أطلت أزمة الانقطاع المتكرر للكهرباء في مصر بوجهها مرة أخرى بعد غياب دام قرابة 8 سنوات، حيث شهدت البلاد انقطاعًا غير مسبوق في التيار الكهربائي خلال الأيام الماضية، تراوح ما بين ساعة إلى 10 ساعات في بعض المناطق، وسط امتعاض واحتقان لافت من المصريين في ظل حرارة الجو المرتفعة التي تجاوزت حاجز الـ40 درجة مئوية.
تأتي تلك الأزمة في ظل الاحتفاء والتفاخر الشديدين من السلطة وإعلامها الموالي خلال السنوات الماضية بما تحقق من إنجازات في مجال الكهرباء والطاقة، حيث الوصول إلى الاكتفاء الذاتي وإنتاج فائض للتصدير، بعدما ضخت الدولة عشرات المليارات لتنمية وتطوير هذا القطاع منذ عام 2014 وحتى اليوم.
ووصلت معدلات انقطاع الكهرباء في بعض القرى والمناطق النائية قرابة الـ12 ساعة يوميًا، حيث كان القطع ساعة وساعة، فيما تقل أكثر وأكثر في المناطق الحضرية والمدن الرئيسية، وسط اتفاق من الجميع على أن ما يحدث كارثة بكل المقاييس تزيد خنق المصريين وتثقل معاناتهم مع هذا الحر الشديد.
تساؤلات عديدة فرضت نفسها على منصات التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية المختلفة بشأن أسباب هذا الانقطاع المتكرر بعد 8 سنوات من الانتظام، حيث استذكر البعض فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي التي كانت تشهد انقطاعًا كبيرًا في الكهرباء، لكن الفارق اليوم حجم الاستثمارات التي تم ضخها في القطاع لتحسينه وتطويره عكس ما كان عليه الوضع في السابق، وهو ما يجعل الانقطاع اليوم مسألة عبثية تحتاج إلى تفسير عاجل.
لميس الحديدي:🗣
هناك مناطق في الصعيد وصلت فيها فترات انقطاع الكهرباء 6 ساعات وفي المعادي 3 ساعات بينما الساحل الشمالي كان متلألئ pic.twitter.com/UfdHzWguWM
— Cairo 24 – القاهرة 24 (@cairo24_) July 22, 2023
نقص الغاز.. السبب الرئيسي
حالة السخط التي خيمت على الشارع المصري جراء عودة ظاهرة الانقطاع أجبرت رئيس الحكومة مصطفى مدبولي على الخروج ببيان لشرح أسباب ما حدث، قائلًا: “استهلاك الكهرباء في مصر زاد بصورة كبيرة، ما انعكس أيضًا على زيادة حجم استهلاك الغاز المستخدم في إنتاج الكهرباء، وإحداث ضغط شديد على الشبكات الخاصة به، ما أدى إلى انخفاض ضغوط الغاز في الشبكات الموصلة لمحطات الكهرباء”.
تبريرات مدبولي زادت من سخط المصريين بعدما تبين لهم أن السبب الرئيسي وراء حالة الاختناق التي يعانون منها جراء انقطاع الكهرباء هو بحث الدولة عن العائدات الدولارية المحققة نتيجة بيع الغاز، حتى لو كان الثمن قطع الكهرباء عن الشعب في تلك الأجواء الحارقة وما يترتب عليها من تبعات صحية واجتماعية واقتصادية صعبة.
المصادر داخل الحكومة ووزارة البترول أكدت في تصريحات لها أن نقص الغاز هو السبب الرئيسي في انقطاع الكهرباء، خاصة بعد انخفاض إنتاج حقل ظهر، أكبر حقول الغاز في مصر، الذي يمثل نحو 40% من إنتاج الغاز المصري، حيث تراجع إنتاجه من 2.8 مليار قدم مكعب يوميًا في 2021 إلى 2.2 مليار قدم مكعب اليوم، هذا بخلاف عدم وجود اكتشافات نفطية أو غازية جديدة خلال الفترة الأخيرة.
بيان هام من الشركة القابضة لكهرباء مصر
فيما تم اتخاذه من إجراءات حفاظًا على السادة المواطنين من انقطاعات التيار الكهربائي الفترة الحالية.#انقطاع_الكهرباء #وزارة_الكهرباء و #الشركة_القابضة #دائماً_معكم pic.twitter.com/kSXLBNBlQg
— Egyptian Electricity Holding Company (@EEHCSM) July 22, 2023
وتراجع إنتاج مصر من الغاز بصفة عامة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة إلى أدنى مستوياته بعدما سجل 5.841 مليار قدم مكعب في مايو/أيار 2023، مقارنة بـ7.1 مليار قدم مكعب في سبتمبر/أيلول 2021 و6.073 مليار متر مكعب خلال الفترة من يناير/كانون الثاني وحتى أبريل/نيسان من 2023، وهو الانخفاض الثامن له في الـ36 شهرًا الماضية، بحسب بيانات مجلة “ميس” الأمريكية.
