“هنا بدأ تعليمي… أعتقد أحيانًا أنه لولا السجن، لما أصبحت صانع أفلام”، سيكون مجديًا الانطلاق من تلك العبارة المذكورة في أحد الحوارات النادرة للمخرج مع صحيفة “الغارديان“، والبناء عليها كمدخل لمعرفة سينما المخرج التركي المميز زكي ديميركوبوز، الذي يكثّف في أفلامه نماذج شديدة التعقيد على عدة مستويات، خصوصًا المستوى الجوّاني الذي يتفرد به المخرج، من حيث الكتابة ونمط الشخصيات التي تنبع مخاوفها من حاجات اجتماعية، لكنها تتحرك من الخارج إلى الداخل دائمًا في حركة بطيئة تكشف نفسها مع التقدم في السردية، تتعرى بشكل يتماسّ مع المادي الخارجي والداخلي المجرد.
يختبر ديميركوبوز علاقة الأفراد بالبيئة الاجتماعية، ويعكس ذلك على مدى قربهم من الروحي والذاتي، فكل ما يمكن ممارسته اجتماعيًّا وسياسيًّا من أحداث، أغلبها يسقط بشكل مباشر على نفسية البطل ويتعاطى مع مرحلة تكوينه وتطوره الجسدي والنفسي خلال الفيلم.
بسلاسة رهيبة ينتقل ديميركوبوز من الخارجي إلى الداخلي، من الحياة اليومية إلى الذات الإنسانية المعذبة، والحقيقة أن فكرة وجود عالمَين داخلي وخارجي في أفلامه غير دقيقة، بل يؤمّن المخرج كمالًا يحكمه بمنهجية بصرية وأسلوب سردي إخراجي رائع، فتمرير صور أو محاولة خلق انتقالات لا يحدثان في أفلامه، فهو يبقى على مسافة من العالمَين دائمًا، وينظرهما بعين سينمائية واحدة، ما يؤهّله لاختزال الداخلي والنفسي في الأدوات الخارجية، وتكثيف الخارجي في وجود مجرد للداخلي، والشيء الذي يمنح حكاياته ثقلًا رهيبًا هو واقعيتها وقسوتها المفرطة، حتى على المستوى الجوهري والنفسي.
لا يمكننا النظر إلى سينما ديميركوبوز بمعزل عن خلفيته القاسية، فقد سجنه المجلس العسكري الذي أطاح بالحكومة عام 1980 دون محاكمة حقيقية في عمر الـ 17، ما شكّل الكثير من مفاهيمه اللاحقة، إلى جانب تعرضه للعنف والتنكيل داخل السجن، بالإضافة إلى فترة نشاطه السياسي داخل جماعة ماوية يرفض حتى الآن ذكر اسمها في المقابلات.
كل هذه الوقائع كوّنت شخصيته ونحتت أسلوبه السينمائي، ليس على المستوى البصري فقط إنما على مستوى التنظير والاشتباك مع التيمات الاجتماعية والدرامية، فهو يتجاوز فكرة الانطباع الدرامي السطحي، وينغمر في تفاصيل شديدة الخصوصية والتعقيد، من خلال الزجّ بأبطاله في متاهات من الحظ السيّئ والأقدار الدامية، فيمشي على خطَّين، أحدهما رئيسي والآخر وهمي، الأول يتعلق بالبطل والأحداث المصاحبة لرحلته، والآخر يتعلق بتيمة القدر وكيف يمكن للمرء في النهاية أن يستسلم، لأن نسق الحياة ذاته يخلف شعورًا بالغربة والانهزام.
يلعب ديميركوبوز على عدة تيمات وموتيفات تشكّل ملامح أفلامه، ملامح يقتبسها من تجربته الخاصة وواقعه المعاش، وأخرى يستلهمها من الأعمال الأدبية لكتّاب مشهورين تأثّر بهم، خصوصًا دوستويفسكي وألبير كامو، الذي من خلالهما طوّر نسقه الخاص في التعاطي مع السينما.
أفلام ديميركوبوز تعتبَر حوارية إلى حدّ كبير، حتى لو أبدعت على مستوى الصورة والتكوين أو عمّقت من شعور الوحدة بمتواليات بصرية متماسكة، لكنها مبنية على الحوار والتفاعل اللفظي بين الشخصيات، وتكثّف داخله الكثير من الأشياء المهمة بالنسبة إلى بناء الفيلم.
