في منازل سكنية تبدو أقرب إلى كونها صناديق أسمنتية مغلقة، يعيش قرابة المليوني فلسطيني في قطاع غزة أزمةً اقتصادية خانقة ومعيشية حارقة، تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة صيفًا، وانخفاض ساعات وصل التيار الكهربائي لأقل من 4 ساعات مقابل 20 ساعة قطع يوميًّا.
تجدُّد أزمة الكهرباء جاء لينكأ جراح المحاصرين في فصل الصيف، ما اضطرهم إلى زيادة الاعتماد على بدائل الطاقة للتخفيف من حدة الجحيم الذي يعيشونه ليلًا نهارًا، لكن ما اعتقدوا أنه سيكون حلًا لهذا الواقع المر، ثقل جيوبهم بأعباء إضافية.
تصف المسنّة، عائشة أبو النور، حياتها برفقة ابنها وأسرته في منزلها الصغير بمخيم جباليا شمال القطاع بـ”فرن الشواء”، تقضي معظم وقتها دون هواء أو نور وطقس حارق، ما يدفعها لاستخدام أواني بلاستيكية للتهوية عوضًا عن المراوح الكهربائية، أو مصادر التبريد الأخرى.
وتقول: “هذه ليست معيشة، في النهار أجلس أمام المنزل للحصول على نسمة هواء، وبالليل أختنق بسبب شدة الحرارة والرطوبة، لا نستطيع تشغيل المراوح على البطارية الكهربائية، كونها مخصّصة لإنارة المصابيح الصغيرة فقط”.
تضيف أيضًا: “ينتظر ابني مجيء الكهرباء بفارغ الصبر ليفوز بشحن البطاريات للإضاءة ليلًا، حتى أرى العقاقير الطبية التي أتناولها ولا أخطئ فيها”، وتذكر أنها سابقًا تعرّضت لوعكة صحية خطيرة، نتيجة تناولها أحد العقاقير الطبية بالخطأ لحظة انقطاع التيار الكهربائي.
حلول الطاقة البديلة
يذكر ابنها ياسر ممتعضًا من استخدام البطاريات كإحدى أدوات الطاقة البديلة عن الكهرباء: “بدأنا استخدامها في إضاءة المنزل قبل 5 سنوات، كنا نعتمد بداية أزمة الكهرباء على ضوء الكاز، لكنه كاد أن يحرق المنزل ذات ليلة فتركناه نهائيًّا، إذ يبلغ تركيب البطارية مع الأضواء الصغيرة قرابة 200 شيكل”.
ويتابع قائلًا إن عمل البطارية مقتصر على الإضاءة فقط، فلا يستطيعون تشغيل أي من الأجهزة الكهربائية، أو شحن مصادر أخرى عليها، ويلجأ المتحدث أحيانًا إلى تبريد حرارة الصيف على أبنائه بغسلهم بالمياه نهارًا في الوقت الذي ينقطع فيه التيار الكهربائي، عوضًا عن وجود مراوح كهربائية.
وجد الفلسطينيون في قطاع غزة أنفسهم في يعتمدون أكثر على وسائل الطاقة البديلة، فنجد أنهم استغلوا فترة الأزمة طيلة 17 عامًا لتوفير سبل متنوعة، إذ اعتمدوا في السنوات الأولى على ضوء الشمعة والكاز و”الشمبر/لوكس”، لكن بعد حدوث كوراث بيئية وإنسانية خلّفت عددًا من الوفيات بسبب الحرائق، استبدلوها بوسائل أكثر أمنًا مثل بطاريات الليدات، وخلال الأعوام الأخيرة انتشرت مشاريع المولدات الكهربائية الاستثمارية، وألواح الطاقة الشمسية المتواجدة على أسطح منازل الغزيين.
المواطن كامل عودة من مخيم الشاطئ غرب غزة، يعاني من ضيق تنفُّس باستمرار نتيجة إصابته بمرض الربو، فهو بحاجة إلى وجود كهرباء بشكل دائم لتوصيل جهاز الأكسجين إلى أنفه.