كما أن كميات الغاز المستوردة من “إسرائيل” التي تتراوح بين 600 – 700 مليون قدم مكعبة يوميًا (كان يتم تصديرها بالكامل بعدما حققت مصر الاكتفاء الذاتي) تنخفض هي الأخرى في فصل الصيف بسبب ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الاستهلاك في “إسرائيل”، كما أشار وزير البترول المصري طارق الملا في تصريحات صحفية له في سبتمبر/أيلول 2022.
الأولوية للعوائد الدولارية
ومع تراجع إنتاج مصر من الغاز، بدأت الدولة في تبني خطة لترشيد استهلاك هذا المورد في محطات الكهرباء، في أغسطس/آب الماضي، وكان الهدف من ذلك توفير 18% من كميات الغاز المستخدمة في توليد الكهرباء داخل المحطات التي تستهلك نحو 60% من إجمالي استهلاك الغاز في البلاد.
ورغم انخفاض الإنتاج وحاجة المحطات إلى كميات إضافية من الغاز ما تسبب في تعطل بعض تلك المحطات وتراجع إنتاجها من الكهرباء، لجأت الحكومة المصرية إلى تصدير المتبقي من الغاز للخارج، وذلك للحصول على العملة الصعبة لمواجهة العجز في النقد الأجنبي الذي تعاني منه مصر مؤخرًا.
ونتيجة لتلك السياسة التي هاجمها الكثير من الاقتصاديين في مصر، يتوقع استمرار تلك الأزمة حتى نهاية العام الحاليّ، خاصة بعدما دخلت بعض المحطات العملاقة للصيانة، ما يعني توقفها عن الإنتاج، الأمر الذي يتنافى مع تصريحات رئيس الحكومة بأن ظاهرة الانقطاع تلك ستنتهي في غضون أسبوع على الأكثر مع انكسار موجة الحر الحاليّة.
وكان وزير البترول المصري قد قال قبل عام تقريبًا إن بلاده “تستهدف تصدير نحو 10 مليارات دولار من الغاز في السنة المالية 2022-2023″، لافتًا أن القاهرة خلال العام المالي 2021/2022 صدرت كميات غاز بقيمة تصل إلى 6.5 مليار دولار، وأن الدولة ماضية في هذا التوجه لسد العجز في الاحتياطي الدولاري الذي تسبب في موجة تضخم هي الأشرس في مصر منذ مئات السنين.
رجل الأعمال نجيب ساويرس يعلق على #انقطاع_الكهرباء بعموم المدن والقرى في #مصر#مزيد#قاطع_النور pic.twitter.com/zcwgo4BH1h
— مزيد – Mazid (@MazidNews) July 22, 2023
تساؤلات عن استثمارات الكهرباء
في 2012/2013 حين كان التيار الكهربائي يتعرض لتقطع مستمر (وكان ذلك ضلعًا رئيسيًا في حزمة المسببات التي زادت من سخط قطاع كبير من المصريين ضد حكم الإخوان وقتها) كان القطاع برمته يعاني من أزمات حادة وتآكل في كثير من فروعه وموارده، رغم ما أثير حينها بأن الانقطاع كان بفعل فاعل لتأليب الشارع ضد مرسي وحكومته.
لكن اليوم الوضع بات مختلفًا، والقطع لم يكن له مبرر على الإطلاق، وذلك بعد ضخ عشرات المليارات من الدولارات لتطوير شبكة الكهرباء وبناء محطات جديدة، فضلًا عن الاكتشافات المستمرة التي تعلن عنها الدولة بين الحين والآخر لحقول غاز ونفط، الأمر الذي يجعل من الانقطاع حاليًا مسألة جدلية مثيرة للتساؤل والاستغراب وغير مبررة بالمرة.
تشير التقديرات إلى أن السلطات المصرية أنفقت على تطوير قطاع الكهرباء منذ عام 2014 وحتى اليوم ما قيمته 275 مليار دولار، أبرزها إنشاء 3 محطات عملاقة في العاصمة الإدارية الجديدة (شرق) ومحافظة بني سويف (جنوب) ومحطة البرلس بمحافظة كفر الشيخ (شمال) وذلك بالشراكة مع شركة “سيمينز” الألمانية وبطاقة إجمالية تصل إلى 14.4 ألف ميغاواط، بحسب صحيفة “إندبندنت“
شعبة الألبان: #انقطاع_الكهرباء فى مصر يخفض إنتاج #مراكز_الألبان بنسبة 30% بسبب التلفيات وتوقف بعض المصانع عن العمل !!! pic.twitter.com/3FpCJC5A7e
— Dr.Sam Youssef Ph.D.,M.Sc.,DPT. (@drhossamsamy65) July 21, 2023
كما أدخلت الحكومة تحديثات متطورة على خطوط نقل الكهرباء “حيث تم إضافة خطوط على جهد 500 ك.ف بإجمالي أطوال 4613 كم وبنسبة زيادة قدرها 150%عن وضع الشبكة عام 2014، وكذلك زيادة سعات محطات محولات جهد 500 ك.ف تم إضافة 21 محطة محولات على جهد 500 ك.ف بإجمالي سعات 33375 م.ف.أ بنسبة بزيادة قدرها 340%عن وضع الشبكة عام 2014”
وكان نتاجًا لذلك أن زادت قدرة الطاقة المولدة بالشبكة القومية الموحدة عام 2020-2021 إلى 59530 ميغاواط بزيادة قدرها نحو 12.2%، فيما تجاوزت كمية الطاقة الكهربائية المولدة نحو 204.8 مليار كيلو واط/ ساعة (179.7 مليار كيلو واط/ ساعة من المصادر الحرارية بنسبة 87.%، و14.8 مليار كيلو واط/ ساعة من المصادر المائية، و5.2 مليار كيلو واط /ساعة من مزارع الرياح، و4.9 مليار كيلو واط/ ساعة من الطاقة الشمسية).
