حدثنا الأستاذ “لطفي زيتون” في الجزء الأوّل من اللقاء الصحفي الذي جمعنا به عن قراءته في مآلات الربيع العربي ورؤيته للمشهد الإقليمي، كما حدثنا عن واقع العلاقة مع دول الخليج وخاصة قطر، المملكة السعودية والإمارات، وسيحدثنا في هذا الجزء الثاني عن مستجدات الساحة السياسية في تونس خاصة بعد ما أفرزته الانتخابات البرلمانية.
أستاذ لطفي، ما هي الرسائل التي أرسلها الشعب التونسي لكم وللنخبة السياسية عبر صندوق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية التي أفرزت تقدم حزب نداء تونس ومنحتكم المرتبة الثانية؟
عديدة هي الرسائل التي فهمناها من نتائج الانتخابات؛ لعل أبرزها: هي ما نفهمه من ارتفاع نسبة من لم يدلوا بأصواتهم والذين ينقسمون لمن لم يُسجلوا أصلاً في قوائم الناخبين وبلغ عددهم الثلاثة ملايين وأيضًا من امتنع عن التصويت رغم إدراج اسمه في السجل الانتخابي وبلغ عددهم المليونين، نحن إذن أمام أغلبية صامتة لم تنجح النخبة السياسية في تشجيعها على الانخراط في العملية السياسية عبر الانتخاب.
هذا العزوف حامل لكل الأخطار إذ يمكن أن نفهم منه حضور اللامبالاة وعدم الاكتراث سواء حكمتنا الديمقراطية أوالدكتاتورية، كما يمكن أن يُفسر بانعدام الثّقة بالديمقراطية والتوجه إلى أساليب أخرى غير ديمقراطية؛ وبالتالي نحن إزاء ظاهرة يجب أن تنكب عليها النخبة السياسية والنخبة المُثقفة من أجل أن تعالجها وأن تحُد منها.
الرسالة الثانية التي أرسلها لنا الشعب التونسي: هي أنه لم يسمح ببلورة قوة سياسية أغلبية مُهيمنة تحظى بالثقة الكاملة للناخبين، ووزع الأصوات بطريقة تمنع الارتداد الديمقراطي على المكاسب السياسية للثورة وأعني منع نقض الدستور أو القوانين الأساسية وأيضًا التلاعب بالهيئات المستقلة التي تمثل مكونًا هامًا من مكونات الديمقراطية التونسية الحديثة، كما أن التركيبة البرلمانية التي لم تفرز طرفًا مهيمنًا تثبت تمسك التونسيين بالمسار الديمقراطي باعتبار أن الهيمنة على المشهد البرلماني التشريعي قد تؤدي إلى التضييق على الحريات وإلى النّكوص عن المكاسب الديمقراطية عبر الآليات الديمقراطية.
الرسالة الثالثة: هي أن الشعب يريد ائتلافًا وطنيًا للحكم، إذ لا يمكن أن تنجح الحكومة القادمة في الإجابة عن الإحراج الاجتماعي التنموي للثورة إلا متى حظيت بأوسع توافق ودعم ممكن .. عمودا هذا الائتلاف كما فهمناه من نتائج الانتخابات هما الحزبين الأولين في الترتيب الذين تحصلا على نسبة تفوق بقية الأحزاب وبالتالي هما مؤهلان ليكونا محور هذا الائتلاف ومن حولهما تكون بقية الاحزاب التي تريد الانخراط في هذا المسار الائتلافي التوافقي،
هذه الرسالة – في تقديري – واضحة وعدم الاستماع إليها سيفرز منظومة حكم ضعيفة غير مسنودة الإسناد السياسي والشعبي الكافي وبالتالي لن تقدر على مجابهة ما ينتظرها من أزمات وملفات ثقيلة.
هل اخترتم تموقعكم في منظومة الحكم؟ ستدخلون الحكومة أم ستكتفون بالمعارضة؟
طوال الحملة الانتخابية وما قبلها كنا نُسوق لقناعة راسخة داخل حركة النهضة وهي أن البلاد في هذا الوضع الذي تمر به لا يمكن أن تحكم إلا بحكومة وحدة وطنية.
