اختتم مؤتمر روما بشأن الهجرة أعماله أمس الأحد 23 يوليو/تموز 2023 بالاتفاق على خريطة طريق أولية لإبطاء وتيرة الهجرة غير النظامية، وتقديم بعض الحلول لتخفيف حدة الضغوط والدوافع التي تجبر المهاجرين على مغادرة أوطانهم والهجرة إلى أوروبا عبر الطرق غير القانونية.
وشارك في المؤتمر الذي جاء تحت عنوان “المؤتمر الدولي للتنمية والهجرة غير النظامية” ممثلو 21 دولة أوروبية بجانب بعض البلدان الإفريقية والشرق أوسطية، فضلًا عن منظمات دولية بينها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، وكان من أبرز الحاضرين: الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، والرئيس التونسي قيس سعيّد، ورئيس موريتانيا محمد ولد الشيخ الغزواني، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، ورئيس مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي، إضافة إلى رؤساء وزراء مالطا ومصر وليبيا وإثيوبيا والجزائر والأردن ولبنان وتونس والنيجر، بينما أوفدت دول أخرى وزراء لتمثيلها، بينها اليونان وتركيا والكويت والسعودية، فيما غابت كل من فرنسا وإسبانيا عن المشاركة.
وتمثل الهجرة غير النظامية كابوسًا يؤرق مضاجع القارة العجوز، لا سيما إيطاليا صاحبة النصيب الأكبر من موجات عبور المتوسط خلال السنوات الأخيرة، فيما خصص الاتحاد الأوروبي نحو 580 مليون يورو لدعم مشاريع مكافحة الهجرة غير النظامية خصوصًا في دول شمال إفريقيا، وذلك خلال الفترة بين 2021 و2023، لكن النتائج الإجمالية لم تكن على المستوى المأمول، حيث استمرار التدفقات عبر قوارب الموت وإن تراجعت وتيرتها بشكل ملحوظ بعد التضييقات الأمنية التي فرضتها دول شمال إفريقيا.
ويحاول زعماء أوروبا قطع الطريق بشكل كامل أمام المهاجرين واللاجئين الفارين من ويلات النزاعات والصراعات والكوارث التي تشهدها بلادهم، التي ترجع في كثير من مسبباتها إلى السياسة الأوروبية والغربية بصفة عامة التي كان لها تأثيرها الكبير في إفقار دول العالم النامي ونهب ثرواتها والسيطرة على مواردها، بما دفع البعض إلى القول إن أوروبا تجني اليوم حصاد ما ارتكبته عبر عقود طويلة من الاستعمار بشقيه: التقليدي والعصري.
كلمة رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين أمام مؤتمر #روما الدولي للهجرة#القاهرة_الإخبارية pic.twitter.com/czBK9XSAry
— AlQahera News (@Alqaheranewstv) July 23, 2023
مؤتمر للمانحين
حدد المشاركون في المؤتمر وفق ما كشفته مسودة النتائج المنبثقة عن الاجتماع الذي لم يستغرق أكثر من يوم واحد بعض الخطوات العاجلة لتطويق تلك الظاهرة على رأسها تنظيم مؤتمر للمانحين قريبًا من أجل تقديم الدعم لدول شمال إفريقيا لمساعدة حكومات أوروبا على وقف قوارب الهجرة حسبما أعلنت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني.
ويحاول زعماء القارة العجوز تعزيز النموذج التونسي كأحد النماذج التي يعول عليها في تضييق الخناق على المهاجرين، وذلك في ضوء المعادلة المتبادلة التي تنص على دعم تونس اقتصاديًا في مقابل أن تقوم بدور حارس أوروبا الأمين في مواجهة تدفقات اللاجئين والمهاجرين القادمين من دول إفريقيا والشرق الأوسط.
وكان رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، قد أعلن في 16 يوليو/تموز الحاليّ أن الاتحاد الأوروبي، بعد محادثات أجراها وفد ضمّ رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، توصل إلى اتفاق مع الرئيس التونسي قيس سعيد بشأن “الشراكة الإستراتيجية والشاملة” بين الجانبين في مجالات بينها تعزيز التجارة ومكافحة الهجرة غير النظامية بقيمة تزيد على 750 مليون يورو (نحو 834 مليون دولار).
ونص الاتفاق على تقديم حزم من المساعدات لتونس تساعدها في أداء تلك المهمة، منها تخصيص 105 ملايين يورو خلال العام الحاليّ لإدارة تدفقات الهجرة، لا سيما من أجل “التصدي للمهربين، وتسهيل عمليات الإعادة إلى الوطن ومساعدة التونسيين على إدارة الحدود”، كذلك تخصيص 150 مليون يورو لدعم المالية العامة التونسية في عام 2023، بجانب 900 مليون يورو أخرى من المساعدات المالية في شكل قرض يقدَّم على مدار السنوات القادمة.
