“كانت بمثابة تعذيب نفسي أكثر من كونها تعذيبًا جسديًا”، هكذا وصف محمد رحلته القسرية إلى شمال غرب سوريا بعدما اعتقلته قوات الشرطة التركية.
محمد (اسم مستعار)، شاب سوري، يبلغ من العمر 24 عامًا، كان يعمل نادلًا بمطعم في مدينة إسطنبول بطريقة قانونية (إذن عمل)، قبل أن تشمله حملة الترحيل العشوائية التي تنفذها السلطات التركية ضد المهاجرين الذين دخلوا البلاد بطريقة غير نظامية.
تحدث محمد لـ”نون بوست” عن هذه اللحظة الفاصلة التي قلبت حياته رأسًا على عقب، قائلًا: “كنت في طريقي إلى عملي عندما أنزلتني الشرطة من الحافلة دون فحص أوراقي الثبوتية وضربني العناصر وأجبروني على ركوب حافلة الترحيل التي تضم العشرات من أمثالي”.
لم تكن هذه اللحظات إلا البداية، إذ ساقته السلطات إلى مركز احتجاز “المهاجرين غير الشرعيين” في “توزلا”، سيء السمعة، لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة، حيث ظروف الاحتجاز المزرية، من الروائح الكريهة المخيمة على المكان والسرائر المهترئة إلى وجبات الطعام الفاسدة ومنع المحتجزين من دخول دورات المياه، عدا عن ممارسة العنف بحق من يعترض.
من توزلا إلى مركز احتجاز في ولاية مرعش، نُقل محمد رفقة العشرات ممن يحملون بطاقات الحماية المؤقتة التي يمنع أن يُرحّل أصحابها قسريًّا وفق المادة 6 من قانون الحماية المؤقتة.
“لا مجال للاعتراض على قرار الترحيل، إذ سيجد الشخص نفسه أمام سيل من اللكمات والشتائم، أُجبرنا جميعًا على البصم وكنا في اليوم الذي يليه بمدينة سجو شمال غرب سوريا، وهي مقبرة للأحياء، حيث تفتقر لمقومات الحياة وفرص العمل فيها معدومة”.
حملة شرسة
رغم عدم إعلان إحصاءات رسمية بشأن أعداد المرحلين السوريين منذ بداية الحملة، فإن مصادر طلبت عدم كشف هويتها، من المعابر الثلاثة التي تصل تركيا بشمال سوريا: باب الهوى والسلامة وتل أبيض، أفادت بأنه منذ مطلع الشهر الجاري وحتى يوم 24 منه، دخل ألف مرحّل عبر معبر باب الهوى، و1300 عبر معبر تل أبيض، و800 عبر باب السلامة، بمن فيهم من من أُدخل تحت مسمى “العودة الطوعية”.
فيما ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان (مقره في لندن) أنه وثق ترحيل نحو 100 لاجئ يوميًا بشكل قسري من داخل تركيا باتجاه مناطق شمال غرب سوريا، ليبلغ عدد المرحلين خلال النصف الأول من العام الحاليّ أكثر من 12 ألف لاجئ عبر المنافذ الثلاث، بحسب المرصد.
الحملة لم تقتصر على السوريين فحسب، بل طالت جميع المقيمين الأجانب في الولايات التركية البالغ عددهم نحو5 ملايين، بينهم 3 ملايين و381 ألفًا، ضمن نظام الحماية المؤقتة، إذ تجاوز عدد الأجانب الذين اعتقلتهم السلطات التركية من الحدائق العامة والمتنزهات ووسائل النقل العامة، خلال الـ20 يومًا الماضية، 10 آلاف شخص.
كان وزير الداخلية التركي قد تعهد بإنهاء الهجرة غير النظامية في البلاد خلال 4 – 5 أشهر، مؤكدًا إلقاء القبض على 15 ألف مهاجر غير نظامي خلال يونيو/حزيران الماضي.