الحياة في أفلامه تنزع إلى الواقعية، ولا تقترب من مساحات متخيلة حتى لكشف المساحات الداخلية في الشخصيات، كل ما يمكن رؤيته في أفلام المخرج الهموم اليومية والامتدادات الشاعرية التي تنمو على جسد تلك الهموم
وأظنُّ أنه اكتسب تلك الصفة من حتمية وجوده الاجتماعي داخل نماذج أكبر منه وأكثر تعقيدًا، وانخراطه كعامل مهمّش في عدة وظائف هامشية، فاشتغلَ كعامل في ورشة نسيج، ثم تركها واشتغل كبائع متجول في الشارع، قبل أن يسجن ويدرس هندسة الاتصالات في جامعة إسطنبول.
وعيه بالشارع ليس على المستوى النظري إنما على المستوى العملي أيضًا، واندماجه مع المجتمع السياسي حرّض لديه النزعة للحكي عن الفرد العادي، وحكاياته التي تتبدّى لدى البعض كأنها عرضية تحدث كل يوم، إنما هو يختبر من خلالها المعضلات الأخلاقية والمفاهيم المجردة للحب والغيرة والنسق العبثي، وقيمته داخل أنماط الحياة والموت التي تقدمها شخصياته في إطارات اجتماعية بسيطة من حيث البنية، بيد أنها شديدة التعقيد في طبقاتها النفسية، لأنه يركّبها داخل نسق غير مريح تمامًا.
ذلك النسق غير مغرٍ للتورط فيه بالنسبة إلى المتفرج، لأن الحياة في أفلامه تنزع إلى الواقعية، ولا تقترب من مساحات متخيلة حتى لكشف المساحات الداخلية في الشخصيات، كل ما يمكن رؤيته في أفلام المخرج الهموم اليومية والامتدادات الشاعرية التي تنمو على جسد تلك الهموم، إلى جانب كونه يفضّل البطل المهزوم، ببساطة لأنه مجوّف من الداخل ويبحث عن شيء ما لملء ذلك الفراغ، مشاعر بعينها يكثّفها المخرج حتى يسقط في دائرة مفرغة، لا يمكن الفكاك منها.
التيمات السينمائية
كما قلنا سابقًا، لا يمكننا فصل سينما ديميركوبوز عن تطورات شخصيته، خصوصًا في فترة سجنه، فديميركوبوز يدين لتلك الفترة بالكثير، فرفقائه داخل السجن كانوا مجموعة من المفكرين والأدباء، وفترة ما قبل السجن كان ديميركوبوز منهمكًا في قراءة الكتب والدراسات السياسية، حتى قدّمه السجن لكلاسيكيات الأدب.
وأظنُّ أن تلك الفترة حوّلت مساره بشكل كامل، لأن أفلامه تحمل طابعًا أدبيًّا فريدًا من نوعه، مهمومًا بالشق النفسي والتحولات الداخلية، والحقيقة أن المخرج لم يقتبس مباشرة من أعمال أدبية سوى عملَين، بيد أن أفلامه مغرقة في الخواص الأدبية، أهمها بالضرورة قدرته على صياغة الحوار وخلق الشد والجذب حتى على المستوى الداخلي، من خلال التعاطي مع الموجودات الخارجية.
أي أن الحوار بكل معطياته كاشف لأجزاء معيّنة، رئيسية أو فرعية لكنها قريبة من الواقع، لذلك أفلامه دائمًا تعتمد على أسلوب نمطي في التأسيس والتركيب، في الأغلب تعتمد على تركيبة أولية سائدة، مثل الثالوث الدرامي المعروف: امرأة ورجلان، أو زوجة وزوج وعشيق، حتى لو كان الطرف الثالث لا يتمثل في وجود مادي داخل الكادر، لكنه دائمًا حاضر في اللعبة الدرامية.
عملية النشوء الدرامي عند ديميركوبوز لا تتوقف عند لحظة معيّنة سوى الموت، والتطور في أفلامه لا يتحرك باتجاه خارجي بل يضغط بقوة على الداخلي، بحيث لا نجد الكثير من الدوائر المعقّدة من العلاقات البشرية داخل القصص، بل نطاقات العلاقات محدودة بعدد قليل من الشخصيات، تعيد تدوير شكل العلاقة في كل فيلم، وأحيانًا في القصة ذاتها أكثر من مرة.
