مع حلول شهر محرّم، أحد الأشهر الهجرية التي تحظى بتعظيم لدى الطائفة الشيعية، بسبب مصادفة ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، تبدأ الأفواج الشيعية خاصة من إيران بالتوافد إلى عدد من المراقد الشيعية في سوريا، لممارسة طقوسهم الدينية، باعتبار أن هذا الشهر شهر الملحمة والعزاء حسب السرديات الشيعية.
“وكالة مهر للأنباء” الإيرانية نقلت سابقًا على لسان نائب مدير منظمة الحج والزيارة الإيرانية، حميد رضا محمدي، تأكيده بدء إرسال المواطنين المطالبين بزيارة الأماكن المقدسة في سوريا، والذي توقف لبعض الوقت، واستؤنف بعد المفاوضات التي تمّت مع الجانب السوري، مضيفًا أنه ستجري رحلة واحدة كل أسبوع، وأن الرحلة الأولى انطلقت في 18 من الشهر الجاري عبر شركة طيران إيرانية من طهران إلى دمشق.
استعدادًا لاستقبال الزوار الشيعة، أصدر المصرف المركزي السوري قرارًا يقضي بالسماح للزائر الإيراني القادم إلى سوريا عن طريق منظمة “الحج والزيارة الإيرانية”، بتسديد أجور الإقامة في الفنادق بالليرة السورية.
وجاء في القرار أنه “يسمح للإيراني القادم عبر المنظمة الإيرانية المذكورة الدفع بالليرة السورية للفنادق، في استثناء من القرار رقم 665 عام 2021، بشرط تقديم وثيقة مختومة من المنظمة الإيرانية تثبت أنه قادم عن طريقها، ويحتفظ الفندق بنسخة عنها”.
ويأتي القرار الصادر في 18 يوليو/ تموز الجاري بناءً على مذكرة التفاهم الموقعة بين وزارة السياحة في حكومة النظام السوري ومنظمة “الحج والزيارة الإيرانية في مايو/ أيار الماضي، خلال زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، لدمشق.
وأيضًا بناءً على توصية اللجنة المتعلقة بالشؤون السياحية ومنها السياحة الدينية، والتي اتفقت على تشكيلها اللجنة الاقتصادية السورية- الإيرانية المشتركة في 26 أبريل/ نيسان، حيث وُضع هدف لدخول 50 ألف زائر إيراني إلى سوريا، أي بمعدل 1000 زائر أسبوعيًّا تقريبًا.
تنشيط السياحة الدينية
تتمثل السياحة الدينية في سوريا بشكل كبير بتدفق السياح الشيعة فقط إليها، لا سيما من العراق وإيران، بهدف زيارة ما يسمّى “العتبات المقدسة” من أماكن ومراقد شيعية، وتعدّ السياحة الدينية من الموارد المهمة والكبرى لقطاع السياحة السورية، إذ بلغ عدد الزائرين من شيعة إيران عام 2011 مليون زائر.
أما بعد عام 2011 فلا توجد إحصائيات دقيقة لعدد الزوار الإيرانيين، فبعد حادثة أسر 48 إيرانيًّا جُلّهم من العسكريين على أيدي مجموعة من ثوار الغوطة الشرقية عام 2012، توقفت السياحة الدينية الإيرانية إلى سوريا بشكل كلّي لعدة سنوات بقرار من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ليعود النشاط مجددًا عام 2015، بعد توقيع وزارة السياحة التابعة لنظام الأسد مذكرة تفاهم مع منظمة الحج والعمرة الإيرانية لزيادة أعداد السائحين.
وفي عام 2017 أعلنت وزارة السياحة التابعة لنظام الأسد أن عائدات السياحة الدينية قد ارتفعت بمعدل 3 أضعاف عن العام السابق، وبلغ عدد السياح 117 ألف سائح، مع وضع أهداف لاستقبال مليون سائح ديني، وإعلان استثمارات فندقية في منطقة السيدة زينب.