ميلوني: يجب مساعدة الدول التي تخرج منها موجات الهجرة غير الشرعية، ويجب ضرب الشركات الإجرامية التي تتاجر بالبشر#إيطاليا pic.twitter.com/sUSqGfkex4
— سكاي نيوز عربية (@skynewsarabia) July 23, 2023
ورغم تصريحات سعيد السابقة التي قال فيها إن بلاده لن تكون حارسًا للحدود الأوروبية، فإن الاتفاق المبرم مؤخرًا ينافيها شكلًا ومضمونًا، حيث يقضي بأن تتحول تونس إلى منصة لاستقبال اللاجئين وتوطينهم ولو مؤقتًا تمهيدًا لإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية كما نصت مذكرة التفاهم الموقعة.
وفي ذات السياق قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في كلمة لها على هامش مؤتمر روما: “مصلحتنا الاستثمار في تونس”، لافتة أنها – أي تونس – تمتلك الموارد الطبيعية التي تؤهلها لأن تكون قبلة الاستثمار الأوروبي.
وأكدت دير لاين في كلمتها أن “هذا وضع كلاسيكي مربح للجانبين: لأوروبا مصلحة في الاستثمار في تونس، وتونس لديها مصلحة في تطوير قدراتها”، منوهة أن النموذج التونسي قد يتم إعادة استنساخه مع بلدان أخرى قائلة: “نريد أن يكون اتفاقنا مع تونس نموذجًا للمستقبل من أجل عقد شراكات مع دول أخرى في المنطقة”.
صداع في رأس الأوروبيين
فرض ملف الهجرة غير النظامية نفسه على عشرات المؤتمرات التي عقدها قادة أوروبا خلال الآونة الأخيرة، لبحث سبل تطويق موجات التدفق عبر الممرات المائية والبرية التي تطوق القارة العجوز، لعل أبرزها حضوره اللافت على رأس جدول أعمال القمة الأوروبية التي عقدت في مولدوفا يونيو/حزيران الماضي وحضرها 27 زعيمًا من دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى المملكة المتحدة وأوكرانيا والنرويج وتركيا، وغيرها، حيث تبنى زعماء أوروبا الخطة المسماة بـ”أوقفوا القوارب” لوقف الهجرة “غير الشرعية” و”تأمين حدودنا”، والتعامل مع هذه “المشكلة” بأسلوب يجمع القانون والعاطفة معًا، لأن “الهجرة غير الشرعية تنطوي على أثر نفسي مدمّر”.
وحاولت حكومات أوروبا التعامل مع هذا الملف مع بلدان شمال إفريقيا (كونها منصات التدفق) كل على حدة، حيث أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقية مع مصر لإدارة الحدود في أكتوبر/تشرين الأول 2022 تقضي بـ”مساعدة حرس الحدود وخفر السواحل في مصر على الحد من الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر على الحدود، كما يتضمن تمويلًا لشراء معدات مراقبة مثل سفن البحث والإنقاذ والكاميرات الحرارية وأنظمة تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية” نظير مساعدات بقيمة 800 مليون يورو، وذلك بعدما باتت مصر الوجهة الثانية بعد تونس في قائمة المهاجرين لأوروبا خاصة إيطاليا التي وصل إلى سواحلها أكثر من 16 ألف شخص قادمين من مصر خلال عام 2022.
أما تونس فتحتل المرتبة الثانية كأكثر منصات الهجرة غير النظامية لأوروبا عبر السواحل الإيطالية، إذ بلغ عدد القادمين من تونس إلى شواطئ جزيرة لامبيدوزا الإيطالية 60 ألف شخص منذ بداية العام الحاليّ، بزيادة تقدر بنحو 133% مقارنة بالفترة نفسها في 2022، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وكان نتاجًا لذلك الاتفاقية التي أبرمها سعيد مع الوفد الأوروبي منتصف الشهر الحاليّ.
الوضع ذاته مع ليبيا التي تعد جسرًا محوريًا لعبور المهاجرين إلى أوروبا، ففي أول خمسة أشهر من العام الحاليّ اعترضت قوات الأمن الليبية أكثر من 5500 شخص كانوا يحاولون العبور عبر قوارب الموت، فيما لقي نحو 6 آلاف شخص مصرعهم بحسب المنظمة الدولية للهجرة.
هل تتعارض أهداف مؤتمر الهجرة في #روما مع مبادئ حقوق الإنسان؟ #المسائية pic.twitter.com/zniGEycE9R
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) July 23, 2023
وسعى الاتحاد الأوروبي إلى تشديد القيود المفروضة على عمليات الهجرة عبر السواحل الليبية من خلال تكثيف المشاورات مع الجانب الليبي للتصدي لموجات التدفق تلك، وأسفر ذلك عن الاتفاقية المعروفة بـ”إعلان مالطا” عام 2017، بجانب الاتفاقية الأخرى التي أبرمتها حكومة الوفاق الليبية مع إيطاليا في العام ذاته من أجل تشديد مراقبة الحدود.
