مئة يوم بالتمام والكمال، مرت على حرب الجنرالات التي اندلعت بالسودان في 15 أبريل/نيسان الماضي بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تلك الحرب التي خلفت وراءها قائمة مطولة من الخسائر البشرية والاقتصادية، فضلًا عن تعميقها للأزمة الإنسانية الخانقة، فيما يحبس السودانيون والمراقبون أنفاسهم خشية اندلاع حرب أهلية كاملة.
امتدت كرة النار التي انطلقت ابتداءً من أرض المعسكرات بالقرب من المدينة الرياضية جنوب العاصمة الخرطوم، التابعة لقوات الدعم السريع، لتصل في غضون ساعات إلى القصر الرئاسي ومطاري العاصمة ومروى، حتى تمددت بعد أيام لتشمل المدن الثلاثة الكبرى (الخرطوم وبحري وأم درمان) إلى أن وصلت في غضون أقل من شهر إلى خمس ولايات في دارفور وكردفان، وامتد شظاها إلى ولايات الجزيرة (جنوب شرق الخرطوم).
في هذه الإطلالة السريعة نحاول الإجابة على تساؤلات مهمة، منها، ماذا خسر السودان من صراع الجنرالات على السلطة؟، وكيف وضع العسكر مقدرات البلد ومصيرها على المحك؟ وما الظروف التي تنذر بنشوب حرب أهلية قد تعيد الدولة الإفريقية مئات السنين للخلف؟
وذلك، بعدما ظن الجميع خيرًا في أن تكون ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 الضوء القادم من النفق المظلم، القادر على إخراج الدولة والشعب معًا من كبوة الحكم العسكري الجاثم فوق صدورهم عقود طويلة.
آلاف القتلى وتشريد الملايين.. الحصاد الدامي للحرب
كعادة الحروب، تمثل الخسائر في الأرواح وقودها الأكثر حضورًا، ومخرجاتها الأقسى دموية، إذ أسفرت حرب الجنرالات المستعرة عن سقوط الآلاف من أبناء الوطن، عسكريين ومدنيين، وفي غياب الإحصاءات الدقيقة عن تلك الخسائر فقد خلصت بعض التقديرات إلى الآتي:
– ارتفاع حصيلة الضحايا خلال المئة يوم الأولى إلى 3900 قتيل على الأقل حسب منظمة “أكليد” غير الحكومية، في حين تؤكد مصادر طبية أن الحصيلة الفعلية أعلى بكثير.
– إحصاءات أخرى تشير إلى مقتل ما لا يقل عن 3 آلاف مدني في الخرطوم فقط، وأكثر من 5 آلاف آخرين في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، التي شهدت مجازر ضد الإنسانية في الأيام الأولى من الحرب على يد قوات الدعم السريع، بحسب تقديرات منظمات دولية.
#التغيير | دخلت الحرب في السودان بين الجيش و الدعم السريع يومها المئة مُخلفة آلاف القتلى ومئات الآلاف من الجرحى وملايين النازحين واللاجئين، فضلاً عن خراب مهول في البني التحتية في البلاد بما في ذلك المرافق الصحية والتعليمية والاقتصادية و المؤسسات الحكومية منازل وممتلكات المواطنين pic.twitter.com/oeXFS8z2Io
— Daily Sudan Post (@DailySudanPost) July 23, 2023
– تسببت الحرب في تشريد نحو 3 ملايين شخص، بينهم نحو 700 ألف عبروا الحدود إلى دول مجاورة، بجانب نزوح أكثر من 2.4 مليون سوداني من منازلهم إلى مناطق أخرى، هربًا من الحرب وتدمير البنى التحتية وندرة المرافق العامة، وفق إحصاءات أممية.
– في الخرطوم وحدها بلغ عدد الفارين من منازلهم 1.7 مليون شخص، أما الذين فشلوا في الهروب فيتخذون من سكنهم مخابئًا لهم، بعضهم تحت الأرض، على أمل أن تُسدل الحرب أستارها.
ماذا عن الغذاء والصحة في أجواء الحرب تلك؟
تسببت الحرب في ضرب الأمن الغذائي السوداني في مقتل، فالبلد الذي كان يعاني وقت استقراره السياسي والأمني من الفقر والجوع بين الحين والآخر، ها هو اليوم وفي خضم الحرب الطاحنة بين الجنرالات يواجه أزمة غذائية غير مسبوقة، وسط مناشدات دولية بإنقاذ الموقف قبل تفاقمه.
