وتطردهم من غالبية أراضيهم المتبقية (حوالي 22 بالمئة من فلسطين التاريخية). وبدلاً من ذلك، تم استخدام هذا التمويل على الفور تقريبًا للتعويض عن الخسائر الاقتصادية التي فُرضت على الفلسطينيين من خلال سياسات إسرائيلية عقابية مثل الإغلاق وبناء المستوطنات وفرض القيود على التجارة.
استثمر العديد من التنمويين ذوي النوايا الحسنة الكثير من الوقت والموارد لإنجاح نموذج أوسلو للتنمية المحدث
أصبحت المساعدة شريان الحياة للأراضي الفلسطينية المحتلة عندما انحدرت عملية السلام إلى العنف الشديد خلال الانتفاضة الثانية من سنة 2000 إلى سنة 2006. ثم قام صناع السياسة الغربيون بتحديث نموذجهم التنموي مع التركيز على قطاع الأمن الفلسطيني. وكانوا يرون أنه إذا تمكنت السلطة الفلسطينية من التنسيق مع “إسرائيل” وضمان أمنها من خلال كبح جماح “عنف” الفصائل الفلسطينية المسلحة، فيمكن أن تبدأ جهود السلام المتجددة.
وُضع عبء الإصلاح والسلام بشكل مباشر على عاتق الفلسطينيين مرة أخرى، بناءً على افتراض استعماري عنصري وضمني مفاده أنهم هم الأكثر ميلًا للعنف، على عكس “إسرائيل” الديمقراطية الليبرالية.
جدّد صناع القرار وخبراء التنمية الغربيون عملهم على إعادة تصميم جوانب أخرى من المؤسسات والمجتمع الفلسطيني. وقد تضمّن النموذج الجديد مفاهيم فعالية المعونة والحكم الرشيد والشفافية التي أصبحت شائعة في قطاع المساعدة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ردًا على الدمّار الذي سببته أنظمة المساعدة النيوليبرالية (والاستعمارية الجديدة) التي كانت موجودة خلال “العقد الضائع” في الثمانينات وتوافق واشنطن في التسعينات.
استثمر العديد من التنمويين ذوي النوايا الحسنة الكثير من الوقت والموارد لإنجاح نموذج أوسلو للتنمية المحدث، وكان “ناجحًا للغاية” حتى أن البنك الدولي شعر أن الفلسطينيين كانوا مستعدين بحلول سنة 2011 لإدارة دولتهم. لكن بحلول سنة 2023، بات الفلسطينيون أكثر بعدًا عن الحكم الذاتي أكثر مما كان عليه الحال قبل 12 سنة.
أربع مقاربات
لأكثر من عقد، كنت أتتبع المساعدات مع زميلي الدكتور جيريمي وايلدمان. وتختلف وجهات النظر حول سبب الفشل الذريع لنماذج أوسلو للمساعدة من أجل السلام بعد 30 سنة بتمويل قدره 50 مليار دولار. يتضمن ذلك بعض وجهات النظر التي لا تعتبر هذا النموج بالضرورة فاشلًا. فعلى سبيل المثال، هناك المسؤولون عن المساعدة الذين يعتقدون أن نموذج أوسلو كان – ولا يزال – سليمًا بطبيعته، لكن العوامل الخارجية “للسياسة” هي التي أعاقت نجاحه.
على العكس من ذلك، يدرك المستعمرون الجدد كيف يمكن استخدام المساعدات بواقعية كأداة لتأديب الفلسطينيين وإسكاتهم والسيطرة عليهم بنجاح، ودعم الوضع الراهن للمصالح الإسرائيلية والغربية.
ثم هناك “المسؤولون الأساسيون” الذين يشاركون الفاعلين إيمانهم بنموذج أوسلو، ولكنهم يركزون في المقابل على سياسات الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، وحقوق الإنسان الفلسطينية، وبناء المستوطنات الإسرائيلية، والقانون الدولي، باعتبارها عقبات أساسية يجب معالجتها لتحقيق التنمية والسلام.
وأخيرًا، هناك نقاد – مثلنا – لا يعتقدون أن نموذج المساعدة يساهم في دفع عملية التحرير بل هو بالأحرى أداة غير محلية للهيمنة الخارجية ينبغي التشكيك فيها ومقاومتها في نهاية المطاف. ويمكن استخدام مبادئ فعالية المعونة، مثل تلك الموجودة في إعلان باريس لسنة 2005 وجدول أعمال “آكرا” لسنة 2008، كأداة لمكافحة الاستعمار لتقييم كيفية عمل المانحين الغربيين في مناطق الجنوب العالمي، مثل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ومن أهم المبادئ أن يتحلى المانحون بالشفافية وأن تكون لديهم معلومات متاحة بحرية حول ما ينفقون عليه تمويلهم، لأنه من الضروري لأي شعب ذي سيادة أن يفهم بشكل شامل ما هو التمويل الأجنبي الذي يتلقاه وعلى ماذا يتم إنفاقه، ومصلحة كل مانح. وهذا أيضًا مبدأ من مبادئ الحكم الرشيد ويجب على المانحين المؤسسيين الليبراليين الذين يزعمون أنهم يطورون الفلسطينيين، أن يُظهروا بشفافية من أين يأتي التمويل وكيف يتم إنفاقه من قبل حكومتهم.
تتبع المساعدات الفلسطينية
حاولت أنا والدكتور وايلدمان في مناسبات متعددة منذ سنة 2016 تتبع تمويل المانحين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان الهدف الأسمى لعملنا هو تتبع المساعدات وتحليلها وبناء قاعدة بيانات شاملة ومتاحة للجمهور لجميع تدفقات المساعدات. فإتاحة الوصول إلى معلومات مهمة يمثل خطوة حاسمة نحو أنظمة الحكم الديمقراطي الرشيد التي يتوق الفلسطينيون إلى إرسائها على طريق الحكم الذاتي.