الحملة التي بدأت منذ شهور اتسمّت بالعشوائية والتعسفية في آن، ووصلت إلى حد انتهاك حقوق الإنسان لأنها شملت اعتقال مهاجرين يقيمون بشكل قانوني في تركيا، إما بدوافع عنصرية وإما باختلاق تهم ضدهم، بحسب ما ذكر المحامي المختص بشؤون الأجانب خالد زوين لـ”نون بوست”.
انتشار مقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر تعرض مهاجرين لاعتداءات من الشرطة التركية وتداول قصص لمهاجرين جرى ترحيلهم رغم امتلاكهم بطاقة الحماية المؤقتة، خلق حالة من الذعر في نفوس كل اللاجئين المقيمين في تركيا.
يرى المحامي زوين أن قانون الأجانب والحماية الدولية الذي أقرته الحكومة التركية عام 2013 والتعديلات التي أجريت عليه في 2019، يضمنان حقوق المهاجرين في تركيا، لكن هناك تقصيرًا من السلطات التنفيذية في تطبيقهما على أرض الواقع، كما أن غالبية عناصر الشرطة يجهلون القوانين التي يجب اتباعها بخصوص المهاجرين بشكل عام.
وأوضح أن القوانين تسمح باتخاذ إجراءات عديدة قبل إقرار ترحيل اللاجئ، كرفع دعوى قضائية لإبطال عملية الترحيل التي تستمر لمدة سنة عادةً، ويمكن بعدها أن يخرج من مراكز الاحتجاز (المراقبة الإدارية)، بالاستفادة من أحد بنود قانون الالتزامات البديلة التي تتلخص بـ6 مواد:
– الإقامة في عنوان محدد: يبلّغ الأجنبي مديرية الهجرة الإقليمية بالعنوان الذي سيقيم فيه حتى يتم ترحيله.
– الإخطار: ويتم تنفيذه عبر التحقق من بيانات الأجنبي أو تطبيق التعرف على الصوت، بالإضافة إلى الحصول على توقيعه الإلكتروني.
– العودة على أساس الأسرة: وهي أن يلتزم المهاجر بالبقاء مع أقاربه من الدرجة الأولى والثانية بشكل قانوني في تركيا.
– استشارات العودة: تقديم دعم مادي أو معنوي للمهاجرين الراغبين بالعودة الطوعية أو المرحلين.
– التطوع في الخدمات للمصلحة العامة: لم يتم الاتفاق على تفاصيل هذا القانون بعد.
– الضمان: وتنص على أن يدفع المهاجر الموضوع تحت الرقابة الإدارية مبلغ 100 ألف ليرة تركية لإدارة الهجرة للإفراج عنه داخل الدولة.
– المراقبة الإلكترونية: يمكن للأجانب إخطار دائرة الهجرة عن موقعهم عبر تطبيق على الهاتف المحمول أو عبر الأصفاد الإلكترونية.
من مهاجر “شرعي” إلى “غير شرعي”
يخشى الصحفي السوري غسان ياسين من مصير مشابه لآلاف المهاجرين غير النظاميين في تركيا، بعد أن رفضت إدارة الهجرة تجديد إقامته لأسباب مجهولة، ليتحول بين ليلة وضحاها إلى “مهاجر غير شرعي”، وسط عدم قدرته على العودة إلى بلاده لأنها ما زالت غير آمنة.
“اقتصرت إقامتي في تركيا على المنزل فقط كأنها جبرية”.. يصف ياسين حركته اليومية المقيدة بسبب عدم تجديد إقامته، ويؤكد أن خيار خروجه من تركيا غير وارد، لأنه أسس عمله وحياته في هذه البلاد التي فتحت الأبواب أمامه سابقًا وتحاول إغلاقها الآن.
يرى الصحفي ياسين، أن قانون الإقامة السياحية في تركيا يحتوي على خلل وتحديدًا للمنحدرين من الجنسية السورية، لأنها عندما ترفض تجديد إقامة السوريين بعد سنوات من استقرارهم في البلاد تحوّلهم إلى مخالفين للقانون بيد أنهم لا يستطيعون العودة إلى بلادهم.
كما يشير إلى أهمية إعادة صياغة قانون الحماية المؤقتة لأنه وُضع على عجل ولا يراعي اللاجئين السوريين الذين انتقلوا إلى ولايات أخرى، بحثًا عن العمل والاستقرار.