الشكّ إحدى التيمات الرئيسية في منهجيته السردية، كما الحب والغيرة والعنف كأشياء عادية، وهذا ما يسهّل من مأمورية التوحُّد والتعاطف مع شخصية اللابطل في أفلامه
لذا مع الاقتراب أكثر من أفلام ديميركوبوز، يمكن ملاحظة أنه يصنع الفيلم ذاته بأشكال مختلفة، ويعيد خلق القصة ذاتها على نطاقات متماهية أكثر مع مساحات متنوعة، فالبيانات المتاحة هي ذاتها، لكن المعالجة مختلفة على المستوى الداخلي في كل مرة.
وهذا ما يتفرد به ديميركوبوز: تضفير تلك النماذج السائدة والثلاثيات النمطية داخل تركيبة مشاعر معقّدة على المستوى السيكولوجي والذهني، مراقبة البطل وهو يتهاوى تدريجيًّا ليس مسليًا، غير أنه يلمس مناطق تراعي العادي واليومي في نمطها الحكائي، خصوصًا تلك النزعة الشكوكية التي يؤمن بها المخرج، والتي لا يمكن تخطيها في موتيفاته السينمائية.
الشكّ إحدى التيمات الرئيسية في منهجيته السردية، كما الحب والغيرة والعنف كأشياء عادية، وهذا ما يسهّل من مأمورية التوحُّد والتعاطف مع شخصية اللابطل في أفلامه، لأنها مشتبكة مع مشاعر مجردة أو قصص فرعية لها مردود واقعي، أو حدثت بالفعل من قبل كأشياء عارضة.
في ثنائيته الأشهر: فيلم “براءة (Masumiyet)” عام 1997، وفيلم “قدر (Kader)” عام 2006، يتصدى ديميركوبوز لنموذج ملتبس لدرجة تجعله يفتقر لأي نقطة قوة تميز شخصيته تقريبًا، ما يجعله غريبًا كشخصية سينمائية لكنه ليس نموذجًا متفردًا، فتاريخ السينما مكتظ بهذا النوع الغائب في اللامعنى.
العلاقات الإنسانية داخل ثنائية ديميركوبوز علاقات مبتورة، غير مكتملة، مجرد بدايات وإشارات يرسلها الجميع لبعضهم، إيهام كبير لا تفهمه الشخصيات ولا تسيطر عليه، كأنها تركض في دائرة مفرغة
الشخصية الأساسية، بكير، تتماهى فوق الشخصية السينمائية المعهودة التي تتحلى بما يجعلها جذابة، فهو هشّ ومجوف وضعيف مقارنة بالنماذج الذكورية الشرقية المعهودة، وقياسًا بشخصيات ديميركوبوز النسائية الحازمة التي تتّسم بالإرادة المستقلة والدهاء، رغم القهر الاجتماعي والذكوري والعنف الجسدي والممارسات النفسية.
بيد أنهم على عكس الكثير من الشخصيات الذكور، ليسوا مستقبلين للممارسات فقط إنما جديرين بارتكاب الفعل أو حتى التحريض على ارتكابه، على عكس شخصية بكير التي تتلقى الأفعال وتسير بإرادة مستقلة.
تظهر شخصية أور التي تتماهى مع كونها أنثى جميلة يعشقها الرجال وتأسرهم بجمالها، وفي الوقت نفسه تخضع لسلطة الحب وإرادته التي ترسم لها مسارات معيشية محدودة، أي أنها شخصية منفتحة على ما يتجاوز المادي والجسدي، حتى مع النظرة السائدة لها كعاهرة، فالجسد هنا لا يحكم علاقتها ببكير، ولا علاقتها بالشخصيات الرئيسية، الجسد هنا مهمّش ومسطّح كأداة، فيما يفوق التصور الطوباوي للحب ما هو مادي، فأور تدرك عبودية الحب وقيوده، لأنها مأسورة بحب مجرم مسجون، وتلف وراءه السجون والبلاد، لكنها -دون قصد- تمارس عبودية الحب بل تستخدمها في تحريك الأمور.