السياسات الاقتصادية.. فشل ذريع
الانحدار المفاجئ من فائض في الإنتاج بلغ 13 ألف ميغاواط في 2020 دفع مصر للتقدم 44 مركزًا في مؤشر جودة إمدادات الكهرباء بتقرير التنافسية العالمية في عام 2019 إلى التراجع الكبير خلال الأشهر الثلاث الماضية تسبب عنه انقطاع متكرر للتيار، أثار الكثير من التساؤلات بشأن السياسات الاقتصادية المتبعة في ملف الكهرباء بصفة عامة.
وكانت تلك التساؤلات الجدلية قد بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2018 حين أعلنت شركة الكهرباء المصرية وقف الإنتاج في عدد من محطاتها المدشنة حديثًا، وكان السبب حينها وفرة الإنتاج، لكن فوجئ الجميع في مايو/أيار 2019 بإعلان وزير الكهرباء محمد شاكر خلال تصريحات له لوكالة “بلومبيرج” الأمريكية عن وجود عروض ( من شركتي “زارو” المملوكة لشركة بلاكستون الأمريكية، و”إدرا” الماليزية) لشراء 3 محطات كهربائية تديرهم شركة سيمينز الألمانية.
اعتقلت #السلطات_المصرية القيض على فتاة رفعت لافتة مكتوب عليها “#مصر منوره بأهلها واسرائيل منوره بغازنا” أمام مبنى محافظة #السويس شرقي مصر، في احتجاجات على #انقطاع_الكهرباء وسط ارتفاع درجات الحرارة الى نحو 48 درجة مئوية.#فتاة_السويس#حوار_الكهربا https://t.co/pjvXUkqwqq pic.twitter.com/TDJFpapfcC
— Elmanshar | المنشر (@El_manshar) July 21, 2023
التساؤل حينها: كيف تبيع الدولة محطاتها الكهربائية بعد11 شهرًا فقط من بنائها بقروض حصلت عليها من الخارج وزادت من ثقل الدين الخارجي الذي تجاوز حاليًا 160 مليار دولار؟ التناقض هنا أن البيع يأتي في المقام الأول لتوفير عملة صعبة لسد جزء من القروض التي حصلت عليها الدولة لبناء تلك المحطات.
هذا المشهد العبثي المتناقض وضع السياسات الاقتصادية التي تتبناها السلطات الحاليّة في مرمى الانتقادات اللاذعة من الخبراء في المقام الأول، ثم الشارع لاحقاً بعدما تذوق الشعب مرارة الانقطاع المتكرر للتيار في هذا الجو الحارق، وزخرت منصات التواصل الاجتماعي بعشرات التساؤلات على شاكلة: أين ذهبت مليارات الاستثمارات التي طورت بها شبكات الكهرباء؟ ما الفرق بين النظام الحاليّ ونظام الإخوان رغم أن الأخير لم ينفق على تطوير الكهرباء كل تلك المليارات؟ من يحاسب الدولة على هذا الإهدار في المال العام الذي أرهق ميزانيتها التي تحولت إلى سد فوائد وأقساط الديون فيما لم يتبق منها إلا الفتات للإنفاق على الشعب واحتياجاته المتقزمة عامًا بعد الآخر؟
أزمة جديدة تضاف إلى قائمة مطولة من الأزمات التي يعاني منها الشعب المصري جراء السياسات الاقتصادية التي تفتقد لمبادئ وأبجديات الاقتصاد، كما تتجاهل وعن عمد فقه الأولويات في إدارة الاحتياجات، وتخضع في المقام الأول لرأي وتوجهات الرئيس الذي قال أكثر من مرة إنه لا يعتمد على دراسات الجدوى في تدشين المشروعات التي تقوم بها الحكومة، ليواصل المصريون نزيف المعاناة اليومية في شتى المجالات وسط إصرار غير مفهوم من السلطات على المضي قدمًا في طريقها حتى لو كان على حساب الملايين من أبناء هذا الوطن.