ريم، شابة سورية عشرينية، من متضرري الزلزال الذين نزحوا إلى ولاية إسطنبول بعد الكارثة، وحاملة لبطاقة الحماية المؤقتة، تحاول تجديد إذن السفر الذي يخول لها البقاء في إسطنبول، لكن دون جدوى، ما يجعلها مخالفة للقوانين وعرضة للترحيل، لتضطر إلى ملازمة المنزل.
تروي ريم لـ”نون بوست”، حالة القلق التي تعيشها مع عائلتها، بقصة ذهابها إلى الطبيب بعد ما عجزت عن تخفيف آلامها عبر المسكنات، “ترددت كثيرًا، لكن اضطرت لزيارة الطبيب، بدأت تتسارع نبضات قلبي عندما وجدت دورية شرطة على بعد مسافة قصيرة من عيادة الطبيب عند خروجي منها، وما كان عليّ إلا أن أركض تجنبًا لهم”.
من جهة أخرى، يعد قانون العمل التركي من العوامل التي تزيد من أعداد المهاجرين المخالفين، إذ تفرض القوانين التركية على الشركات توظيف 5 موظفين أتراك مقابل كل موظف أجنبي، بالإضافة إلى حظر عمل الأجانب في بعض المهن كصناعة الأغطية والأحذية والبورصة وأعمال الإنارة والإصلاح والاتصالات وغيرها.
القانون أعلاه يخفض من فرص عمل اللاجئين وخاصة في الولايات الصغيرة مقارنة بإسطنبول، ما يدفع اللاجئين السوريين خاصة إلى الاستقرار بولاية تختلف عن مكان إصدار بطاقة الحماية المؤقتة.
“أردوغان يسحب البساط من تحت المعارضة”
تسعى الحكومة التركية لإقناع مواطنيها، وخصوصًا تلك الفئة التي تعيش حالة احتقان من وجود اللاجئين، أنها جادة بحربها ضد الهجرة غير النظامية، وقد وعد الرئيس التركي مواطني بلاده بأنهم سيشعرون “بالتغييرات الواضحة فيما يتعلق بالمهاجرين غير الشرعيين في وقت قصير، وقواتنا الأمنية شددت الإجراءات والأنشطة”.
أيقنت حكومة أردوغان، خصوصًا خلال فترة الانتخابات الرئاسية التي خاضتها قبل شهرين، أنه لا يمكن تجاهل الأصوات المناهضة للاجئين، إذ حصل مرشح تحالف الأجداد (أتا) سنان أوغان على 5.17%، وهو المعروف بمعاداته للاجئين ويضم حزب “النصر” بقيادة أوميت أوزداغ الذي تصب كل نشاطاته في هذا المجال.
أردوغان يسعى لسحب مسألة الهجرة غير النظامية من يد بعض أحزاب المعارضة التي تبتزه بها وتألّب الشارع عليه بسببها مع كل استحقاق انتخابي، وتواصل (أطراف من المعارضة) ربط الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد بوجود اللاجئين السوريين، ويبدو أنه (أردوغان) بهذه الحملة على الهجرة غير النظامية التي تستمر حتى نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر، يستبق انتخابات البلدية المزمع عقدها في مارس/آذار المقبل.
لطالما فتحت تركيا أبوابها أمام ملايين اللاجئين الهاربين من ويلات الحرب وقمع الطغاة، وشرّعت لهم ولأبنائهم آمالًا بحياة كريمة وآمنة ومستقرة، وتحملت لأجل ذلك مشاق وصعوبات على مدار عقد، وحظي السوريون تحديدًا بكثير من التسهيلات والاحتضان والترحاب، واستحوذت بلاد الأناضول نتيجة لهذا على تقدير دوليّ وسمعة إنسانية عارمة في العالم أجمع، فهل تسمح أنقرة لعصبة من العنصريين الذين يعتاشون على الكراهية والتحريض أن يلطخوا تلك السمعة العظيمة برضوخها لابتزازهم؟