ترجمة وتحرير: نون بوست
في ليبيا التي يمزقها الصراع؛ تستغل سوريا بزعامة بشار الأسد الوضع بسعادة؛ حيث ألقت دمشق بثقلها وراء المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، الذي ينطلق من بنغازي. ومن المؤشرات على تعزيز هذا التحالف ملاحظة وجود طائرتين من سلاح الجو السوري من طراز إليوشن IL-76-T في عدة مناسبات في الأشهر الأخيرة على مدرج مطار بنينا في العاصمة الإقليمية برقة.
تقوم طائرات النقل العسكرية هذه الآن برحلات منتظمة ذهابًا وإيابًا، وتقوم أحيانًا بالتحويل عبر إيران، الحليف القديم لنظام دمشق، قبل أن تحلق عائدة فوق البحر الأبيض المتوسط؛ حيث توقفت إحداها في 16 شباط/فبراير في كرمانشاه، على بعد بضع عشرات من الكيلومترات من قاعدة جوية إيرانية تحت الأرض معروفة بتخزينها لطائرات الاستطلاع والقتال المسيرة، ثم انطلقت مرة أخرى بعد يومين متوجهة إلى بنغازي.
ركاب أجنحة الشام الخاصة
في صراعه على السلطة ضد حكومة طرابلس المعترف بها من قبل الأمم المتحدة؛ أقام حفتر علاقات غالبًا ما تكون على خلاف مع حلفائه الأمريكيين والفرنسيين السابقين، وكان هذا هو الحال مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين والقوات شبه العسكرية التابعة لفاغنر، الذين قدموا له دعمًا حاسمًا منذ عام 2017 فصاعدًا، ثم مع سوريا الأسد. هذه الإستراتيجية، التي أزعجت واشنطن والغرب بشكل عام؛ مكّنت حفتر من النجاة من عدة انتكاسات عسكرية، مثل عامي 2020 و2021، واستعادة المبادرة.
في غضون ذلك؛ بالنسبة لسوريا، على الرغم من أن هذا التقارب يزيد من العزلة الدبلوماسية للنظام، إلا أنه يوفر فرصًا تجارية لعدد لا يحصى من رجال الأعمال من داخل دائرة الأسد المقربة؛ حيث تنوعت الأعمال التجارية بين دمشق وبنغازي وتعززت تدريجيًّا على مدى السنوات القليلة الماضية، وأقيمت العلاقات في أروقة السلطة. في الواقع؛ يقوم بعض ممثليهم بالانتقال بانتظام من عاصمة إلى أخرى، كما هو الحال عندما سافر ماهر الأسد – وهو عضو رئيسي في نظام شقيقه الأكبر بشار – في أيلول/سبتمبر 2022 إلى بنغازي على متن طائرة من طراز A320 تابعة لشركة أجنحة الشام للطيران السوري.
لقاء سري لصدام حفتر
ماهر الأسد، الرجل الأقوى في القوات المسلحة السورية، والذي يرأس الفرقة الرابعة، وهي الأفضل تجهيزًا، فضل اختيار درجة رجال الأعمال في شركة طيران تجارية بدلًا من المخاطرة بالتعرف عليه في طائرة نفاثة. وبين عامي 2019 و2020؛ قامت طائرة فالكون 50 التي تستخدمها عشيرة حفتر بعدة رحلات إلى دمشق. في بنغازي، العاصمة الإقليمية لشرق ليبيا، التقى ماهر الأسد بصدام حفتر، نجل المشير الأبرز، وهو رجل أعمال يتمتع بشبكة دبلوماسية واسعة ومعدات عسكرية واسعة النطاق، وقد استفاد فريقه العسكري بشكل كبير من دعم مليشيات فاغنر، وعُقِدَ الاجتماع في سرية تامة لإتمام الشراكة التي أقيمت بين العائلتين والتي تعود إلى عام 2017.
في ذلك الوقت؛ كان الكيروسين ينفد من سلاح الجو العسكري السوري نتيجة لهجمات الثوار على مصفاة حمص التي تنتج وقود الطائرات. في غضون ذلك، اشتبهت مجموعة من خبراء الأمم المتحدة في أن عائلة حفتر ساعدت في سحب الكيروسين المنتج في مصفاة مرسى البريقة في ليبيا إلى سوريا.
دخول موسكو
لم تتبلور العلاقة بين ليبيا (حفتر) وسوريا (الأسد) حقًا حتى عام 2018. ففي حزيران/يونيو من ذلك العام، بدأ الجيش السوري في استعادة أجزاء من أراضيه كانت لا تزال تحت سيطرة الثوار. وبشكل أكثر تحديدًا في درعا، وهي بلدة تقع في الجنوب بالقرب من الحدود الأردنية، محاطة ببساتين الزيتون وتنتشر فيها مختبرات الكبتاغون المخدرة؛ حيث كانت القوات النظامية تقود الهجوم.
