تعدّ المخطوطات إرثًا حضاريًّا وتاريخيًّا يعكس عراقة الشعوب العربية ومدى تقدمها في شتى العلوم، وعلى المستوى الفلسطيني بمثابة أعظم الدلائل والبراهين على عروبة الأرض، ووثيقة دامغة تنفي المزاعم الإسرائيلية بأحقيتهم فيها.
كما أنها كنز عظيم من الأجداد الذين انكبّوا على العمل والتأليف والتصنيف والإبداع في فترات تاريخية طويلة، ليقدموا إلينا ثمرة نتاجهم الفكري، لذلك دأب الكثير من الباحثين والمؤرخين الفلسطينيين والعرب، العمل على حفظ المخطوطات بأشكالها ومضامينها من الضياع، وترميم ما تعرض منها للتلف.
تصنَّف مجموعة المخطوطات الأثرية في غزة واحدة من أهم المخطوطات في فلسطين، التي حاصرتها مخاطر الإهمال والسرقة والحروب التي عاشتها المدينة، ويبلغ عددها آلاف الوثائق والكتب النادرة، أقدمها يبلغ عمرها 500 عام، وتعود تلك المخطوطات إلى العصور القديمة والوسطى والإسلامية، في وقت لم تكن معروفة فيه الطباعة والنشر والتوزيع.
لمنحها عمرًا أطول
أحد المشاريع الفريدة في حفظ وترميم الوثائق والمخطوطات القديمة، هي “عيون على التراث”، بمشاركة 9 باحثات فلسطينيات تلقّين التدريب على مستوى عالٍ من الكفاءة، لمواجهة المحاولات الإسرائيلية الرامية لطمس المخطوطات وسلبها، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهميتها التراثية والتاريخية من جهة أخرى.
تقول حنين العمصي، المديرة التنفيذية لمؤسسة “عيون على التراث”، إن “فريق “عيون على التراث” يتشكل من فلسطينيات باحثات، منهن من يحملن درجة دكتوراه وماجستير وبكالوريوس بتخصصات مختلفة، تدربن على الترميم والأرشفة الرقمية وفق معايير دولية متفق عليها، وكذلك الترميم وفق آليات عالمية، حيث يتم ترميم المخطوطات في غزة كما يتم ترميم أي مخطوطة حول العالم”.
يعدّ حفظ وترميم الكتب والمخطوطات والوثائق والمحفوظات نشاطًا مخصصًا للحفاظ على العناصر ذات القيمة التاريخية والشخصية، المصنوعة أساسًا من الورق والرق والجلد، وحمايتها عند تطبيقه على التراث الثقافي، وتنفّذ أنشطة الحفظ بشكل عام من قبل المسؤول عن الترميم.
الهدف الأساسي للحفظ هو الحفاظ على العمر الحقيقي للوثائق والمحفوظات، وكذلك الحفاظ على سلامتها من خلال الحفاظ على جميع الإضافات، ويتضمّن هذا المشروع الحفاظ على المخطوطات والكتب وصيانتها صيانة وقائية، وتسعى المؤسسة أن يكون لهذا المشروع مراحل أخرى تتضمّن ترميم الورق وتجليده وحياكته، واستخدام تقنيات المواد الأخرى للمعالجة كيمائيًّا والأجهزة الحديثة.
تمرّ عملية ترميم المخطوطات بعدة مراحل، أولها الصيانة الوقائية، ثم إعداد تقارير علمية وما يسمّى حديثًا بالميتا داتا، والأرشفة الرقمية، قبل تخزين المخطوطات بصناديق كرتونية خالية من الحموضة في خزائن حديدية مخصصة، لمنحها عمرًا زمنيًّا أطول.
يقدَّر عمر أقدم مخطوطة في هذه المؤسسة بحوالي 3 قرون (1720م)، وحصل فريق الشابات على المخطوطات من عدة عائلات في قطاع غزة، بادرت بتسليمها في مسعى لترميمها والحفاظ عليها، بالإضافة إلى إنقاذ العديد من المخطوطات والمجموعات قبل العمل على إتلافها وحرقها.
