عندما أنتج الكاتب الروائي السوداني المعروف عبد العزيز بركة ساكن روايته الشهيرة “مسيح دارفور” لتوثيق جرائم الحرب التي ارتُكبت في الإقليم في بداية الألفية الثالثة، تعامل كثيرون مع قصص الفظائع التي تورطت فيها مليشيا الجنجويد على أنها مبالغات لا تعكس حقيقة الأوضاع، إذ لم تكن الهواتف الذكية متاحة آنذاك كما اليوم ليستخدمها الناس في كشف الجرائم وتوثيقها.
منعت كذلك الحكومة وسائل الإعلام المستقلة والمنظمات الحقوقية من الدخول إلى الإقليم للقيام بعملها ونقل ما يدور من جرائم مروعة، إلا أنها، وبمساعدة أذرعها الإعلامية، روجت لنظرية المؤامرة وأن السودان مستهدف من دول الغرب، وكانت الدعاية تقوم على إنكار تلك الفظائع بشكل كامل.
حرب الـ15 من أبريل/نيسان الماضي، وما أعقبها من انتشار هائل لمليشيا محمد حمدان دقلو “حميدتي” في شوارع الخرطوم ومدن دارفور، جعلت الناس يدركون تمامًا أن ما ذكره بركة ساكن في روايته عن الجنجويد لم يكن كذبًا ولا مبالغة، فقد استباحوا بشكلٍ ممنهجٍ ممتلكات المواطنين وأموالهم ومنازلهم وأعراضهم، واعتقلوا واختطفوا الآلاف من المدنيين من الجنسين وفق تقديرات منظمات حقوقية.
و”الجنجويد” في رواية مسيح دارفور، هم “قوم عليهم ملابس مُتسخة، مُشرّبة بالعرق والأغبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة، على أكتافهم بنادق تطلق النار لأتفه الأسباب، ليس لديهم حرمة للروح الإنسانية، لا يفرقون مطلقًا بين الإنسان والمخلوقات الأخرى، ليس معهم نساء ولا أطفال، ليس بينهم مدني ولا مثقف ولا متدين، ولا منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم..”.
غنائم حرب
مَن يشاهد صور النهب والاعتداءات على منازل المواطنين والبنوك والسفارات الأجنبية والمحلات التجارية يدرك أن الجنجويد كانوا يتعاملون مع كل ما في العاصمة الخرطوم ومدن دارفور على أنها غنائم مشروعة، إذ يقتلون ويغتصبون وينهبون ويحرقون ويحتلون منازل المواطنين والمستشفيات والسفارات والشركات الخاصة.
وصل مستوى إجرام الجنجويد مؤخرًا إلى استرقاق وبيع النساء المختطفات من بيوتهن في الخرطوم ودارفور، وفقًا لعدة تقارير بعضها لمنظمات معروفة مثل هيئة محاميي دارفور التي أكدت تلقيها من عدة مصادر موثوقة أنباء عن وجود أسواق في ولاية شمال دارفور، لبيع الفتيات والنساء ممن اُختطِفوا وجلبوا من المناطق المتأثرة بالحرب، ومن بينها ولاية الخرطوم.
بيع الفتاة المختطفة بـ1100 دولار
زينب كمال وهي ناشطة ومدافعة عن حقوق النساء نقلت عن إحدى قريباتها أنه عُرضت 4 فتيات للبيع في سوق “كتال” بشمال دارفور بسعر 650 ألف جنيه للبنت الواحدة (1100 دولار تقريبًا)، مشيرةً إلى أن إنسان فاضل اشتراهن ورحلهم لاحقًا إلى أهلهن في الخرطوم.
وأضافت على “فيسبوك” أن الحادثة وقعت منذ الأيام الأولى للحرب، لكن صعوبات الاتصال حالت دون التواصل بينها وبين قريبتها في دارفور، وكشفت زينب وجود عدة أسواق للإتجار بالأسيرات. واحدة منهن انتحرت بمجرد الإفراج عنها في وقت لاحق.
احتجاز نساء في نيالا
أبلغت شبكة صحة، وهي شبكة نسائية تعمل على تعزيز الوعي في منطقة القرن الإفريقي، بأنها تأكدت من احتجاز عدد غير محدد من الفتيات والنساء من الخرطوم ودارفور في مجمع سكن طلابي يتبع لجامعة نيالا “جنوب دارفور”.
⚠️ We have confirmation from Nyala, South Darfur state that an unidentified number of girls & women from Khartoum and Darfur are being held hostage in the Musaie Dorm of Nayala University.
3 of the hostages are young women who were kidnapped from Northern Khartoum – this was… pic.twitter.com/CdAXdAvbEb
— SIHA Network (@Sihanet) July 14, 2023
أشارت الشبكة في تغريدة لها على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، إلى أن 3 من الرهائن شابات اختطفن من الخرطوم بحري – وهذا ما أكدته إحداهن التي تمكنت من الفرار والإبلاغ عما يحدث، وأعادت الشبكة التذكير بأن جامعة نيالا تخضع لسيطرة “الدعم السريع”، محملة إياها المسؤولية عن أي ضرر يقع لهؤلاء الفتيات.
الاختطاف والاغتصاب كجرائم حرب
لطالما استخدمت مليشيا الجنجويد الانتهاكات ضد النساء بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي والاختطاف كسلاح حرب خلال صراع دارفور، إذ أبلغت العديد من المتظاهرات اللواتي شاركن في ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 ضد نظام البشير أنهن تعرضن للتحرش والإساءة من عناصر أمن الرئيس المخلوع. وبحسب شهود عيان، تغتصب المليشيا الفتيات أمام آبائهن وأشقائهن في دارفور بهدف إذلالهم وإهانتهم ومن يحاول المقاومة يُقتل.