فيما أعلنت منظمة الحج والزيارة الإيرانية عام 2019 عن وصول أول قافلة رسمية مرخّصة، وأن الزيارات الدينية إلى سوريا ستكون محدودة بـ 7 آلاف و200 شخص سنويًّا، قبل أن تتعطّل الرحلات الرسمية لاحقًا بسبب مخاطر وباء كوفيد-19 وصولًا لأواخر عام 2021، إذ تمَّ الإعلان عن توقيع مذكرة تفاهم بشأن استئناف رحلات السياحة الدينية بين الطرفَين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، بهدف إرسال 100 ألف سائح.
في هذا العام 2023، وتحديدًا في مايو/ أيار الفائت، توقعت مديرة التسويق والإعلام السياحي في وزارة السياحة، ربى صاصيلا، أن يصل أعداد السياح خلال العام الحالي إلى نحو مليون سائح، مشيرة إلى زيادة أعداد السياح خلال الأشهر الثلاثة من هذا العام بنسبة 30% على السنوات الماضية، بعد أن تمَّ تسجيل دخول نحو 700 ألف زائر إلى سوريا خلال الأشهر الـ 6 الأولى من هذا العام الفائت، شكّل السياح 60% منهم.
وحسب صاصيلا، فإن عدد السياح قد وصل خلال الربع الأول من العام الحالي إلى 385 ألف سائح، وأن عدد السياح من دول العراق وإيران والأردن والبحرين سجّل خلال الفترة نفسها حضورًا كبيرًا، بهدف السياحة الدينية والطبية.
مرقد السيدة زينب.. قُم سوريا
توجّه الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، خلال زيارته دمشق في مايو/ أيار الفائت إلى مرقد السيدة زينب، في ضاحية دمشق الجنوبية على الطريق السريع المؤدي إلى مطار دمشق الدولي، والطريق المؤدي إلى مدينة السويداء.
وأظهرت المقاطع المصورة هناك أناشيد باللغة الفارسية وبكاء رئيسي، سبق ذلك زيارة وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، برفقة وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، هذا غير ظهور قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، باكيًا، قبل أن يُقتل أوائل عام 2020، ما يعطي رسالة تؤكد أن للبلدة مكانة مهمة لإيران.
وكانت السيدة زينب تحتوي غالبية من أبناء الجولان السوري المحتل، وخليطًا من أبناء ريفَي إدلب وحلب، بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين، وكانت تعدّ بلدة سنّية خالصة قبل عام 1976، أي قبل تأسيس المقام والحوزات التابعة له والهجرة المكثفة من شيعة العراق وإيران، لتصبح أكبر حوزة في العالم بعد النجف في العراق وقُم في إيران، رغم وجود عدة دراسات تاريخية تؤكد أن السيدة زينب بنت علي ماتت في المدينة ودُفنت في البقيع في المدينة المنورة.
وضمّت البلدة “الحوزة الزينبية”، وهي أول حوزة أُنشئت عام 1976 للتعليم الديني العالي للشيعة في سوريا، لتتوالى الحوزات فيها، إذ أُسّس في فترة 1995-2000 ما يزيد على 5 حوزات علمية، وفي فترة 2001-2006 أُنشئ أكثر من 12 حوزة و3 كليات للتعليم الديني، وأُنشئت ما يسمّى بمديرية الحوزات.
إلى جانب مرقد السيدة زينب المزعوم في العاصمة دمشق، هناك مقام السيدة رقية المزعوم الذي يعدّ أيضًا مستوطنة إيرانية، وهو ثاني مزار من حيث الأهمية بعد مزار السيدة زينب، ويقع بالقرب من الجامع الأموي في دمشق في حي العمارة، إضافة إلى مقام سكينة بنت علي بن أبي طالب المزعوم في داريا، ومقام سكينة بنت الحسين في مقبرة باب الصغير في دمشق، ومقام حجر بن عدي في مرج عدرا قرب دمشق.