لذا العلاقات الإنسانية داخل ثنائية ديميركوبوز علاقات مبتورة، غير مكتملة، مجرد بدايات وإشارات يرسلها الجميع لبعضهم، إيهام كبير لا تفهمه الشخصيات ولا تسيطر عليه، كأنها تركض في دائرة مفرغة، وفي منتصفها الموت، يجري الجميع حتى يتعبون من الآمال الكاذبة والأوهام الشبحية للحب، وحين يتعبون يسقطون في هوة الموت.
تلك الثنائية إلى جانب أفلام أخرى للمخرج، تمنح شكلًا بصريًّا وسينمائيًّا للاجدوى والعبثية الوجودية، فالجميع هنا مهمّش في حياة الشخص المراد، الجميع هنا لا يملك سوى الحب لكي يمنحه للآخر، لكن الآخر يدير وجهه لشخص آخر وهو بالضرورة يدير وجهه لظروف جانبية أخرى.
لا معنى للراحة والحب الطوباوي، في الفيلم يخسر بكير أموالًا ويغلق محل أبوه لكي يهرب وراء فتاة يعشق تراب قدمَيها، ويعمل وراءها في الكازينوهات والمراقص الليلية لكي تكسب أموال وتساعد حبيبها في السجن، بكير هنا ليس بطلًا حتى لو بدا كذلك على الشاشة، بكير هو الخيار الثاني المثالي.
إلى جانب تيمة الحب من طرف واحد ومعاناته الطوباوية، هناك عدة تيمات أخرى أهمها الانتحار، تقريبًا لا يخلو أي فيلم من أفلام ديميركوبوز من حادثة انتحار أو حتى محاولة انتحار واحدة، وهو ما يساهم في تعزيز المزاج القاتم للأفلام، فبالنسبة إليه الموت هو النقلة النوعية الوحيدة التي يمكنها خلق انحرافات في السرد، إذا لم يحضر الموت/ الانتحار في الثلث الأخير من الفيلم أو في الخاتمة، ستعيد الحياة خلق ذاتها بالنسق نفسه وستظل الدائرة مغلقة، أما الموت فهو محرّك للسرد من خلال تحفيزه للانفعالات اللحظية، وإلزامه للشخصيات بأخذ قرارات لسدّ ذلك الفراغ الذي خلّفه الموت.
يربط ديميركوبوز أبطاله بخيوط عاطفية يحكمها جيدًا، بحيث تنبع معضلاتها وإشكالاتها من عاطفة الحب أو ما ينشطر منه، والحب له أكثر من معنى، يأخذ أكثر من صورة وشكل داخل دائرة العلاقة
لذلك الموت بشكل ما مخلّص للشخصيات من اللامعنى، ومحررها من الأوهام، والحقيقة أن أبطال ديميركوبوز جميعهم تقريبًا ينخرطون في تلك العادة، وأنا أقول عادة لأنها تتكرر بشكل اعتيادي في أفلامه، فالموت دائمًا حاضر ويحيط بالشخصيات، حتى إذا كانت الدراما غير متطلبة، هناك ثقل موجود في الأفلام، يجد لنفسه مكانًا في الغرف وعلى الأسطح وداخل الممرات.
في فيلم “براءة”، يتخلص بكير من حياته بطلقة مسدس حينما يعي أن كل شيء بلا معنى، بلا هدف حقيقي، لقد تعب من اللهاث وراء أور، وحينما يحاول يوسف إيجاد حياة جديدة، يفاجأ بالموت يسدّ عليه الطريق، فالرجل الذي كان يقصده لكي يساعده مات.
في فيلم “الصفحة الثالثة” عام 1999، يقتل عيسى نفسه بعد أن شعر أن كل الحب الذي قدّمه لمريم لا يجدي نفعًا، وأن مريم الآن مع رجل آخر تشعر بالسعادة.
في فيلم “مصير” عام 2001، يحاول هارون، الزوج الذي يشك في خيانة زوجته في قصة يلفها الموت كالكفن، أن ينتحر، لكنه لا يفلح، بيد أن الموت حاضر بقوة في الفيلم، فعشيق زوجته لديه زوجة هو الآخر أقدمت على الانتحار، ما يؤكد فرضية حضور الموت ليس كمراقب أو مصدر للمخاوف كحقيقة فعلية نحن غير قادرين على تغييرها، إنما وجوده كفاعل ومساهم في تغيير السياق الدرامي.