لتحقيق هذه الغاية، أجرينا في سنة 2022 دراسة بحثية لشبكة المنظمات الفلسطينية غير الحكومية، وتتبعنا 41 جهة مانحة بارزة شكلت حوالي 90 بالمئة من مساعدات الأراضي الفلسطينية المحتلة في السنوات 2017-2021. ولعبت هذه الجهات الفاعلة دورًا حاسمًا في كيفية هيكلة المؤسسات الفلسطينية وخدمة المجتمع الفلسطيني. وما اكتشفناه هو وجود نقص واضح في شفافية المساعدات في سنة 2022، التي ساءت بشكل ملحوظ مقارنة باستطلاعات سابقة مماثلة أجريناها في سنتي 2016 و2017.
المانحين لم يبذلوا جهدًا ليكونوا شفافين أو خاضعين للمساءلة أمام الفلسطينيين، في وقت كان هناك تراجع ملحوظ في مؤسسات وأنظمة الحكم الرشيد للسلطة الفلسطينية المدعومة من الغرب
في سنة 2022، جمعنا البيانات بثلاث طرق مختلفة: أولا، من خلال التواصل مباشرة مع المانحين ومهامهم في الأراض يالفلسطينية المحتلة للحصول على معلومات حول إنفاقهم على المساعدات؛ ثانيا، من خلال مراجعة مواقع الجهات المانحة وفهرسة التقارير عبر الإنترنت عن إنفاق مساعداتهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ وثالثا، من خلال تحليل مجموعة من البيانات الموجودة في قاعدة بيانات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. ووجدنا أن أقل من 30 بالمئة من المانحين الذين اتصلنا بهم زودونا بالبيانات اللازمة لفهم ما يمولونه هم والمجتمع الدولي في فلسطين.
بعيدًا عن الشفافية وسهولة الوصول إليها، قد يكون تحديد موقع البيانات المتاحة على مواقعهم الإلكترونية أمرًا صعبًا للغاية، هذا إذا كانت موجودة على الإنترنت على الإطلاق، وقد لا تكون متاحة حتى باللغة الإنجليزية، ناهيك عن اللغة العربية اللازمة لإشراف السكان الأصليين على عملية المساعدة.
أخيرًا، توفّر قاعدة بيانات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية نظرة عامة واسعة على تمويل المساعدات في الأرض الفلسطينية المحتلة، من خلال العدد المحدود من المانحين الذين يقدمون هذه المعلومات إلى قاعدة البيانات.
توصلت دراستنا إلى أنه بعد استثمار كبير للوقت في إجراء البحوث من قبل باحثين ذوي خبرة في مساعدة فلسطين، خلصنا برؤية محدودة للغاية لما تبدو عليه مساعدات المانحين الدوليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة بين سنتي 2017-2021. وكان استنتاجنا الرئيسي أن المانحين لم يبذلوا جهدًا ليكونوا شفافين أو خاضعين للمساءلة أمام الفلسطينيين، في وقت كان هناك تراجع ملحوظ في مؤسسات وأنظمة الحكم الرشيد للسلطة الفلسطينية المدعومة من الغرب، وسط تنامي الاستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
ضرر المانح
إن تأثير المانحين على الدولة الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني جوهري في اقتصاد الأراضي الفلسطينية المحتلة. قد يعتقد المانحون أنهم يساعدون الفلسطينيين من خلال إنفاقهم على المساعدات، إلا أن تقاعسهم عن معالجة الأسباب الجذرية لما يسمونه “الجمود السياسي” يساهم في الوضع الراهن العنيف، عندما يقترن بمساعدات أوسلو التي يتم تنظيمها بطريقة تساعد “إسرائيل” فعلاً على تعويض تكاليف احتلالها ودعم استعمارها المستمر للأراضي الفلسطينية.
يبدو أن هذا هو أسوأ مزيج من المسؤولين الذين يتجاهلون المشاكل السياسية الأساسية التي تغذي الصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمستعمرين الجدد الذين يستخدمون نموذجهم لدعم الاستيطان الإسرائيلي.
في الوقت نفسه، من المهم بالنسبة للفلسطينيين أن يتم قياس المساعدات الأجنبية التي تدخل أراضيهم بدقة حتى يتمكنوا من الحصول على المعلومات اللازمة لفهم ما يتم تمويله، ويكونوا قادرين على تولي زمام أنظمة الحكم الخاصة بهم، وخدمة احتياجاتهم الفعلية، والتحرر من الحكم الإسرائيلي.
يتعيّن على الفلسطينيين رفض أي مساعدة لا تخدم هذه الغايات. وفي غضون ذلك، ينبغي على المانحين تخصيص الموارد اللازمة لتتبع المساعدات وجعل المعلومات حول إنفاق مساعداتهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة في متناول جميع الفلسطينيين.
في الوقت الحالي، هذا لا يحدث ولا يوجد نظام للتأكد من أنهم يفعلون ذلك. وفي مثل هذه الظروف، يجب على الفلسطينيين أن يُشككوافي مساعدات المانحين الغربيين بالنظر إلى سجل الغرب الطويل في تفضيل مصالح “إسرائيل” المتصورة على حساب الفلسطينيين. وقد يعني هذا نبذ المانحين الغربيين الذين يرفضون الشفافية أو عدم إلحاق أي ضرر بفلسطين المحتلة.
المصدر: ميدل إيست آي