تسهيلات على طبق من ذهب
إلى جانب قرار المصرف المركزي السوري مؤخرًا، تقدِّم حكومة دمشق تسهيلات كبيرة جدًّا لتثبيت قدم إيران في سوريا، ويظهر ذلك جليًّا من خلال عقد عشرات الاتفاقات مع إيران وفي المجالات جميعها، الاقتصادية والعسكرية والأمنية والخدمية والدينية.
إلى جانب التغاضي عن هيمنة البضائع الإيرانية على الأسواق السورية لتصريفها، والتغاضي أيضًا عن النشاط الإيراني والمظاهر الشيعية في السنوات الأخيرة التي شملت المحافظات كلها، في بلد يعدّ ذا أغلبية سنّية ساحقة.
إضافة إلى تشجيع النظام على هجرة الشيعة الإيرانيين والعراقيين إلى سوريا لتعزيز وجودهم في دمشق واستيطانهم فيها، والتوسع في بناء الحوزات والأضرحة، وفتح حسينيات ومراكز دينية وثقافية، ومراكز تدريس ومكتبات، والاستثمار في الآثار والمواقع الدينية.
وأيضًا التوسع في نشاط الدعاية والترويج للتشيُّع، وتقديم المنح المجانية للدراسة في إيران، وصولًا إلى نشر المذهب الشيعي في صفوف الدارسين، والأهم من ذلك منح النظام السوري الجنسية لعشرات الألوف من الإيرانيين وغيرهم من الشيعة.
يرى المستشار الاقتصادي أسامة القاضي، في حديثه لـ”نون بوست”، أن “الهدف من قرار المصرف تنشيط السياحة الدينية وتشجيعها ودعمها، فلو اضطر السائح الديني أن يدفع بالقطع الأجنبي فهذا سيكون مكلفًا أكثر له، بينما الآن قد تصل تكلفة السياحة الدينية نصف ما كانت تكلفه سابقًا، إذا تم تثبيت الدفع بالليرة السورية”.
واختص النظام الزائرَ الإيراني بهذا القرار، بسبب ضعف الإقبال على السياحة من باقي الجنسيات لا سيما الأجنبية، عكس القوافل التي تأتي تباعًا من إيران، ولأن هذا الإجراء يندرج تحت بند العلاقات المميزة مع الإيرانيين، وكجزء من وفاء الديون الإيرانية وتثبيت عقود الإذعان التي وقّعها نظام الأسد مع إيران، حسب القاضي.
ونوّه القاضي إلى أن القرار خاص فقط بإقامة السائح الإيراني ضمن الفنادق السورية، في حين أن عمليات الشراء والتسوق وغيرها ستكون بالقطع الأجنبي أو بما يعادله، وبطبيعة الحال فالسائح الإيراني الديني لا يحتاج لدفع أي تكاليف إضافية، لأنه يأتي بكل حاجياته من بلاده ضمن القوافل حتى تنقضي مدة الزيارة.
توتُّر شعبي وتدهور أمني
مع تزايُد انتشار الشيعة في العاصمة دمشق، لا سيما في حي الأمين الذي يضم منذ القدم شيعة سوريين، وهو من أكبر تجمعاتهم وفيه أكثر فعالياتهم، ويضمّ العديد من المراكز الدينية الشيعية، إضافة إلى حي جعفر الصادق (الجورة) بالقرب من حي الأمين شرق مقام السيدة رقية، وحي زين العابدين (زقاق المحكمة في منطقة الصالحية)، فإنه لا يمكن إخفاء الاستياء الشعبي من تحول العاصمة إلى موطن للشيعة الأجانب من العراق وإيران وباكستان وأفغانستان ولبنان والبحرين.
ويأتي هذا في ظل الإقبال على اغتصاب عقارات المهجّرين أو شرائها، أو ممارسة مضايقات على الأهالي الرافضين فكرة بيع أو تأجير ممتلكاتهم، إذ اتخذت أشكالًا متنوعة، أخطرها إحداث حرائق فيها كما في الحريق الأخير الذي ضرب سوق ساروجة الدمشقي.