ومن شرق المغرب العربي إلى غربه، حيث سواحل المملكة المغربية التي تعد أحد المسارات السريعة للوصول إلى شواطئ إسبانيا ومدينتي سبتة ومليلة وجزر الكناري، ورغم المخاطر التي تحيط بعمليات الهجرة عبر تلك السواحل التي أسفرت عن مقتل 1800 مهاجر غير نظامي غرقًا خلال عام 2022 فقط، فإن هناك إقبالًا كبيرًا عليها من المهاجرين وهو ما تكشفه الأرقام الأخيرة التي كشفتها وزارة الداخلية المغربية التي أحبطت أكثر من 25 ألفًا خلال الأشهر الخمس الأولى من هذا العام.
وأبرم الأوروبيون عدة اتفاقيات مع الرباط لتشديد الرقابة على الحدود ودعم الحراسة هناك، حيث خصص الاتحاد الأوروبي مساعدات بقيمة 166 مليون دولار لهذا الغرض، كما جرى تدشين عدد من برامج التعاون المشترك أبرزها برنامج تدابير الهجرة بقيمة 166 مليون دولار، الذي يهدف إلى “اتخاذ إجراءات لمكافحة شبكات التهريب وحماية اللاجئين والمهاجرين، والعودة الطوعية للمهاجرين إلى بلدانهم وإعادة إدماجهم” وذلك بقيمة 166 مليون دولار.
التمويل وحده لن يحل الأزمة
المعضلة الأبرز في تعامل أوروبا مع هذا الملف أنها تحصره في إطاره المادي فقط، كأنه صفقة تدفع بمقتضاها أموالًا للدول التي يتوافد منها المهاجرون جراء وقف موجات التدفق، فهي تريد أن تحول بلدان شمال إفريقيا، كما أرادت في السابق من تركيا كذلك إلى حراس لأمنها وحدودها في مواجهة اللاجئين والمهاجرين.
المشكلة هنا أن زعماء أوروبا يسعون لحل الأزمة من أطرافها دون الاقتراب من جذورها والبحث عن خلفياتها، وهو ما يجهض كل الجهود المبذولة لحلها ويلقي بمئات الملايين المقدمة في التراب، فبدلًا من معالجة الأسباب التي تقود المواطنين لمغادرة بلدانهم – التي للسياسة الأوروبية الغربية الاستعمارية عمومًا دورًا كبيرًا فيها – تبحث عن العرض النهائي وتحاول علاجه، وهو في علوم الطب كما السياسية (علاج لا جدوى منه) فهو مسكن لا أكثر.
رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة، على هامش مشاركته في مؤتمر روما أكد أن “اللاجئين هم ضحايا أزمة شرسة لم يتم حلها بعد”، مضيفًا “لقد فعلنا كل ما في وسعنا للتأكد من أنهم لن يصبحوا أيضًا ضحايا الحاجة واليأس، لكن لا يمكن ولا ينبغي أن تكون هذه مسؤوليتنا وحدنا، لأنه أعلى بكثير من قدرتنا”.
الخصاونة : اللاجـئـون هم ضحايا أزمة شرسة لم يتم حلها بعد، مضيفا “لقد فعلنا كل ما في وسعنا للتأكد من أنهم لن يصبحوا أيضًا ضحايا الحاجة واليأس .#الأردن #التلفزيون_الأردني pic.twitter.com/ECmfDaOdW0
— Jordan TV-التلفزيون الأردني (@JrtvMedia) July 23, 2023
ونوه الخصاونة أن التمويل وحده لا يكفي، فهو لن يؤدي إلا إلى تخفيف الأعراض مؤقتًا، دون معالجة السبب الجذري للمشكلة، داعيًا إلى “إنهاء الظروف التي دفعت اللاجئين إلى ترك ديارهم في المقام الأول، وهذا يعني تزويد اللاجئين بالوسائل اللازمة لعيش حياة كريمة في الجوار المباشر لدولهم، حتى تصبح الظروف مواتية لهم للعودة إلى أوطانهم”.
الرأي ذاته أكده الرئيس التونسي حين ألمح إلى مسؤولية الغرب في إنعاش الظروف الدافعة للهجرة ومغادرة الأوطان في بلدان إفريقيا والشرق الأوسط قائلًا: “هناك بيع للأسلحة للدول الإفريقية لتغذية النزاعات، بينما بالإمكان استغلال كل هذه الثروات المهدورة في السلاح للقضاء على المجاعات في إفريقيا”، متسائلًا: “من أين تأتي أموال السلاح وفي الوقت نفسه لا توجد أموال لزرع الأمل في هذه الدول؟!”.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن ملف الهجرة غير النظامية لن يُحل بشكل جذري إلا بعلاج الأسباب والجذور وليس الأعراض والنتائج، ومن ثم فالإستراتيجية الحاليّة لن تخرج عن إطار كونها صفقة مؤقتة، فالقضاء على النزاعات ومسبباتها، ووقف مصادر تغذية الصراعات وتجميد عمليات سلب موارد وثروات الدول النامية، هو الحل الوحيد للقضاء على تلك الظاهرة التي يجب النظر إزائها إلى المهاجرين كونهم ضحايا يجب دعمهم وليسوا مجرمين في مرمى الاستهداف.