في مواجهة القوة النارية الساحقة، لم يكن أمام الثوار خيار سوى الفرار أو الاستسلام، وانتهى الأمر بالعديد منهم إلى صفوف الفيلق الخامس في الجيش السوري، الذي يرأسه ضباط روس. وتبين أن اندماجهم كان هبة من السماء لأغراض موسكو الخاصة. كداعم لحفتر- الذي شن في نيسان/أبريل 2019 هجومًا كبيرًا للانتصار على طرابلس دون جدوى – استخدم نظام بوتين هذا الإمداد بالرجال لدعم قوات الجيش الوطني الليبي، ورتبت موسكو لنقل المتمردين السابقين إلى صفوف الشركات العسكرية السورية الخاصة المدعومة من مجموعة فاغنر، التي أرسلتهم بعد ذلك إلى الجبهة الليبية.
إحدى الشركات التي حققت أداءً جيدًا بشكل خاص للخروج من الموقف هي شركة سند لخدمات الحماية والأمن، والتي تخصصت في الأصل في تأمين قوافل الفوسفات المستخرجة من منجم الشرقية (في الشمال الغربي، والتي تديرها شركة سترويترانس غاز الروسية) إلى ميناء طرطوس الذي تديره البحرية الروسية. ومنذ عام 2022؛ تخضع خدمات سند للحماية والأمن لعقوبات الاتحاد الأوروبي لنشر أفراد عسكريين خاصين في شرق ليبيا.
قوة ردع من 2000 جندي خاص
شركة سند لخدمات الحماية والأمن مملوكة بشكل مشترك للجنرال السوري ناصر ديب المقرب من عائلة الأسد ورجل الأعمال أحمد خليل خليل، والأخير رجل ثري سوري ينتمي إلى الدائرة المقربة من السيدة الأولى ذات النفوذ أسماء الأسد، وكان له دور فعال في عزل الملياردير رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد الذي سقط منذ ذلك الحين من سلطته؛ حيث كان يدير شركة شام القابضة. من خلال أجنحة الشام، إحدى الشركات التابعة لها، تمكنت شام القابضة من توفير النقل للقوات العسكرية الخاصة في شرق ليبيا، مما ساعد على تعزيز العلاقات بين دمشق وبنغازي.
أدّى الهجوم الفاشل الذي شنّه حفتر في طرابلس (غرب البلاد) سنة 2021 إلى خفض عدد هذه القوات التي تصل إلى برقة على متن طائرات شركة “أجنحة الشام” للطيران، التي يخضع رئيسها عصام شموط لعقوبات الاتحاد الأوروبي أيضًا. وأعيد توجيه مئات المقاتلين الذي كانوا منتشرين في ليبيا إلى الجبهة الأوكرانية أو إلى جمهورية إفريقيا الوسطى. لكن ما يقارب 2000 جندي ما زالوا يشكّلون رادعًا في ليبيا، بعضهم يتمركزون في قاعدة الجفرة العسكرية (التي تقع على بعد 100 كيلومتر جنوب سرت) بينما البعض الآخر في معسكرات صغيرة حول مناطق إنتاج النفط وميناء رأس لانوف.
تنوّع المسافرون الذي تُقلهم “أجنحة الشام” إلى برقة في الأشهر الأخيرة، بوجود عدد أقل من الأفراد التابعين للشركات العسكرية الخاصة مقابل المزيد من المهاجرين. وبفضل الرحلات الجويّة المنتظمة بين دمشق وبنينا، أصبحت بنغازي موطنًا لجالية سوريّة متنامية يبلغ تعدادها ما يقارب 10 آلاف شخص وفقًا لمصادرنا. وبالنظر إلى قربها من الساحل الأوروبي مع توفّر فرصة الحصول على مستوى معيشي أفضل مما هو عليه الحال في سوريا، أصبحت هذه المدينة مركزًا جديدًا للهجرة إلى أوروبا.
خفر السواحل يغض الطرف
يمثّل طريق الهجرة الجديد من دمشق إلى بنغازي مصدر قلق للسلطات الأوروبية التي لاحظت تزايد عدد المهاجرين من أصول بنغالية وباكستانية. ورغم كونهم مهاجرين غير شرعيين، يدخل هؤلاء الأراضي الليبية بحريّة عبر مطار بنينا الخاضع لقوات صدام حفتر، ثم ينقلهم المهرّبون بعد ذلك إلى ميناء طبرق الذي تكون فيه الرقابة أقل من بنغازي. ونادرًا ما يتم اعتراض القوارب المغادرة من هذا الميناء من قبل القوات البحرية التابعة للجيش الوطني الليبي بقيادة المقدّم التواتي المنفي.
