يمشي محمد الفضل بين الخيام للاحتماء بظلها من درجات الحرارة التي تجاوزت 40 درجة مئوية، كان هذا مشوار محمد الخامس ضمن رحلته اليومية بين جبال وصخور منطقة مشهد روحين شمال إدلب، حيث يغدو ويعود لجلب مياه الشرب لعائلته التي تحاول تدبير أمورها في ظل الحر الشديد.
كان محمد يرتاح قليلًا حين روى لـ”نون بوست” أنه يسكن مع عائلته منذ عدة سنوات بالمنطقة، حيث استقرَّ ضمن تجمُّع مخيمات هناك بعد تهجيره من مسقط رأسه في ريف معرة النعمان الشرقي، في خيام لا تقي برد الشتاء ولا حرّ الصيف، لكن بالصيف يضاف إليها انتشار الأمراض والحشرات الضارة.
أضاف محمد أن هذا حاله منذ بداية فصل الصيف، فيوميًّا عليه السير عدة مرات ذهابًا وإيابًا ليملأ ما استطاع من المياه في أوعية صغيرة ويأتي بها إلى خيمته، بسبب عدم قدرته على شراء المياه، إذ إن طول أمد النزوح جعله تحت خط الفقر، وأسعار المياه في ارتفاع مستمر، فقد وصل سعر الصهريج الواحد من الماء إلى قرابة 250 ليرة تركية، وهي أجرة عامل مياومة لمدة 6 أيام إن وُجد العمل.
من أصل 1489 مخيمًا منتشرًا في شمال غرب سوريا، يبلغ عدد المخيمات التي تعاني من انعدام مياه الشرب اللازمة 590 مخيمًا
وبسبب عدم قدرة محمد على دفع تلك التكلفة بشكل مستمر، قرر نقل المياه من مكان بعيد، لا سيما أنه يكلفه مجهودًا بدنيًّا فقط، ولن يحتاج إلى دفع الأموال، لكن الأمور لا تنتهي عند نقل المياه، إذ يتوجّب عليه الآن أن يرسم خطةً جديدةً لاستهلاك الماء المتوفر لديه، لتكون فيها الكمية المستهلكة توازي الأسبوع الماضي، رغم كون هذا الأسبوع أشد حرارة على حد وصفه.
وقال إنه ربما يتوجب عليه وعلى عائلته عدم الاستحمام لفترة طويلة، وأن يقتصر استهلاك المياه على الأساسيات فقط.
وبحسب إحصائيات منظمة “منسقو الاستجابة في سوريا”، فأنه من أصل 1489 مخيمًا منتشرًا في شمال غرب سوريا، يبلغ عدد المخيمات التي تعاني من انعدام مياه الشرب اللازمة 590 مخيمًا، إضافة الى انخفاض مخصصات المياه في باقي المخيمات نتيجة انخفاض الدعم، وارتفاع معدل استهلاك المياه نتيجة ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير، حيث يقدَّر احتياج العائلة اليومي من المياه النظيفة في فصل الصيف بـ 70 لترًا يوميًّا للفرد الواحد، موزعة على الشرب والاستحمام والنظافة والغسيل.
وتشتد معاناة قاطني المخيمات مع كل بداية فصل صيف، حيث تلقي أزمة نقص المياه النظيفة بثقلها على كاهل أهالي المخيمات في الشمال السوري، فالاحتياجات تزداد بشكل كبير في المخيمات بسبب ارتفاع الحرارة داخل الخيام والغبار الكثيف الذي ينتشر في كل مكان، ما يرفع حاجة النازحين في المخيمات إلى مياه الشرب والنظافة الشخصية.
كما يصعب تبريد الخيام أو تبريد الأطفال أثناء ارتفاع درجات الحرارة الكبير، وسط غياب أي نوع من الحلول الجذرية التي تخفّف معاناتهم، فضلًا عن تذبذب المشاريع الإنسانية في منطقة شمال غرب سوريا.
وبسبب أزمة المياه، لجأ قاطنو المخيمات إلى إعادة تدوير المياه لاستخدامها عدة مرات، كي يستطيعوا بكمية المياه لديهم تلبية احتياجاتهم اليومية خلال فصل الصيف.
خديجة أم محمود من سكان مخيمات جبال كللي في شمال إدلب، تقول إنهم بعد تخفيض مخصصات مخيمهم من المياه وارتفاع درجات الحارة، اضطروا إلى اعتماد خطط بديلة لمواجهة الأزمة.
وتضيف: “نحن اليوم نقوم باستعمال المياه في عدة أمور، فنقوم بإعادة استعمالها بعد الاستحمام من أجل تنظيف أرض الخيمة، وذلك لتوفير أكبر كمية من المياه، كما أن غالبية العائلات خفّضت عدد مرات الاستحمام إلى مرة واحدة أسبوعيًّا”.
كذلك، تعمل خديجة، كما غالبية من في المخيم، على جمع المياه التي تنتج عن غسل الأطباق وغسل الخضار، لتقوم برشّها على الخيمة وفي محيطها علّها تساعد في تبريد الأجواء الحارة، أملًا في أن تخفّف هذه الطريقة القليل من قيظ الحر الذي حوّل الإقامة في الخيام خلال ساعات النهار إلى جحيم لا يطاق.
بجوار خديجة كان زوجها سعد يساعدها -وهو يتصبّب عرقًا- برشّ البطانيات والمراتب داخل خيمته، قبل أن يبادر إلى رشّ ما بقيَ من الماء في الإناء على طفلَيه الصغيرَين، للتخفيف عنهما نتيجة موجة الحر التي تضرب المنطقة.
واشتكى سعد من أن خيمتهم القماشية المهترئة تتحول إلى ما يشبه الفرن في أوقات الظهيرة، وقال إن الوقوف تحت الشمس في العراء أرحم من الجلوس داخلها، وهو ما يدفعه منذ أيام إلى ترطيبها من الماء الذي يعيد استخدامه، كون المياه الجديدة مخصصة للأمور الأكثر أهمية.
وحال خديجة وعائلتها هو حال مئات الأسر التي تقطن مخيمات في ريف إدلب شمال غربي سوريا، إذ تفتقر المخيمات إلى المياه النظيفة والطاقة الكهربائية، ما يجعل تشغيل المراوح في فصل الصيف أمرًا مستبعدًا، إن توفّر المال لشرائها.
وبعد 12 عامًا من بدء الأزمة الإنسانية في سوريا قضاها الكثير من النازحين في المخيمات، وسط أوضاع إنسانية متردية تزداد سوءًا كل يوم، بسبب قلة فرص العمل وصعوبة العيش في المخيمات، بالإضافة إلى التجاذبات الدولية التي تضع مصير ملايين النازحين رهنًا بالخلافات أو التوافقات الدولية، حيث لا يزال الفيتو الروسي يقف عائقًا في كل مرة أمام تمديد إدخال المساعدات أو رفع نسبها.
وبحسب بيانات البنك الدولي، فإن خسائر قطاع المياه هي الأعلى في سوريا عمومًا، إذ بلغت 121 مليون دولار، كما أدّى النزاع المسلح إلى مقتل ولجوء العديد من العاملين في قطاع المياه والصرف الصحي، ولا يحصل سوى ثلثَي السوريين على المياه من مصادر تتراوح درجة خطورتها بين المتوسطة والعالية، وانخفض معدل توافر المياه في سوريا من 75 ليترًا لكل شخص يوميًّا إلى 25 ليترًا.