حاولنا تجسيدها بعد انتخابات 23 أكتوبر2011 واستجاب البعض ولم يستجب البعض الآخر، وكان من نتائج غياب حكومة بمثل هذه المواصفات أن كدنا نفرط في المسار الانتقالي برمته، ثم جربنا حكومة الكفاءات المستقلة وكانت تجربة ككل التجارب فيها الفشل وفيها النجاح.
اليوم نحن أمام نتائج انتخابات، والشعب ينتظر من السياسيين أن يحكموا بالتعاون مع الفنيين والكفاءات الوطنية، والمُؤكد أن موضوع الوحدة الوطنية هو موضوع أساسي في النظرة السياسية لحركة النّهضة وفيما يحتاجه الواقع التونسي.
التزمنا كما قلت في الحملة الانتخابية بأنه في حال فوزنا في الانتخابات سنعمل على تشكيل حكومة وطنية تضم أغلب الاطراف الرئيسية في البلاد والآن نحن الطرف الثاني ولا تقع على عاتقنا مسؤولية تشكيل الحكومة.
في الديمقراطية العريقة يكون الحزب الثاني في الانتخابات آليًا في المعارضة، وكلنا استعداد لأن نكون فيها فلا رغبة لنا فئوية أو شخصية في الحكم وإنما تعتبر المشاركة فيه رغم أعبائه مصلحة وطنية، ولكن إن اختار الحزب الذي تحصل على أعلى الأصوات، تصورًا آخر للحكم فسنكون في المعارضة وستكون معارضتنا قطعًا بنّاءة.
مؤخرًا تم انتخاب مكتب مجلس نواب الشعب التونسي، قدم حزب نداء تونس “محمد الناصر” للرئاسة ونالها في حين أنكم لم تقدموا – ولو رمزيًا – مرشحكم، أيضًا رشحتم الأستاذ “عبد الفتاح مورو” دون منافسة من الحزب الأول ونلتم النيابة الأولى؛ وهو ما دلل على ما اسماه البعض صفقة، مالذي حصل ليلة الخميس التي سبقت موكب انتخاب المكتب علمًا وأنه تسربت أخبار عن لقاء جمع وفدًا من حركة النهضة بقيادات حركة نداء تونس؟
بداية “محمد الناصر” شخصية وطنية تاريخية، مساره في الحزب الدستوري مشرف إذ كان من الثلة التي استقالت احتجاجًا على انفراد رئيس الحزب وقتها وعلى التضييق على الديمقراطية الحزبية، وكان له دائمًا توجه اجتماعي قرّبه من الفئات المهمشة ومشاغلها وأيضًا من الطبقة العاملة والاتحاد العام التونسي للشغل، وكان أيضا مقترحًا في حكومة “حمادي الجبالي” ليتولى الإشراف على المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي الحركة لا مشكلة لها مع هذا الرجل بل تعتبره صديقًا لها وحتى لو لم يكن هنالك تفاهم بين الحركة ونداء تونس لما عارضنا صعوده لرئاسة المجلس في تقديري.
وإجابة على سؤالك نعم .. كان هنالك تفاهم بين الحزبين لإنتاج ذلك المشهد الذي أفرز ارتياحًا لدى الأوساط الشعبية وفي أوساط المال والأعمال في بلادنا وأيضًا لدى المؤسسات المالية العالمية، إذ أرسلنا رسالة إيجابية حول قدرة الحزبين على التفاهم رغم كونه تفاهم جزئي لم يتجاوز ملف المشهد البرلماني تحت ضغط الحرص على احترام الدستور بالمصادقة على الميزانية في الآجال.
إذن تنفي حصول أي تفاهم أو تسوية في علاقة بالملفين الحكومي والرئاسي؟
نعم التفاهم كان جزئيًا وتعلق بالمشهد البرلماني خاصة وأن الطرف الآخر “حركة نداء تونس” لا يريد فتح الملف الحكومي قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية ونحن نتفهم هذا وسنتفاعل إيجابيًا مع أي مقترح يقدم لنا، مبدئيًا نحن نرأس لجنة المالية ونمارس دورنا في المعارضة إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.