في فيلم “قدر” عام 2006 يحضر الموت في الأحاديث العابرة، حينما يجلسون على طاولة الطعام في نهاية الفيلم، ويحكي أحدهم عن ابن جارهم الشاب الذي توفي في حادث سيارة، ثم تلحقه أور بخبر أن والدها مات منذ فترة، كل هذا يبدو عاديًّا جدًّا.
إلى جانب ذلك، يكرر ديميركوبوز بعض التيمات المادية في أفلامه، تيمات تتعلق بمتوالية بصرية معيّنة، أو حركة مادية داخل الإطار، أشهرها هي رمزية الباب الذي لا ينغلق أبدًا، في الكثير من أفلامه تحاول الشخصيات إغلاق الباب لكنه ينفتح دون قصد، ربما لعلة في الباب ذاته.
بيد أن الأمر لا يتوقف عند الجانب المادي، فالمساحة البصرية التي يتركها الباب إذا كان داخل الإطار تحمل أكثر من معنى، إلى جانب كون الحركة ذاتها تختزل داخلها عالم ديميركوبوز القائم على المعاناة اللانهائية، والقدر المحتم، قطعي الظهور بحيث لا يمكن الفرار منه.
محاولة إغلاق الأبواب ذاتها تتبدّى كشيء عرضي، لكنه يأخذ لقطة كاملة لنفسه، يمنح ديميركوبوز الاهتمام، ويؤطر بعض المشاهد داخله، والفكرة هنا تتناوب بين كون الباب ذاته مخادعًا ومراوغًا، أو مكسورًا ومحطمًا.
والجملة الدارجة في العالم العربي: “الباب الذي يأتيك منه الريح، سده واستريح” لا يمكن تطبيقها داخل سينما ديميركوبوز، لأنها ستهدم كل قصصه وحكاياته، فأبطاله يرون بعيونهم ما في داخل الغرفة، لكن لا يمكنهم بأي وسيلة الحصول عليه أو تجاوز عتبة بابه.
هناك تيمات أخرى واضحة، مثل غياب الشرطة داخل النظام الاجتماعي بشكل واضح، واقتصار ظهورها فقط على الجرائم المرتكبة، ولهذا ضرورة درامية ونوعية، فأفلام ديميركوبوز لا تندرج تحت جنس الجريمة والإثارة، وأبطاله معضلاتهم لا تستدعي الشرطة لأن العنف الممارس في الداخل لا يتضمّن الشرطة إلا كطرف سلبي.
يربط ديميركوبوز أبطاله بخيوط عاطفية يحكمها جيدًا، بحيث تنبع معضلاتها وإشكالاتها من عاطفة الحب أو ما ينشطر منه، والحب له أكثر من معنى، يأخذ أكثر من صورة وشكل داخل دائرة العلاقة، فالحب بمفهومه المجرد الطوباوي هو لون واحد، غير واقعي أو كافٍ لخلق الدراما، ومنه تخرج أنماط حسية مختلفة تحفز الأحداث، أنماط يمكن تركيبها وتصويرها بشكل مادي أكثر، مثل الغيرة والشك والحب من طرف واحد والجنس وغيرها من الأشكال التي تحمل طابعًا ماديًّا، ويربط مآلها بالطبيعة الاجتماعية والظروف المادية الواقعية.
وفي أغلب أفلامه لا توجد ظروف حياتية آمنة أو مستقرة، لذلك تتسم علاقاته بالاختلال وقلة المرونة، لأنها تندفع وتؤسّس فوق عاطفة انفعالية، ثم تصطدم بالواقع المعاش.
يحاول ديميركوبوز تأطير حياة أبطاله داخل نظائر موازية لحيواتهم، فيخلق ما يشبه تشابكًا لخطوط أفلامه المختلفة، من خلال اشتباك أبطاله في كل الأفلام تقريبًا مع عادة المشاهدة التلفزيونية، سواء داخل الفنادق الصغيرة ذات التلفزيون الواحد، أو داخل القهوة أو في أمكان أخرى.
يعيد ديميركوبوز عرض أفلامه السابقة أو حتى أفلام أخرى داخل سرديته الحالية بشكل هامشي، والحقيقة أن تلك اللقطات التي تنمّ عن الانفصال عن الزمن والانهماك في واقع موازٍ ليست ذات تأثير على مستوى البنية، لكنها تيمة محفوظة ظهرت في عدة أفلام بشكل يجعلنا نضعها داخل سياقات بصرية مختلفة، فأبطاله على عكس الواقع لا يجدون صعوبة في الاندماج داخل هذه العوالم، لكن الواقع يداهمهم دائمًا وينتزعهم.