روايات صادمة لإحدى الفارين الناجين من من بطش مليشيا ومرتزقة الجنجويد : يقومون بأخذ البنت من أسرتها ويغتصبونها أمام أبيها او أخيها ومن يعترض مصيرة رصاصة واحدة، استهدفوا الشباب بطريقة واضحة وهدفهم الأساسي ليس استهداف حكومة الجنينة بل شعب الجنينة pic.twitter.com/6CfJJpxIew
— Wli (@25Wli) July 20, 2023
ما ترتكبه الدعم السريع من فظائع مروعة، يعيد الأذهان إلى سيناريو جرائمها القائم على الانتقام العرقي خلال حرب 2003، إذ قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير جديد إنها وثّقت مقتل ما لا يقل عن 40 مدنيًا، بما في ذلك إعدام 28 فردًا على الأقل من عرقية المساليت، في بلدة مستري بغرب دارفور على بعد 45 كيلومترًا من الجنينة.
جاء في التقرير أن الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها حاصرت مستري في وقت مبكر من يوم 28 مايو/أيار، واقتحمت المنازل والمدارس وأطلقت النار على المدنيين من مسافة قريبة قبل نهب وحرق معظم أنحاء المدينة.
وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل “حكومية”، أشارت في بيانٍ لها مطلع يوليو/تموز الماضي إلى حادثة اختطاف فتاتين من منزلهما في حلفاية الملوك “شمال الخرطوم” من عناصر الدعم السريع، قبل أن تفلح الجهود الأهلية في استعادتهما، كما تحدثت الوحدة عن حادثة اختطاف طفلة قاصر في أم درمان من المليشيا ذاتها.
بينما يلفت شهود عيان إلى أن حوادث الاختطاف والاغتصاب التي تنفذها المليشيا بحق الضحايا في الخرطوم تستهدف بالتحديد فتيات تعود أصولهن العرقية إلى شمال السودان، وفي غرب دارفور تستهدف عرقية المساليت كما سبق الإشارة إلى ذلك.
الإبلاغ عن الانتهاكات قد يكون صعبًا
تمكن “نون بوست” من التحدث إلى مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة، سليمى إسحق شريف، التي أكدت أن الوحدة تلقت بالفعل العديد من التقارير عن وجود أسواق لبيع النساء في دارفور، لكنهم لم يتمكنوا من تأكيدها حتى الآن، مشيرة إلى أن منهجيتهم تقوم على التحقق الكامل وذكر التفاصيل بوضوح بما في ذلك تحديد الجناة وهذا ما لم يتم حتى الآن في ظل صعوبة الاتصالات.
قالت سليمى أيضًا إن الوضع كارثي بالفعل، مضيفة أنه منذ بداية الحرب وردت العديد من التقارير عن اختطاف نساء تحت تهديد السلاح، واختفاء الكثير منهن في ظروف غامضة، وهناك تأكيدات باحتجاز كثير من المدنيين الرجال والنساء في معتقلات الدعم السريع في الخرطوم دون إبداء أسباب.
وديتوهم وين يا دعم السجم؟! #مفقودات_أثناء_الحرب #لا_للحرب pic.twitter.com/MB6tgM4V5J
— lubna (@LUBNAxbc) July 17, 2023
أوضحت كذلك لـ”نون بوست” أنه لا يتم الإبلاغ عن العديد من حالات العنف الاجتماعي في السودان من اغتصاب واختطاف واعتداء جسدي، مشيرة إلى أن الإبلاغ عن الانتهاكات وطلب المساعدة قد يكون صعبًا – وربما مستحيلًا – بسبب انعدام الكهرباء وانقطاع الاتصالات، ذلك بجانب الوصمة الاجتماعية وتكتم أسر الضحايا خوفًا من نظرة المجتمع.
حثت سليمى كل المنظمات الأممية المعنية بالمرأة والطفل والمؤسسات الدولية على إدانة كل جرائم الحرب التي ترتكبها الدعم السريع وضمان محاسبة جميع المتورطين في هذه الجرائم.
نضيف إلى حديث سليمى أن إدانة السلوك الإجرامي للمليشيا خاصة العنف الموجه ضد النساء من اغتصاب واختطاف وإتجار يجب ألا يقتصر فقط على المنظمات الأممية المعنية بالمرأة والطفل، بل إنه يجب أن تصدر إدانات بأشد العبارات من الأحزاب السياسية خاصة أحزاب قوى الحرية والتغيير التي تدعي تمثيل الشعب السوداني بصفتها تحالف سياسي مدني محسوب على الثورة ضد نظام البشير.
لا يمكن السكوت على فظائع مليشيا حميدتي التي باتت تزداد يومًا بعد يوم حتى وصلت إلى اختطاف النساء والإتجار بهنّ، فالمليشيا لم تتمادَ في هذه الجرائم إلا لأن أعضائها يشعرون بالحصانة من العقاب، ولذلك الحديث عن تلك الانتهاكات بقوة يُعرّي المتورطين ويفضحهم مما يشجع على التوقف عنها والضغط لأجل محاسبة المتورطين.
في السياق ذاته، نظمت حركة نون النسوية جلسة نقاشية “إسفيرية” للتشاور بشأن كيفية التصدي لكارثة اختطاف النساء والإتجار بهنّ، ولا بد أن تتسع المظلة لتشمل جميع الأحزاب السياسية ولجان المقاومة والمنظمات من أجل تشكيل شبكة موحدة للضغط من أجل التحقيق في قضايا اختطاف النساء والأطفال من مختلف المدن والولايات السودانية، والتأكيد على فرض آليات التحقيق والمحاسبة العاجلة للمتورطين في العنف الممنهج ضد النساء.