اعتقلت قوة من استخبارات الجيش السوداني في 25 يوليو/ تموز الحالي، المتطوع مؤمن ود زينب الذي يعمل على توفير الأدوية إلى المرضى الأشد ضعفًا الذين يستشفون فى مستشفى النو، وهو المستشفى الوحيد الذي يعمل في أم درمان، ثالث مدن العاصمة الخرطوم، قبل الإفراج عنه في اليوم التالي.
أثار هذا الاعتقال موجة واسعة من الغضب في أوساط السودانيين الذين تضاعفت معاناتهم جراء الحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل/ نيسان 2023، ويلقي هذا الاعتقال جانبًا واحدًا من التضييق الذي تمارسه السلطات على المتطوعين والمنظمات الإنسانية.
لا يقتصر عمل المتطوعين على توفير الأدوية وتسيير شؤون المستشفيات العاملة على قلّتها، بل امتدَّ إلى إنشاء غرف طوارئ في الأحياء السكنية، تقدّم الطعام مطبوخًا إلى المعوزين إلى جانب الاحتياجات الإنسانية الأخرى الأكثر إلحاحًا، رغم ضعف التمويل.
وتقول الأمم المتحدة إن هناك 24.7 مليون سوداني -نصف السكان- يعانون من انعدام الأمن الغذائي، حيث تخطط لتقديم مساعدات إلى 18.1 مليون شخص منهم حتى نهاية هذا العام، بتمويل يبلغ 2.6 مليار دولار لم تحشد منها سوى 22%.
⚠️نصف سكان #السودان🇸🇩بحاجة إلى مساعدات إنسانية
🟡2,613,036 نازح داخليًا
🟡757,230 آخرين فروا إلى البلدان المجاورةتواصل المنظمة الدولية للهجرة الاستجابة لاحتياجات الأشخاص المتضررين من أزمة السودان
أحدث تقرير عن استجابة المنظمة الدولية للهجرة في السودان👈https://t.co/1JnrAiqSfi pic.twitter.com/dVF6ON2EWc
— المنظمة الدولية للهجرة (@IOM_Arabic) July 19, 2023
تضييق غير مبرر
اتخذت حرب السودان، منذ الأيام الأولى، طابع تدمير مصانع المواد الغذائية ونهب ممتلكات السكان، بما في ذلك مقتنيات المنازل، ومع انعدام الأمن وتفشي أعمال الفوضى، اضطر 3.3 ملايين شخص هجران منازلهم، منهم 2.6 مليون نازح داخليًّا.
عادة ما تغضّ السلطات الطرف عن معاناة السكان في أوقات الكوارث، وعندما يبدأ المتطوعون في إغاثتهم تسرع في تضييق الخناق عليهم.
ولم يجد النازحون الجدد وملايين الفقراء غير بضع منظمات دولية، منها صندوق الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة ومنظمة أطباء بلا حدود، إضافة إلى غرف الطوارئ التي ينتمي معظم أعضائها إلى لجان المقاومة، وهي تنظيمات شبابية في الأحياء السكنية كانت تقود الاحتجاجات السلمية ضد استمرار الحكم العسكري، قبل اندلاع الحرب.
وعملت غرف الطوارئ في الولايات على تهيئة مقارّ حكومية لإيواء النازحين مع توفير احتياجاتهم الحياتية، رغم ضعف التمويل الذي يستقطَب من السودانيين داخل وخارج البلاد، ومع ذلك ظلت تتعرض لمضايقات من السلطات المحلية.
ولعلّ أبرز تضييق وقع في ولاية القضارف شرقي السودان، حين حاولت الحكومة المحلية للمرة الثالثة في 10 يوليو/ تموز الجاري إخلاء بيت الشباب، الذي يأوي مرضى الفشل الكلوي والسكري والمعاقين، كما أنه المقر الرئيسي لاستقبال الفارّين من القتال قبل إعادة توزيعهم على مقرات إيواء أخرى.
ويوجد في بيت الشباب، وهو مقرّ حكومي كان شاغرًا قبل اندلاع الحرب، المطبخ الذي يعدّ فيه المتطوعون الطعام للنازحين في مراكز الإيواء الأخرى داخل المدينة، ومع أن القوات العسكرية لم تنفّذ قرار إغلاقه، إلا أن التضييق لا يزال مستمرًّا.
وهذا السلوك ليس غريبًا على السلطات السودانية، فهي عادة ما تغضّ الطرف عن معاناة السكان في أوقات الكوارث، وعندما يبدأ المتطوعون في إغاثتهم تسرع في تضييق الخناق عليهم، وذلك ناتج عن سنوات الاستبداد الطويلة التي جعلتها تنظر إلى أي شيء باعتباره مهددًا أمنيًّا.
تحديات كبيرة تقف أمام العمل الإنساني
ومنعَ جهاز المخابرات العامة في ولاية القضارف الصحفيين من تناول الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعيشها النازحون من العاصمة الخرطوم، وهذا المنع يعدّ نمطًا شائعًا في ولاية الجزيرة وسط السودان، بينما يجد الصحفيون في إقليم دارفور غرب البلاد صعوبة بالغة في التحرُّك لرصد الأوضاع الإنسانية.