ديميركوبوز المخرج
الشيء المثير للاهتمام أن ديميركوبوز يتحكم في كل تفصيلة إنتاجية وإخراجية داخل فيلمه، يعمل في نمط إنتاجي معيّن وقاسٍ من الناحية الداخلية، لكنه على الجهة الأخرى ليس مضغوطًا او ملتزمًا بأيديولوجيا أو شركة إنتاج تملي عليه ما يفعل، أو تسعى لتغيير بعض المشاهد أو الأفكار.
لذلك لا يصنع ديميركوبوز أفلامًا كثيرة، لكنه يحقق أفلامًا مهمة لها خصوصيتها على عدة مستويات ثقافية وسينمائية، فهو مهموم -كصانع أفلام- بمكانة الإنسان في العالم، وكيف يتأثر بالأفكار الخارجية والمشاعر الداخلية، وهذا يظهر بوضوح في أفلامه.
ديميركوبوز لا يختزل أبطاله داخل نماذج اجتماعية مجردة، أو يسقطها على الواقع كما هو، فشخصياته الثرية تؤهّله لخلق شدّ وجذب يتجاوز الواقعي ويغوص داخل الشخصي، بحيث لا تصبح شخصياته مشيّئة أو تتحول لمنتجات خالصة لبيئتها الاجتماعية.
يسعى ديميركوبوز للاشتباك مع مساحات رغم اعتياديتها، لكنها ما زالت في مرحلة النشوء فيما يتعلق بالشقّ الداخلي، ثمة قوة في أفلام هذا المخرج، قوة ناعمة وقاتمة، كيما نراها يوميًّا في ذواتنا وعلاقاتنا، قوة متطلعة تؤرقها قوة أخرى تنزع إلى الهدم والاختلال، تسير بمحاذاة الأبطال تحت مسمّى عجلة المصائر ودولاب المقادير، تغذيه بالأمل والإيهام، وفي نقطة ما تبتلعه.
يأخذ المخرج ذلك النمط ويعيد تدويره، يؤثر كل فيلم في شكل المنتج اللاحق له، وعليه المنهجية السردية أو البناء القصصي -إذا شاهدنا أفلام المخرج بالترتيب الزمني- أشبه بـ”ديجا فو”، لا توجد بدايات حقيقية أو نهايات مرضية للأفلام، سيتركك في المنتصف، حتى تشعر أن القصة التالية في الفيلم القادم تدور في الشقة الجانبية الصغيرة داخل الفندق نفسه أو العمارة السكنية المجاورة.
يبني المخرج نوعًا من الألفة داخل أفلامه، ليست مريحة غير أنها تقوم بخلق ذاكرة موازية للمشاهد، فمثلًا من التيمات التي يرددها ديميركوبوز في أفلامه بشكل غير مباشر، هي محاولاته الجادة لهدم النزعة الصوفية والرومانسية لتركيا، فهو لا يؤمن -من خلال حياته القاسية وهو شخص مجرد من الأيديولوجيات حاليًّا كما ورد على لسانه- بهذا النوع من رمسنة الأمور بشكل أكثر خفة ومحبة.
فالعالم قاسٍ ويجب مواجهته بقسوة، وداخل تلك القسوة يمكن أن تجد كل العاطفة الممكنة، لهذا هو يختبر نزعة ملتبسة وغير مفهومة لدى البشر، ويتساءل من خلال الصورة: لماذا يسعى البشر لتدمير أنفسهم؟ لماذا يلقون بأنفسهم في الهاوية بحجّة الحب؟ لماذا لا يتعلمون؟
ويُرجع ذلك -أو يفعل أبطاله- إلى المصير، كما الشخص الذي يسلم نفسه لقدره، إذا وقع في الحب فهو قدره، بيد أن هذا القدر لا يتغير إذا لم تكتمل قصة الحب، فالبطل نفسه سيعيش منقوصًا، لذا يفضّل أبطاله الموت.
في سينما ديميركوبوز لا توجد فرصة ثانية، ربما تدفع الأبطالَ الرغبة أو العاطفة أو حتى الجنون للخيار الأول، لكنهم لا يلتفتون إلى الوراء، إنهم جسورون بما فيه الكفاية للمخاطرة وأخذ قسط لا بأس به من العذاب.