أعود إلى موقف الحياد الذي اتخذته حركة النهضة في علاقة بملف الانتخابات الرئاسية، ماهي مرتكزات هذا الموقف ولماذا الإصرار على هذا الموقف خاصة وأن أغلب النهضويين كانوا وراء مرور أحد المترشحين للدور الثاني بل وباتوا يُوصفون اليوم بحالة الانقلاب الوجداني لفائدة المترشح المنصف المرزوقي؟
(مبتسما) .. سُئل طوني بلير في بريطانيا عن الفرق بينه وبين جون ميجر (رئيس حزب المحافظين) فأجاب الفرق بيني وبينه أني أقود حزبي وهو يقوده حزبه، وهذه المعادلة أدت في مرحلة لاحقة لأن يفوز طوني بلير ولأن يبقى مدة طويلة في الحكم.
القيادة مهمتها أن تقود وأن تبحث عن الموقف السياسي الذي يحقق مصلحة البلاد أساسًا ثم مصلحة الحزب خاصة في الأزمات حتى لو تصادم مع التوجهات العامة.
الحركة اتخذت الموقف السياسي الذي تقدر أنه الأصلح للبلاد وتركت حرية الاختيار لأبنائها ولم تنتصر لأي مرشح على حساب الآخر وعيًا منها بأن هذه الانتخابات الرئاسية هي الأولى من نوعها التي تقع في تونس بهذا الشكل وهي ليست وليدة الظّرف الآني وإنما تأتي كترجمة لمسارات طويلة من العلاقات بين الفاعلين السياسيين.
هي انتخابات تشوبها الكثير من العاطفة والوجدان كما ذكرت ومن التراكمات التاريخية أيضًا، والانتخابات القادمة ستكون أكثر هدوءًا.
ليس صحيحًا بأن الحركة مارست ازدواجية الخطاب والممارسة، ولست متأكدًا من أن كل النهضويين انتخبوا مرشحًا بعينه، وعلى كل عندما نحلل الخارطة البشرية التي حضرت في اجتماع القبة الأخير للمنصف المرزوقي نجد تمايزًا واضحًا بينها وبين من يؤثّث اجتماعات حركة النّهضة؛ وبالتالي هنالك تمايز حقيقي.
مواصلة في نفس الملف، ما حقيقة ما يروج عن طلب قدمه لكم السبسي يقضي بتقليص عدد مراقبيكم لفائدة المنصف المرزوقي؟
لا لا صحّة لهذا الخبر وهذا الطلب، ولكن كان هنالك احتجاج بُث علنًا على وسائل الإعلام من طرف قيادات في نداء تونس حول أن جلّ مراقبي السيد المنصف المرزوقي هم من أبناء الحركة وهذا صحيح ولم يكن مقصودًا،
الحركة وجّهت أبناءها لاعتبارات بيداغوجيّة وسياسية للمشاركة في مراقبة الانتخابات لأننا حرمنا من تقديم مرشح للمحافظة على الاستقرار والسلم الأهلي رغم أنه لا تعوزنا الوجوه ولا الكاريزمات القيادية، لكن هذا لا يعني أن نغيب بالكامل.
كنا نتمنى أن يتم توجيه ملاحظينا لتعزيز المراصد المدنية المستقلة، لكن صار خلل على مستوى تطبيق توجيهاتنا بالمشاركة في مراقبة العملية الانتخابية؛ ما أعطى انطباعًا مفهومًا لدى الطّرف الآخر بأننا مارسنا الازدواجية.