وعملت السلطات في ولاية النيل الأبيض جنوب السودان وفي ولاية سنار وسط البلاد، على تكوين لجان موازية لغرف الطوارئ، في محاولة منها لإبعاد المتطوعين من تقديم الخدمات للنازحين، ومن ثم تركهم يواجهون مصيرهم المأساوي.
لا يمكن فهم العوائق البيروقراطية التي تضعها الحكومة أمام المنظمات تحت أي سياق، في ظل الوضع الإنساني الآخذ في التدهور، والذي يتوقع أن يتفاقم يومًا بعد آخر مع استمرار موجات النزوح والتهجير القسري للمدنيين من منازلهم.
وفي المقابل، لم تقدّم السلطات أي مساعدات للفارّين من القتال الشرس، فيما تواجه اتهامات متزايدة تتعلق بالتواطؤ أو غضّ الطرف عن تسريب المساعدات الإنسانية التي وفّرتها بعض الدول العربية في الأسواق.
وتقول الأمم المتحدة إن العاملين في المجال الإنساني يواجهون العديد من التحديات، تشمل انعدام الأمن والعوائق البيروقراطية ونهب المباني والمستودعات الخاصة بالمنظمات، علاوة على نقص التمويل وانخفاض عدد العاملين في المجال الإنساني والنظراء الحكوميين على الأرض، وشحّ الوقود اللازم لنقل الإمدادات وعدم إتاحة الوصول إلى الأموال في البنوك.
وتشير إلى أن هذه التحديات وانقطاع التيار الكهربائي وضعف الاتصال عبر الإنترنت والهواتف، أثّر على الاستجابة الإنسانية.
ولا يمكن فهم العوائق البيروقراطية التي تضعها الحكومة أمام المنظمات تحت أي سياق، في ظل الوضع الإنساني الآخذ في التدهور، والذي يتوقع أن يتفاقم يومًا بعد آخر مع استمرار موجات النزوح والتهجير القسري للمدنيين من منازلهم.
إن تطاول أمد النزاع وتعقيده بمشاركة المدنيين واصطفاف قادة القبائل إلى طرفَي الحرب، سيعمّقان معاناة ملايين السودانيين الذين يعتمد 60% منهم على الأعمال اليومية، والتي تعطل أكثر من 80% منها.
هل تنجح الضغوط؟
تزداد ضغوط المنظمات الإنسانية على السودان الذي يصارع سلسلة من الأزمات جعلته على حافة الانهيار، يومًا عن الآخر، خاصة أن أزمة جوع تلوح في الأفق، وفقًا للمجلس النرويجي للاجئين.
تخشى السلطات، على الأغلب، من أن تشكّل مراكز إيواء النازحين وأوضاعهم الإنسانية ضغوطًا محلية ودولية تمارَس عليها من أجل إنهاء الحرب سلميًّا، ما يدفعها إلى تضييق الخناق على المتطوعين والمنظمات الإنسانية غير الحكومية.
ويقول المجلس إن المستجيبين المحليين -في إشارة إلى غرف الطوارئ- عملوا منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب على تقديم الخدمات المنقذة للحياة إلى النازحين والمحاصرين، لكن الوصول إلى المحتاجين قد أُعيق بشدة، داعيًا المجتمع الدولي إلى المطالبة بحماية المدنيين والعمل الإنساني القائم على مبادئ الوصول إلى المحتاجين بأنسب التدخلات الممكنة، وفي الوقت المناسب.
وأرسلت 46 منظمة دولية، من ضمنها منظمة العون الإسلامي، نداءً مشتركًا إلى السلطات السودانية في 23 يوليو/ تموز، يتعلق بضرورة تدخلها لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وحل مشاكل طلبات التأشيرات المعلقة وإخطارات السفر والموافقات.
ويقول النداء إن الوضع الحالي في السودان يتطلب عملًا إنسانيًّا فوريًّا، مشيرًا إلى أن هناك أكثر من 110 طلبات تأشيرة لمنظمات إنسانية غير حكومية معلقة لأجل غير مسمّى.
ولا يبدو أن ضغوط المنظمات على السلطات السودانية لتمكينها من تقديم المساعدات إلى من يحتاجها ستؤتي أكلها، على الأقل في الوقت الراهن، لا سيما أنها تملك حجّة قوية تتمثل في انعدام الأمن وانتشار أعمال النهب، تستطيع عبرها إخفاء مخاوفها الحقيقية.
ويرجّح أن السلطات تتخوف من نوايا المنظمات الإنسانية الدولية التي لا تستطيع أن تراقب أنشطتها بدقّة مع استمرار الحرب، إضافة إلى مخاوف تتعلق بإظهار عجزها عن إغاثة المتضررين من الحرب.
وتخشى السلطات، على الأغلب، من أن تشكّل مراكز إيواء النازحين وأوضاعهم الإنسانية ضغوطًا محلية ودولية تمارَس عليها من أجل إنهاء الحرب سلميًّا، ما يدفعها إلى تضييق الخناق على المتطوعين والمنظمات الإنسانية غير الحكومية.
وفي حال استمرار التضييق، قد يضطر ملايين الأشخاص إلى ممارسة أعمال النهب من أجل إطعام أنفسهم وأسرهم، خاصة في ظل انعدام الأمل بإنهاء القتال في وقت قريب، مع تزايد الاستقطاب الأهلي وانتشار خطاب الكراهية.