يقول: “أعتمد على خط المولدات الكهربائية التجارية لإيصال الكهرباء باستمرار في المنزل، لكي أشعر بحياة شبه طبيعية ولا أفقد أنفاسي، نقوم بتشغيل مصابيح الإضاءة وجهاز التنفس ومرواح كهربائية من خلاله”. مكملًا: “كلما زادت الأجهزة الكهربائية التي تعمل على الخط بالمنزل تزيد الفاتورة، فأحيانًا تصل إلى أكثر من 200 شيكل شهريًّا، حيث ثمن الكيلو الواحد 4 شواكل”، مضيفًا أنه يدفع أيضًا فاتورة لشركة توزيع الكهرباء رغم انقطاعها، بقيمة تصل 150 شيكلًا كحدّ أدنى شهريًّا.
في السياق ذاته، صرّح الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر لـ”نون بوست” أن متوسط حجم إنفاق الفلسطينيين في غزة على الطاقة البديلة منذ بداية الأزمة قبل 17 عامًا، بلغ 2 مليار دولار أمريكي خلال سنوات الحصار، واصفًا الرقم بالمهول ويكفي لإنشاء عدد من محطات لحلّ معضلة الكهرباء.
يأتي حجم الإنفاق على الطاقة البديلة في ظل تدني متوسط دخل الغزيين إلى 200 شيكل، أي ما يقارب 50 دولارًا، وهناك أسر لا يدخل عليها أي مصادر دخل شهريًّا، لكنها تعتمد على الطاقة البديلة وهذا ظلم حقيقي، بحسب أبو قمر.
من المسؤول؟
دعونا نسترجع بداية الأزمة عام 2006، عندما قصف الاحتلال الإسرائيلي محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع، ما أدّى إلى توقفها بالكامل حتى عام 2009، حين تدخّل الاتحاد الأوروبي وعمل على إصلاحها جزئيًّا.
منذ ذلك الوقت يعيش القطاع في عجز كهربائي حادّ، تدخلت عدة أطراف في أسبابه تتمثل بالحصار الإسرائيلي، وهو السبب المباشر، وأسباب سياسية لها علاقة بالانقسام الفلسطيني، بين غزة التي تديرها حركة حماس والضفة التي تديرها سلطة رام الله.
تعتمد غزة على 3 مصادر للحصول على التيار الكهربائي، هي خط شركة توليد الكهرباء بغزة تنتج قرابة الـ 75 ميغاواطًا، وهي مؤسسة ربحية خاصة؛ وخطوط تورَّد من الداخل الفلسطيني المحتل عبر شركات إسرائيلية توفر قرابة الـ 120 ميغاواطًا؛ والثالث خطوط الكهرباء المصرية التي مدّت يدها لتخفيف أزمة القطاع عام 2011، لكنها تعطّلت عام 2018.
ازدياد التشابك والتعقيد دون أي حلول في ملف الكهرباء، خاصة مع تراجع ساعات وصل التيار من 8 إلى 6 إلى 4 ساعات يوميًّا، مع موجة الحرارة الحالية؛ يثير غضب الشارع الغزي، إذ أطلق رواد مواقع التواصل الاجتماعي حملة تغريد على وسم #شغلوا-المولد-الرابع، مطالبين شركة توزيع الكهرباء بتشغيل مزيد من خطوط الكهرباء للتخفيف من حدة الأزمة.
على إثر ذلك، خرج رئيس سلطة الطاقة لدى حكومة رام الله، ظافر ملحم، في حديث إذاعي عبر إذاعة “قدس” المحلية، والذي تابعناه في “نون بوست”، محمّلًا مسؤولية عجز الكهرباء لحكومة غزة، موضّحًا أن أموال جباية حكومة غزة “حماس” من المواطنين تقدَّر بـ 35 مليون شيكل، تقتطع جزءًا منها لرواتب موظفيها فقط، متسائلًا أين تذهب باقي أموال الجباية.