تشرح الباحثة، وهي تعمل ضمن فريق الترميم على المرحلة الأولى، سماح دويمة لـ”نون بوست”، عملية الصيانة الوقائية والكشف الأولي للمواد المراد ترميمها، والتي تبدأ بفحص نوعية أوراق المخطوطة والكشف عن طبيعتها، لترميمها بالصورة المطلوبة دون إلحاق ضرر، إلى جانب اختيار الأدوات المناسبة لها وفقًا لدرجة الحموضة والحبر المستخدم فيها.
ثم تنتقل الباحثة دويمة لإعداد التقارير العملية والعلمية، وتعتبر الثانية أكثر أهمية لما تقدمه من معلومات وصفية عن كل مخطوطة أو وثيقة أو كتاب نادر، ثم تقدمها كتوصيف ورقي وإلكتروني تلخيصي، يساعد الباحثين والمهتمين على الاطّلاع بصورة سريعة على محتوى كل مخطوطة.
كما تمكّنت أخصائية الأرشفة الرقمية، أريج جريد، من تصوير المخطوطات بعد ترميمها وتنظيفها، عبر استديو خاص فائق الجودة، ووضع أرقام متسلسلة (أكواد) وفق المعايير الدولية في أرشفة المخطوطات، بالاستعانة باستشاري متخصص في عملية الأرشفة قدمَ من المكتبة الوطنية البريطانية.
تشرح جريد لـ”نون بوست” مرحلة ما بعد تصوير المخطوطات، حين يتم رفعها على موقعَين عالميَّين هما المكتبة البريطانية ومتحف هيل في أمريكا، لتكون متاحة لجميع الباحثين والمهتمين حول العالم، ثم تخزين المخطوطات بشكل ورقي من خلال صناديق كرتونية خالية من الحموضة في خزائن حديدية مخصصة.
صورة جديدة للنضال
لأن عملية الترميم معقدة وحسّاسة وتحتاج إلى نَفَس طويل، ذلك ما يفسّر اختيار طاقم الترميم من النساء فقط، كذلك قدرتهن اللامتناهية على التطوع والإبداع.
كما شكّل دافع تغيير الصورة النمطية للقطاع المحاصر، وإبراز الجانب العلمي والثقافي والتاريخي للمدينة وسكانها، حافزًا لهن في إنقاذ كل ما يمكن إنقاذه بالترميم من هذه المخطوطات، وحفظها لترى الأجيال القادمة ما خطّه الأجداد من تراث غزير ومتنوع ممتد عبر قرون طويلة من الزمن، وصورة جديدة للنضال الذي تقدمه المرأة الفلسطينية نصرة للقضية والوطن.
وتردف مشرفة المشروع لـ”نون بوست” أن المخطوطات شاهدة على تلك الحقب، حيث اكتسب الإرث الثقافي الفلسطيني موقعًا مميزًا في الحضارة الإنسانية، لما قدمه من المعرفة والعلوم اللذين ساهما في تشكيل الذاكرة التاريخية الفلسطينية.
كما أن المخطوطات أحد العناصر الأساسية في التراث العربي الإسلامي والفلسطيني، لما لديها من خصوصية في عملية التواصل الحضاري مع كل البلدان في العالم، وكونها الدليل الدامغ لنا وللأجيال القادمة على الهوية الفلسطينية الأصيلة.
تلقت الباحثات تدريبًا على قراءة وتحقيق النص المخطوط، سواء المخطوطات الكاملة أو الأوراق المتفرقة والوثائق والكتب النادرة، وكل ما يتعلق بالإرث الثقافي الفلسطيني بغزة وجنوب فلسطين.