هذا إلى جانب ممارسة طقوس مذهبية من لطميات وعويل وبكاء، وترديد أغانٍ شيعية تنال وتتوعّد بالانتقام من المكون السنّي، والذي ينتسب إليه معظم سكان دمشق وضواحيها بل أغلبية سكان سوريا، ورفع شعارات طائفية مستفزة مثل “يا لثارات الحسين”.
بالمقابل، أُصيب شخصان بجروح جراء انفجار دراجة نارية مفخّخة كانت مركونة بجانب حافلة نقل عند مدخل حي الروضة بمنطقة السيدة زينب، وقد تمَّ ركن الدراجة المفخّخة بالقرب من باص مبيّت تابع لجيش النظام.
ويأتي التفجير الذي سُجّل في 25 يوليو/ تموز، أي قبيل أيام من احتفال الشيعة بذكرى عاشوراء، والتي تتضمّن مسيرات دينية في منطقة مقام السيدة زينب، في حين لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن التفجير.
هذه الحادثة تأتي بعد 10 أيام من استهداف مجموعة من الشبان بالرشاشات والحجارة إحدى الحافلات التي تقلّ زوارًا شيعة، أثناء عودتهم من سوريا إلى العراق عبر معبر البوكمال الحدودي، ما تسبّب في وقوع عدد من الإصابات دفعت بعودة بعض الزوار.
ويبدو، أن هذه الحادثة، وهي الأولى من نوعها منذ سيطرة الميليشيات الإيرانية على البوكمال، تأتي تعبيرًا عن رفض التغيير الديموغرافي الذي تنفّذه إيران بمحافظة دير الزور، وممارسات الميليشيات من نشر للفكر الشيعي واستغلال للأطفال والعائلات الفقيرة.
يشير الباحث في الشأن الإيراني، عمار جلو، إلى أن أكثر ما بات يثير السوريين هو معاملتهم بطريقة دونية عن الإيرانيين، فالإيرانيون تقدَّم لهم تسهيلات يومًا بعد يوم، عكس السوريين المطالَبين مثلًا بدفع 100 دولار على المنافذ الحدودية وكأنهم غرباء.
لافتًا في حديثه لـ”نون بوست” أن هناك احتقانًا كبيرًا من أغلب المدنيين ضد سياسة الانفتاح اللامحدود على إيران، وممارسات التشيُّع وشراء الولاءات السياسية، لا سيما أن الكثير بات على علم أن هذه التيارات والجهات الإيرانية هي تيارات وجهات غير مذهبية خالصة، إنما إيديولوجيا طائفية مدمرة، هدفها التغلغل بأي شكل فقط ضمن التركيبة السكانية لصالح تمرير أجندات الولي الفقيه.
ويمكننا القول ختامًا إن سياسة تشريع الأبواب لإيران لا تصبّ إلا في استراتيجية محاولة النظام تقليص نسبة السنّة العرب الذين من الممكن أن يشكّلوا خطرًا على نظامه، واستبدالهم بجماعات دينية مذهبية موالية له من السكان المحليين أو الأجانب من جنسيات مختلفة.
يدعم ذلك مسألة إعادة الإعمار وتنظيم وتحديث مناطق السكن العشوائي وغير المصرّح به، والقوانين التي أصدرها نظام الأسد التي تستهدف ممتلكات المعارضين، ما يعتبر عقابًا جماعيًّا يستهدف الحاضنة المعارضة.
وتجلى ذلك في مناطق كثيرة، أهمها منطقتان كبيرتان في العاصمة دمشق، معروفتان بمناصرتهما للمعارضة، الأولى خلف مستشفى الرازي على الطريق الرئيسي لأوتوستراد المزة، والثانية على الضفة الجنوبية من العاصمة السورية بجانب حي القدم.