وعلى غرار المهاجرين السوريّين، لا خيار أمام المهاجرين القادمين من شبه القارة الهندية سوى العمل في ليبيا للدفع مقابل عبور البحر الأبيض المتوسط. يعمل بعضهم لدى شركة “أكاكوس” للمقاولات والاستثمار العقاري، وهي شركة بناء ليبية يشتهر مديرها عثمان غفير بقربه من عشيرة حفتر. ووفقًا لمصادرنا، فإن العمل المعني – بما في ذلك ترميم الجسور التي دمرت خلال الحرب – مُنح له في إطار اتفاق متبادل من قبل لجنة إعادة الإعمار والاستقرار، وهي هيئة تحت سيطرة حفتر أيضًا.
طريق بحري مربح
مثلما هو الحال مع رحلات شركة “أجنحة الشام” للطيران، تمثّل الطرق البحرية صميم العلاقة والأعمال بين دمشق وبنغازي. وتخضع أيّ تحركات مشبوهة للسفن بين البلدين في البحر الأبيض المتوسط للتدقيق من قبل أجهزة الأمن الأوروبية وخبراء الأمم المتحدة، الذين يحاولون رصد حالات الاتجار – سواء في الوقود أو المواد الخام أو الكبتاغون، الذي تعتبر سوريا المنتج الأول له في العالم.
اكتسب النقل بحرًا أهميّة خاصة في سنة 2018 بعد افتتاح شركة “الطير” للشحن الدولي والتجارة العامة خطًا بحريًا يربط بين اللاذقية وبنغازي، وأقيم عندها حفل أثار ضجة كبيرة. كان ذلك ممكنًا بفضل تدخّل الراحلة فوزية الفرجاني من الجانب الليبي. كانت الفرجاني، التي توفيت في وقت سابق من هذه السنة، مستشارةً للواء عبد الرزاق الناظوري، رئيس الأركان العامة للجيش الوطني الليبي، الذي كان رئيسًا لفرع مجلس أصحاب الأعمال الليبي في بنغازي.
أمّا على الجانب السوري، كان لرجل الأعمال ورئيس اتحاد المصدرين السوريّين محمد السواح دور فعّال في هذه الصفقة، إلى جانب رجل الأعمال محمد حمشو – المعروف بأنه مُقرّب من ماهر الأسد، وكان أحد اللاعبين الرئيسيين في إبقاء قنوات التجارة السورية مفتوحة دوليًا. ازدهت أعمال السواح بشكل خاص في قطاع النسيج، مستفيدًا من الإعفاءات الضريبية من نظام دمشق لاستيراد المنسوجات قبل إعادة تصديرها إلى الدول العربية. ومنذ أوّل رحلة بحريّة بين اللاذقية وبنغازي، صدّر ما يقارب 300 طن من الملابس إلى شرق ليبيا.
صقر بمليون دولار
إن تطوير التجارة البحرية يُدرّ أرباحًا طائلة على تجار الكبتاغون. ونظرا لتشبّع أسواق الخليج، فإن طريق شرق ليبيا يتيح لهم فرصًا للتوسّع في جنوب أوروبا. ويُشتبه في أن شركة “الطير” للشحن الدولي لعبت دورًا رئيسيًا في نمو التجارة المشبوهة. ففي كانون الأول/ ديسمبر 2018، اعترضت القوات اليونانية سفينة تحمل بضائع نيابةً عنها كانت في طريقها إلى بنغازي ليتبيّن أنه على متنها شحنةٌ بأكثر من 3 ملايين قرص كابتاغون.
في ليبيا، انتشر هذا العقار في أحياء معينة من بنغازي مثل أبو حديمة، حيث يُباع “كوكايين الفقراء” في وضح النهار. تشير عدة مصادر في الأمم المتحدة والمجتمع المدني إلى الدور المزعوم الذي لعبه حاتم بوغيلا في هذه التجارة المشبوهة. في كانون الثاني/ يناير، افتتح رجل الأعمال الذي ينحدر من طبرق أحد أكبر مراكز التسوق في البلاد “ليبيا مول” في بنغازي، حيث من المعروف أن السلطات لا تتدخل في أعماله. وقد أهدى مؤخرًا صدام حفتر صقرًا اشتراه بنحو مليون دولار. وتجدر الإشارة إلى أن فريق “أفريكا إنتاليجنس” حاول الاتصال ببوغيلا عبر عدد من القنوات دون جدوى.
يُدير كبار مسؤولي النظام السوري عمليّات التهريب في دمشق. وفي آذار/ مارس، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية أن ماهر الأسد على رأس هذه الشبكة إلى جانب أبناء عمومته سامر كمال الأسد ووسيم بديع الأسد. واحتكار النظام السوري لهذه التجارة يوفّر له مصدرًا للعملة الأجنبية بينما لا تزال سوريا تحت وطأة عقوبات المجتمع الدولي. وفي غضون ذلك، لا تزال الأزمة السياسية العسكرية التي لا نهاية لها في ليبيا والعلاقة الناشئة مع عشيرة حفتر مربحةً بشكل خاص.
المصدر: أفريكا إنتاليجنس