كان التدريب بإشراف أخصائيين واستشاريين لديهم خبرات طويلة، ثم التدريب على آلية الترميم والحفاظ على هذه المخطوطات بإشراف الباحثة العمصي، الحاصلة على درجات علمية عليا متخصصة بمجال الترميم والمخطوطات والأرشفة الرقمية، ويشارف فريق الشابات على إنجاز وإكمال ما يقمن به في عملية الصيانة الوقائية للمخطوطات وإكمال عملية الأرشفة.
وبحسب المديرة التنفيذية لـ”عيون على التراث”، فقد تمكّن الفريق من إنشاء مكتبة متخصصة بالمخطوطات والوثائق ومنشورات فلسطينية أخرى في كافة المجالات، وتنفرد المؤسسة في تدريب وتأهيل الكوادر المعنية بالتحقيق ودراسة المخطوطات، وتوفيرها من كل أنحاء العالم من خلال التواصل مع مؤسسات متخصصة بالتراث الثقافي ثم توفيرها للباحثين، كما تحتضن كل من هو معنيّ بدراسة التراث الفلسطيني.
ويواجه فريق الباحثات نقصًا كبيرًا متعلق بالأدوات والآلات المستخدمة في عملية التوثيق، نتيجة للحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، والاضطرار إلى اللجوء لاستخدام بدائل أخرى تساهم إلى حدّ ما في استكمال عمل الفريق.
هذا إلى جانب تآكُل الأوراق من حشرات العث، ووصول المخطوطات بصورة رديئة غير محفوظة بطريقة سليمة لدى ملّاكها، إضافة إلى تعرض بعضها للفقد في صفحات معيّنة، حيث كل ذلك يزيد عبء مهمة الترميم والصيانة.
قيمة المخطوطات و”غزة العثمانية”
في سؤالنا عن مدى أهمية إعادة ترميم المخطوطات في توثيق تاريخ جنوب فلسطين، بما في ذلك قطاع غزة والمناطق المحيطة به من القرى والمدن التي هُجّر أصحابها عام 1948، يجيب المؤرخ وخبير المخطوطات ومدير دائرة المخطوطات والآثار في وزارة الأوقاف الفلسطينية، الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم، بالقول إن الوثائق التاريخية والمخطوطات إرث حقيقي ومصادر أولية لم تنشَر بعد، وهي مهمة جدًّا في إعادة تدوين تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني، وبالأخص تاريخ منطقة جنوب فلسطين ومدينة غزة.
حيث إن هذه المخطوطات والوثائق قد لا تتوفر في مكان آخر، لأن من كتبَها هم علماء وأبناء هذه المدينة، ومن جنوب فلسطين والقرى المحيطة بمدينة غزة، كذلك كونها تضاهي في ندرتها أهم المخطوطات الموجودة بالمكتبات المنتشرة حول العالم.
ويضيف خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن عملية الترميم تعتبر إعادة الحياة للمخطوطة وتقديمها أيضًا للأجيال الصاعدة والقادمة، لمدة تزيد عن 5 قرون في المستقبل، من دون الترميم لن نجد تلك المخطوطات مستقبلًا، لأنها تتعرض لعوامل الطبيعة التي تساهم في اندثارها، هذا غير تعرضها للسرقة والإهمال”.
نجح الخبير أبو هاشم في إحياء مخطوطة عثمانية يزيد عمرها على 160 عامًا، عبر نشرها ودراستها لتتحول إلى أحد أهم المراجع التي توثّق تاريخ مدينة غزة بالعهد العثماني، تحت اسم “غزة العثمانية”.
المخطوطة من سجلّات المحاكم الشرعية بقطاع غزة، وهي سجلّ نادر كما أنه المتبقي منذ ذلك الوقت، لأن أغلب السجلّات والوثائق بغزة قد أُبيدت وتعرضت للحرق والدمار أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1917 وما تلاه، حين دمّر الجيش البريطاني مدينة غزة وقت كانت ساحة حرب.