وقال: “المفترض على حكومة غزة دفع باقي أموال الجباية ثمنًا لتشغيل مولد رابع لمحطة الوقود لحلّ الأزمة، علمًا أن حكومة رام الله تقوم بتغطية فاتورة الكهرباء الممتدة من شركة إسرائيلية للقطاع، عبر خصمها من إيرادات المقاصة لدى الوزارة المالية بقيمة 40 مليون شيكل”.
ونفى تحويل حكومة غزة التابعة لحركة حماس، والتي تدير القطاع، أي مبلغ من غزة لتشغيل محطة توليد الكهرباء، فيما أشار إلى الحكومة القطرية أنها تدفع ثمن الوقود حاليًّا لتشغيل خطوط كهرباء غزة، واختتم أن من يحصّل أموال الوقود هو الملزَم بتشغيل المولد الرابع وحلّ أزمة الكهرباء السارية في قطاع غزة.
يبدو أن لا حلول تلوح في الأفق فيما يتعلق بقضية كهرباء غزة، في ظلّ تراشُق الاتهامات بين غزة والضفة بخصوص هذا الملف، ليبقى المواطن الفلسطيني هو المتضرر الأول والأخير
في الوقت ذاته، أكّد المتحدث باسم شركة كهرباء غزة، محمد ثابت، على أن ملف الكهرباء من ضمن أكبر نتائج الانقسام السياسي الفلسطيني بين حكومتَي غزة ورام الله، موضّحًا أن شركة توزيع الكهرباء مهمتها فقط توزيع الكهرباء وليس توفيرها.
وأشار إلى أن شركته تدفع فواتير الكهرباء التي تجبيها من المواطنين للحكومة الفلسطينية، دون أن يفصح عن أي حكومة بالضبط، رافضًا إقحام الشركة في أي معترك سياسي، وأضاف: “ما نجبيه من أموال يتم وضعه في أرصدة البنوك تشرف عليها جهات رسمية تتمثل بسلطة النقد الفلسطينية، وحكومتَي غزة ورام الله، إذ يبلغ متوسط فاتورة كهرباء غزة قرابة 50 مليون شيكل، تحصّل الشركة قرابة الـ 25 مليون شيكل، فيما تقدَّر الديون على كاهل شركة الكهرباء في غزة بـ 5 مليارات و400 مليون شيكل”.
وبيّن أنه في حال وفّرت الجهات الرسمية وقودًا لازمًا لتشغيل الكهرباء، يمكن تشغيل المولد الرابع بسعة 18-20 ميغاواطًا، فيفسح المجال لإضافة ساعتَين على جدول الكهرباء ليصبح 8 ساعات وصل يوميًّا بدلًا من 6 ساعات، ما من شأنه تخفيف حدة الأزمة بفصل الصيف تحديدًا.
يبدو أن لا حلول تلوح في الأفق فيما يتعلق بقضية كهرباء غزة، في ظلّ تراشُق الاتهامات بين غزة والضفة بخصوص هذا الملف، ليبقى المواطن الفلسطيني هو المتضرر الأول والأخير.
رغم أنه في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2021 أعلن الموقع الرسمي للجنة إعمار غزة التابع لوزارة الخارجية القطرية، عن توقيع مذكرة تفاهم بين قطر وفلسطين لتشغيل سبل توريد الغاز اللازم لتشغيل محطة توليد كهرباء غزة، تتولى بموجبها اللجنة القطرية تمويل إنشاء خط غاز من الشركة المولدة لغزة بتكلفة 60 مليون دولار أمريكي، على أن تقوم سلطة الطاقة وشركة كهرباء غزة بزيادة قدرة المحطة الإنتاجية لتصل إلى 500 ميغاواط كحدّ أدنى، لسدّ حاجة السكان والحد من عجز الطاقة.