– ارتفع عدد من يحتاجون للعون الغذائي في السودان من 15 مليون شخص قبل الحرب إلى 24 مليون شخص (أي قرابة نصف الشعب البالغ عدده 48 مليون نسمة) بعد 100 يوم من الحرب، حسب منظمة الأغذية والزراعة العالمية.
– تتزايد التحذيرات الدولية والإقليمية المستمرة من المجاعة، في ظل نقص المواد الأساسية، وفي وقت بات فيه أكثر من ثلثي المستشفيات في مناطق القتال خارج الخدمة.
– التقديرات تشير إلى أن كلفة الحرب الأولية تجاوزت نصف مليار دولار يوميًا في المتوسط، أي نحو 50 مليار دولار حتى الآن، وهو ما أدى إلى توجيه أموال الدولة للدعم العسكري والتسليح بعيدًا عن تلبية احتياجات الشعب الغذائية والدوائية.
– 70% من المستشفيات في مناطق المواجهات بالخرطوم والولايات الأخرى متوقفة عن الخدمة من أصل 80 مستشفى أساسي في العاصمة والولايات، بحسب نقابة أطباء السودان.
وفاة عازف كمان في #السودان بسبب الجوع وشقيقه يقوم بدفنه أمام منزله#تواصل pic.twitter.com/g3IHHj4cjF
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) July 16, 2023
– أسفرت الحرب عن قصف 19 مستشفى منذ بداية الاشتباكات، وتعرض 22 مستشفى للإخلاء القسري، بينما توقف نحو 62 مستشفى عن الخدمة، ويعمل 27 مستشفى بشكل كامل أو جزئي.
– أكدت نقابة أطباء السودان أن معظم المرافق الصحية في العديد من الولايات باتت خارج الخدمة، وأنه في بعض المناطق توقفت جميعها كما هو الحال في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور.
الضحية الأولى.. ماذا عن الأطفال؟
لا شك أن الأطفال والشيوخ والنساء هم الحلقة الأضعف في كل الأزمات والحروب والكوارث، والمشهد السوداني ليس بالاستثناء عن ذلك، وهو ما توثقه الأرقام والتقارير الصادرة من الجهات الرسمية التي تؤكد أن الأطفال تحديدًا هم الضحية الأولى لتلك الحرب التي لا يعرف أحد متى تتوقف.
– منذ اندلاع الحرب ويعاني أطفال الخرطوم وإقليم دارفور، غرب البلاد تحديدًا، من أوضاع صعبة، فاشتعال المواجهات في تلك المناطق أسفر عن نزوح ومقتل وتشريد آلاف الأطفال.
– بلغت عدد الانتهاكات التي تعرض لها الأطفال منذ انطلاق الحرب أكثر من 2500 انتهاك صارخ، بمتوسط انتهاك واحد على الأقل في الساعة، بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف).
– الأرقام تشير إلى مقتل ما لا يقل عن 435 طفلًا في النزاع، وإصابة ما لا يقل عن 2025 طفلًا خلال المئة يوم الأخيرة.
– وبحسب تقديرات اليونسيف، فإن ما يقرب من 1.9 مليون طفل نزحوا داخليًا في السوادن من إجمالي 3.8 مليون شخص هم إجمالي من نزحوا منذ اشتعال حرب الجنرالات، وأنهم عرضة للمرض والجوع والبعد عن ذويهم.
– ما لا يقل عن 690 ألف طفل تعرضوا لسوء التغذية الحاد، بجانب تعرض 1.7 مليون طفل (عمرهم أقل من عام واحد) لخطر فقدان التطعيمات الحرجة، ما يجعلهم أكثر قابلية للاستهداف المرضي.
تحصل بمعدل واحد على الأقل في الساعة.. اليونيسيف: 2500 انتهاك صارخ ضد الأطفال في #السودان #الحدث pic.twitter.com/UYwoZ694Ak
— ا لـحـدث (@AlHadath) July 25, 2023
وساطات وهدن عدة.. ما مصيرها؟
عشرات الوساطات تم عرضها منذ اندلاع حرب الجنرالات، أسفرت عن مخرجات مختلفة وهدن عدة، كان السمة الأبرز فيها جميعها الفشل، فرغم التصريحات الإيجابية والوردية الصادرة عن الجيش والدعم السريع، فإن الميدان له رأي آخر، حيث ضرب مخرجات تلك المبادرات بعرض الحائط.