وقضى خبير المخطوطات أكثر من 5 أعوام في تحقيق ودراسة وطباعة مخطوطة عثمانية لسجلّ محكمة غزة الشرعية، للفترة بين عامَي 1856-1860م/ 1273-1277هـ، الذي يوثق مئات القضايا والقوانين العثمانية والأوامر السلطانية لحكّام غزة آنذاك، وعقود البيع والشراء ومعاملات الزواج والطلاق والمواريث والوقف.
ويقول أبو هاشم إن “الباحثين سيجدون في الكتاب سجلّات ووثائق تسدّ ثغرة كبيرة، وتساعدهم في إجراء دراسات اجتماعية واقتصادية وسياسية حول مدينة غزة في أواخر عهد الدولة العثمانية”، مشددًا على أن السجلّات والوثائق والمخطوطات والصكوك والعقود، تعدّ من أهم المصادر لعملية التأريخ لأي مدينة في الفترة العثمانية وما بعدها.
أثر الاحتلال
لم تسلم تلك الجهود، كغيرها من المكتبات والمتاحف الأثرية والمخطوطات والكتب الفلسطينية التراثية العريقة، من الاستهداف من قبل دائرة السلطات الإسرائيلية، التي تعمل على نهب الإرث الثقافي والتراثي الفلسطيني، ومن القصف الإسرائيلي الذي يستهدف المؤسسات الحكومية والخاصة، التي تحتفظ بالعديد من الأوراق والوثائق والمراسلات القديمة.
فقد أشارت الباحثة العمصي إلى فقدان 30% من جهد مؤسستها نتيجة تضرر المكان من قصف الاحتلال الإسرائيلي لمبانٍ مجاورة، خلال موجات التصعيد الأخيرة على القطاع، “لكن هذا لم يثنِ عزيمتنا بل زادنا همةً وتحديًا لهذا الاحتلال، الذي يحاول دثر تاريخنا على هذه الأرض”.
ويقول مدير دائرة المخطوطات والآثار بوزارة الأوقاف الدينية، إنه لا يوجد مكان آمن في مدينة غزة، فهذه المدينة كأنها تدفع ثمن أهميتها ووجودها، فهي مدينة ذات موقع استراتيجي لا يوجد غازٍ أو محتل إلا تمركز فيها، لأنه يعلم أنه من دون السيطرة على هذه المدينة لا يمكن السيطرة على باقي المدن الفلسطينية، والدليل حين لم يستطع الاحتلال البريطاني دخول أي مدينة فلسطينية، قبل قدرته على احتلال المدينة.
وفي المقابل، أثبتت الوثائق أنه لم تكن هناك مقاومة مثلما كانت بمدينة غزة، من بينها رسائل للقائد البريطاني بأن معركة غزة هي معركة القدس.
ويقول أبو هاشم إن الإسرائيليين يعرفون مصدر القوة التي تحكيها الرواية العربية الصحيحة، لذلك يحاولون باستمرار طمس المخطوطات وإخفاءها.
ويوضّح أن “ثلاثة أرباع المخطوطات والكتب التاريخية النادرة لا نستطيع الاستفادة منها، لما وصلت إليه من حالة مزرية نتيجة الإهمال والحروب الإسرائيلية المتتالية على المدينة والعوامل الجوية، كما استولى الاحتلال على مئات المكاتب الفلسطينية والآلاف من المخطوطات، وقام بإيداعها في مكتباته”.
كما أن كثيرًا من هذه المكتبات الفلسطينية القديمة تبددت بفعل السرقة والاحتلال، وانتقلت محتويات منها خلال الحملة الفرنسية والانتداب البريطاني إلى مكتبات في باريس ولندن، من أهمها مصحف أثري كبير كتبه أحد علماء مدينة غزة، الشيخ أحمد شعشاعة العلمي، وسرقه جنرال بريطاني، قبل أن تنجح مصر في إعادته إلى غزة بعد حوالي 60 عامًا.