كثر الحديث مؤخرًا عن التسوية بين الدساترة وحركة النهضة، هل سيكون من بين الملفات التي ستفرضها التسوية إعادة النّظر في ملف العدالة الانتقالية كما لمح لذلك الباجي قائد السبسي؟ هل ستُصوت كتلتكم لفائدة أي تعديل يمس تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة أو إطارها القانوني؟
رأينا كيف دشن السيد محمد الناصر مؤخرًا المقر الرئيسي لهذه الهيئة وكانت كلمته ايجابية جدًا، ونحن في حركة النهضة نرى في مسار العدالة الانتقالية قاطرة بين الماضي والمستقبل ومفتاحًا لتسوية شاملة من خلال المحاسبة والمصالحة … البلاد تحتاج أن تعالج ملفات الماضي حتى تنكب على ملفات المستقبل الأعقد بكثير من ملفات الماضي.
عدا ما قيل على هامش الحملة الانتخابية والذي لم نلمس فيه إصرار، لا توجد نية – حسبما أعلم – لمراجعة هذا الملف ومراجعته لن تكون سهلة خاصة مع المشهد النيابي والحاضر القانوني المعقد.
هل توجد ضمانات حقيقية لعدم عودة الاستبداد والتّضييق على الحريات؟ المرشح المرزوقي بنى حملته على هذ المعطى في حين أنكم على ما يبدو متفائلون.
الضمانة الأساسية هو هذا الشعب الذي قاد الثورة وأنتج عبر الانتخاب في مرحلة أولى دستورًا وزعت فيه السلطات بطريقة معقدة جدًا سواء داخل السلطة التنفيذية نفسها أو في علاقتها بمجلس نواب الشعب، ناهيك عن المؤسسات الدستورية والهيئات الرقابية، ثم أنتج في مرحلة ثانية مشهدًا سياسيًا منع تغول أي كتلة ووزع الحضور السياسي على الكتل المختلفة توزيعًا معقدًا أيضًا.
بالإضافة إلى ما سبق هنالك دعم دولي لإنجاح هذه التجربة بأخف الأضرار وهو ما يجعل الرجوع إلى الوراء مسألة صعبة، لكن إذا ما انقلبت موازين القوى بطريقة تسمح بالنكوص على المكتسبات السياسية للثورة فلن يقدر على منعها شخص وإن كان رئيسًا للجمهورية خاصة إذا لم يكن له من الصلاحيّات ما يسمح له بذلك.
مؤخرًا، تابعنا البيان شديد اللهجة الذي أصدرته الجبهة الشعبية والذي ورد بخطاب غريب لم نعهده في الساحة السياسية على الأقل في الفترة الأخيرة .. وهو ما يضطرنا للسؤال حول طبيعة العلاقة التي تجمعكم بها وما الذي يحدث بين الحزبين؟
الذي يحدث هو صعوبة لدى الإخوة في الجبهة الشعبية في التفاعل مع حجمهم البرلماني والشعبي الجديد، أنا أقول بأن حجمهم يفرض عليهم الاقتراب نحو منطقة الوسط أكثر بما يحتاجه من إنتاج خطاب أكثر تطمينًا لناخبيها وللشعب عمومًا، ويفرض عليهم أيضًا التخلّي عن خطاب المعارض العدمي.
نحن في وضع قريب من الديمقراطية، والديمقراطية جوهرها هو جلب الناس نحو دائرة الوسط ونحو دائرة التفاهمات والتوافقات والبحث عن المصلحة العامة لأن الشعب يقيم الأطراف السياسية بمستوى المسؤولية الذي تبديه سواء في الخطاب أو في الفعل السياسي.
الجبهة الشعبية ستتطور بالنظر إلى جملة الكفاءات والعقول التي تحتويها كالأستاذ “حمّه الهمّامي” أو “المنجي الرّحوي” أو “زياد لخضر”، وستعدل في خطابها مع الوقت.
الساحة السياسية كلها بصدد التطور والتأقلم مع الأوضاع الجديدة وسنحتاج للصبر على بعضنا البعض إلى حين استقرار جميع مكوناتها.
هذا البيان مثل طفرة وحوى نغمة استئصالية كريهة؛ ولذلك كان رد حركة النهضة شديدًا أيضًا حتى يلزم كل طرف حدوده وكي لا يظن أحدٌ بأن الطّرف الأكبر في البلاد يُمكن أن يُنظر له بمنطق الفيتو والإقصاء وهو أمر لا يجوز ولايليق بهذه التجربة.