– المبادرة الأكثر حضورًا كانت الوساطة السعودية برعاية أمريكية بريطانية، حيث استضافت المملكة في مدينة جدة ممثلين عن القوتين المتحاربتين، وخرجت ببعض الهدن الإنسانية لكن تم اختراقها بشكل كامل ما دفع الرياض وواشنطن لرفع يديهما عن الموضوع برمته.
– منظمة الإيغاد هي الأخرى حاولت عبر عدة لقاءات التوسط لإنهاء الأزمة، لكن الخلافات البينية كانت الحائل الأبرز أمام تحقيقها أي نجاحات تذكر، فالجيش السوداني رفض رئاسة كينيا للقمة، وشكك في نوايا إثيوبيا، هذا بجانب رفضه لمخرجات تلك الوساطة التي كانت أبرزها حظر الطيران في الداخل السوداني والسماح بدخول قوات إفريقية بجانب تشكيل قيادة سياسية جديدة يتم التعامل معها، وهو ما رفضه الجيش بشكل كامل.
– احتضنت القاهرة قمة لدول الجوار شارك فيها ممثلو عن ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإريتريا، بجانب إثيوبيا، إلا أن نتائجها لم تكن على المستوى المأمول في ظل غياب الضمانات وأوراق الضغط التي تجبر الطرفين على الانصياع لما يتم الاتفاق عليه.
– أعلنت مجموعة من الأحزاب السياسية والقوى المهنية ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات أكاديمية وإعلامية وثقافية بالسودان في أبريل/نيسان الماضي تشكيل جبهة مدنية لإيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية، لكنها لم تسفر عن شيء.
– حاولت كل من إثيوبيا وجنوب السودان والاتحاد الإفريقي التوسط لإنهاء الحرب والتوصل لأرضية مشتركة من التفاهمات بين الجيش والدعم السريع، لكن دون جدوى، في ظل الإصرار على الاستمرار في القتال دون توقف.
تفريغ البلد من الأمن والموارد.. ماذا عن جرائم السرقة والنهب؟
صنعت الحرب بيئة رخوة للدولة السودانية تجعل البلاد مستباحة لأي اعتداءات أو انتهاكات في ظل انشغال المؤسسة الأمنية، العسكرية والشرطية، بالتناحر والنزاع على السلطة، الأمر الذي أفرغ السودان من موارده في غضون أيام قليلة، فضلًا عن غياب شبه تام للأمن في معظم الولايات.
– تشير التقاير إلى انتشار أعمال السلب والنهب والتخريب التي طالت البنوك والمحال التجارية والأسواق والدكاكين والمولات والمخازن وحاويات البضائع في المحطات الجمركية.
– تم احتلال مستشفيات ومنشآت خدمية، وتحويلها لـ”ثكنات عسكرية” وسلبت أجهزاتها ومواردها.
– ما يقرب من ربع مخزون برنامج الأغذية العالمي في السودان تم نهبه خلال المئة يوم الأخيرة، إذ سرق نحو 17200 طن من المساعدات الغذائية الطارئة، كانت كافية لإطعام ما يقارب 1.6 مليون شخص لمدة شهر.
– بالإضافة إلى نهب مساعدات نقدية كان من المفترض أن يتم توزيعها على محتاجين، لتخفيف حدة تداعيات الحرب عليهم خاصة أن أعدادهم بالملايين وفي تزايد مستمر.
– تم توثيق أكثر من 485 حادثة عنف شهدتها البلاد منذ أبريل/نيسان الماضي، 31% منها استهدفت العاملين في المجال الإنساني والأصول والمرافق، و13% منها صُنفت على أنها أعمال عدائية نشطة تعرقل الأعمال الإغاثية.
– شهود عيان من السودانيين النازحين للقاهرة أكدوا لـ”نون بوست” أن منازلهم في الخرطوم وأم درمان تمت سرقتها رغم أنها مغلقة وهم خارج البلاد، وأفادوا بأن أصابع الاتهام تذهب في المقام الأول إلى قوات الدعم السريع.
– يتبادل الجيش وقوات الدعم السريع الاتهامات بشأن المسؤولية عن انتشار جرائم السلب والسرقة في البلاد دون إجراء أي تحقيقات قضائية بشأن تلك الجرائم حتى اليوم.
في ضوء استمرار الحرب، وإصرار الجنرالات على القتال دون أي اعتبارات لمستقبل بلادهم ومصير شعبهم والخسائر التي منيت بها الدولة، فإن الأرقام والتقديرات والإحصاءات سالفة الذكر مرشحة للزيادة وسط تصاعد المخاوف من الانجرار نحو حرب أهلية تأكل ما تبقى من الأخضر وتزيد اليابس قحطًا.